الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نقض مفهوم اللحظة لدي أيكارت

هيبت بافي حلبجة

2013 / 7 / 25
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع



إن الإطروحات التي تقدم بها غونسالفي حول أولوية الإرادة على المعرفة راعت أيكارت ( 1260 – 1327 ) إلى درجة كبيرة ، فوجد نفسه مضطراُ للدفاع عن المعرفة التي أعلن أولويتها على الإرادة ، ولم يكتف بذلك ، بل أعلن أولويتها على الوجود ، وقال جملته المعروفة عنه والتي أختزلت مساحة واسعة من منظومته ( أن تعرف هو أنبل من أن تكون ) .
أيكارت ( أيكهارت ، المعلم أيكارت ، الألماني الدومنيكاني ) الذي تأثر إلى درجة بعيدة بقوة الطبيعة في وجدان أرسطو ، أنبهر بروح الموضوعية في كتاباته وقوة المنطق في جدليته ( الصورية ) ، وأعتبره المؤسس الحقيقي لذهنية واقعية كما هي ، كما هي خارج التدخل القسري في تفسير حيثياتها ، كما هي وكأنها تسلسل زماني مكاني هيولاتي صوري غائي .
وهذا الأنبهار أصل في أعماق ذهنه سطوة المعرفة ، سطوة العقل ، العقل الميكانيكي وليس الجدلي ، المعرفة الميكانيكية وليست الديالكتيكية ، لذلك جعل مفهوم الإرادة والوجود تالياُ للمعرفة ، تالياُ للعقل ، وهاهو يؤكد إن ( ما الوجود إلا عتبة المنزل ، أنه البوابة التي تفضي إلى الرب ، أنه دالة مكانية حيث تتصل بكل الأشياء ، أما العقل فهو المحراب الذي يلبث الرب فيه وحيداُ في سطوع قدسيته ) .
وهو يقصد إن العقل الذي يتخطى الإرادة ( قوة الإعتقاد ) والوجود ( قوة الإمكان ) يكشف عن الرب في خاصيته ، في نقائه ، أي الرب كما هو في ربوبيته ، وهاهو يؤكد في مؤلفه ، خطاب التمييز ( إن الإرادة لاتدرك الرب إلا من خلال شكل الطيبة ، لكن العقل يدركه كما هو ، مجرداُ من الطيبة ومن الوجود ) .
وفي الحقيقة ، ولا مناص من التنويه المسبق ، أنه لايقصد بالعقل العقل الباحث ، العقل الذي يتكون ، العقل الذي يشك ليؤصل معرفياُ ، هو لايقصد بالعقل العقل الهيجلي ولا حتى العقل الأرسطوي ، هو يقترب من العقل الأفلاطوني ، العقل الذي يؤمن بالمثل ، العقل الخاص الذي يوازي الرب الخاص .
وفي الواقع هو مضطر لأقرار هذه الرؤيا ، لأقرار هذا النوع من العقل ، هذا النوع من المعرفة ، لإن أساس الفكرة لديه هو الرب نفسه ، الرب كما هو ، وليس إرادته ولا حتى محتوى وجوده ولا معرفته ، وطالما هو يتصور الرب على تلك الشاكلة ، فلقد رأينا قوله بخصوص الإنسان ( أن تعرف هو أنبل أن تكون ) لإن هكذا رب يفرض علينا نوع المعرفة أو العقل لبلوغه ، وليس نوع الإرادة ولا حتى محتوى أو فحوى الوجود .
وهذه قضية بديهية طالما هو يعتقد إن الرب هو الذي يمنح الكائنات خاصيتها ، وكأنه يعيرها لها إعارة كما تعير الشمس نورها ليسطع أنى بلغ ، فالشمس ( التي تكتفي بإعارة نورها ) لاتفعل ذلك إلا من خلال جوهر طبيعتها ، لإن نورها هو صميمي داخلي لكنه ، وفي نفس الوقت ، جوهر خارج الشمس بعد حدوثه رغم تبعية ديمومته لبقاء الشمس ، وهذا ما يلجنا ، بطريقة أو بأخرى ، في مصيدة وحدة الوجود التي وقع فيها أبن العربي ( 1165 – 1240 ) الذي غامر ، إلى درجة الجنون وإلى درجة الذكاء الحاد والإدراك النوعي البصير في نفس المعنى ، عندما شبه هذه القضية بمسألة المرآة التي لاتعكس فقط ماتراه إنما تجعل منه وجوداُ يعتاز في أستمراريته على أستمرارية ما تراه ، أي هو الأتحاد ما بين الداخلي والخارجي من منظور أبن العربي من الزاوية الأنطولوجية ، وهو غنى الداخلي وأفتقار الخارجي إلى الوجود من منظور أيكارت وأبن العربي معاُ .
لكن ما هو هذا الأفتقار لدى أيكارت ؟ دعونا نقترب أكثر من بؤرة المفهوم ، أيكارت يمزج ما بين ثلاثة أمور متكاملة على صعيد مفهوم اللحظة وكذلك الأفتقار ، أولاُ : الرب كما هو في ربوبيته ، الرب الذي هو خارج كل شيء وداخل في كل شيء ، ثانياُ : اللارب الذي هو بمثابة النور للشمس والذي يحتاج إلى الرب ليستمر في حالة اللارب ، ثالثاُ : كل من ( يخرج ) عن ديمومة الرب يفقد أفتقاره وبالتالي يغدو لاوجوداُ ، مثل الشيطان الذي تمرد على الرب ، فحسب أيكارت ، فلم يعد موجوداً لإنه فقد أفتقاره إلى الرب ، الأمر الذي أستهجنته الكنسية أستهجاناُ كبيراً.
ماذا يعني كل ذلك ، هل نحن إزاء فوضى في الكلام ، بالتأكيد لا ، أنظروا إلى ما يقوله أيكارت ( الرب ليس فقط أباً لكل الأشياء الخيرة ، لأنه سببها الأول وخالقها ، لكنه أيضاً أم لكل الأشياء ، لأنه يبقى بالمخلوقات التي تستمد كيانها ووجودها منه ، ويبقيها دائماً في وجودها ، فلولم يبق الرب مع وفي المخلوقات لكانت قد عادت ثانية إلى حالة العدم الذي خلقت منه ) .
بل إنه يذهب أبعد من ذلك ، فها هو يقول ( الإنسان يستعيد في هذا الفقر الوجودي الأبدي الذي كان عليه ، والذي هو عليه الآن ، والذي سوف يظل فيه إلى الأبد ) .
إذا ما أدركنا بعمق نقاط التمركز الأساسية في هذه الرؤيا ، لن نستغرب مطلقاُ قول المعلم أيكارت الذي يؤكد إن الإنسان هو ، في آن واحد ، الرب والعدم ، وإن الرب ليس إلا إله الحاضر ، والعدم هو فقدان حالة الأفتقار التي هي شرط الإمكان .
وأنطلاقاٌ من إن الرب ليس إلا إله الحاضر ، يترآى لنا مفهوم اللحظة ، تلك اللحظة التي تجد أساسها لدى أفلاطون في مؤلفه المأدبة ( أوليس الجميل في ذاته يظهر فجأة ) ، والتي تلقفها المعلم أيكارت ليبني عليها عمقاً في الفكر وفي التاريخ ( إن أقلكم شأناً يمكن أن يتلقى تلك الهبة من الرب ، وهذا قبل أن يخرج من هذه الكنيسة ، بل وحتى وأنا ما أزال أقوم بالموعظة ) .
فإذا ما ألتقت ومضات من روح الإنسان مع الإرادة الإلهية ، فيمكن أن تحدث أي معجزة خارقة لاتخص الشخص لوحده بل قد تتعداه إلى البشرية كلها ، لإن تحقق ذلك هو منحة من الرب بغض الطرف عن موقع الشخص ، وعن حالته ، وعن أخطائه ، وعن ماضيه ، وعن إرادته .
ويضرب أيكارت مثالاً تاريخياُ على كيفية تحقق مفهوم اللحظة بما جرى مع القديس بولس الرسول على طريق دمشق ، وبما إن لهذه القصة دوراً قاتلاُ في مجريات الأمور منذئذ وحتى الآن ، فأحبذ أن أسرد حقيقتها ، وهاكموها : بينما كان شاؤول في طريقه إلى دمشق مع ثلة من أصحابه أبرقت السماء على حين غرة فهوى على الأرض وإذا بصوت يناديه : شاؤول ، لماذا تضطهدني ؟ ، فرد عليه : من أنت ؟ فأجاب الصوت : أنا المسيح الرب ، فرد عليه شاؤول : وماذا علي أن أفعل ؟ فأجابه الصوت : أذهب إلى دمشق حيث هناك من سيسرد عليك مهمتك .
القصة كلها ملفقة تاريخياُ بأستثناء السفر إلى دمشق ، لإن شاؤول هذا ( القديس بولس الرسول فيما بعد ) كان يضطهد المسيحيين الحقيقيين ولم يكن مسيحياُ أبدأ ، ولم ير سيدنا المسيح ( عليه السلام ) مطلقاُ ، وكان في مهمة سياسية من قبل روما للقبض على بعض المسيحيين في دمشق ، وأبتكر هذه القصة ليجعل من نفسه الرسول الحقيقي بأسم المسيحيين وأنهى كل معتقدات سيدنا المسيح ( عليه السلام ) ، وأنشأ المسيحية الحالية ، وأصبح منذئذ المسيح والرب والعقيدة ويخطب في التجمعات كيفما أتفق ، وهذه القصة طويلة جداُ وتتضمن العشرات من التناقضات على كافة المستويات .
والآن يمكننا أن نرد على المعلم أيكارت على الشكل التالي :
النقد الأول : رغم أنه يدعي تأسيس منظومته على المعرفة والعقل ، وأولويتهما على مضمون الإرادة والوجود ، فلقد أصلها حصراً على محتوى الإعتقاد ( العقل الغائب ) الذي أنحصر في لاهوتية عقيمة جامدة لاتستطيع أن تتفاعل مع جدلية أي القضية كانت ، وهو حينما يتحدث عن مقولتي المعرفة والعقل هو لا يقصدهما بالمعنى الحيوي الموضوعي ، لإنه يفرض عليهما شروط أعتقاده ، شروط لاهوته الخاص ، وكأنه يستخدمهما كإطار فارغ ليملئهما بما تضمخ ( بضم التاء ) .
ومن تلك الأفكار التي تطيح بسلطة ( المعرفة والعقل ) هو أعتقاده إن الرب الذي هو ( صفوة الوجود ، نقاوة الوجود ) ينبغي أن يوجد فيما وراء الوجود نفسه ، أنظروا إلى ما يقوله في مؤلفه شروحات نصوصية ( إن بعض المعلمين الفظين يزعمون إن الرب كائن صرف ، لكنه فوق الوجود بالمطلق كما يكون الملاك الأسمى فوق الذبابة ، وأشدد فأقول : إذا سميت الرب كائناً ، فإن ذلك خطاً فاحشاً كما لو زعمت إن الشمس باهتة أو سوداء ) .
النقد الثاني : مفهوم اللحظة يتناقض مع المعتقد الإلهي الثابت نوعا ما ، حتى لو كانت اللحظة نفسها تعبر عن سلطة الرب ، وأطلاقيته ، حتى لو كانت أحدى خصائصه ، لإن هذا المفهوم أعتباطي جزافي لايستقيم مع أبسط مقومات الموضوعي في الطبيعة أو في التاريخ ، لأنها تحدث شرخاً رهيباُ في مفهوم ( العلاقة ) وتفرض على الجميع ، الكائنات ، الوجود ، ذاتية قد تقلب الموازين ، ذاتية قد تطيح بها ذاتية أخرى ، كما هي الحال لدى القديس بولس الرسول ، فحتى لو كانت قصته حقيقية ، فإنه قد أطاح بكل تعاليم سيدنا المسيح ( عليه السلام ) ، وهكذا نكون إزاء معضلة على صعيد المعتقد ، وعلى صعيد الفكر العام ، وحتى على صعيد السوسيولوجي .
النقد الثالث : لايستقيم محتوى اللحظة مع الرب الذي هو العقل والذي يعرفه أيكارت ( إن ما يتسبب في سعادتي ليس إن الرب هو الطيبة ، بل لأنه فقط العقل وأني أعرفه ) ، إذا كان الرب هو فعلاُ العقل وأيكارت يعرفه فما هو الداعي إلى مفهوم اللحظة !! ثم كيف يمكن لمن يملك ( اللحظة ) أن نعرفه حتى لو كان الرب نفسه ، والعقل ذاته ، أفلا يحس أيكارت ، هنا ، متى التناقض مابين ( العقل والمعرفة ) و ( اللحظة ) ، عدا وخلا أن يكون العقل نفسه لحظياُ !! وفي أحسن الأحوال ، إذا أمكن لإيكارت أن يعرف صاحب اللحظة فمن المستحيل أن يعرف لحظة الصاحب !! وهذا يكفي لوحده لألغاء فكرة اللحظة .
النقد الرابع : إذا كان الرب هو ما وراء الوجود ، وكان الوجود هو حالة الأفتقار ، وكانت الكائنات بمثابة النور إلى الشمس ( الرب) ، فلا أدري فعلاُ كيف يمكن للحظة أن تتدخل ما بين الشمس ونورها ، ومن المستحيل أن يكون لها أي وجود أو دور أو قيمة . لذلك أعتقد إن أيكارت كان أسير أعتقاده ( النقد الأول ) إلى درجة كبيرة ، وأتكأ في الحالة الأولى ( ماوراء الوجود ، حالة الأفتقار ) على عكس ما أتكأ عليه في الحالة الثاني ( مفهوم اللحظة ) ، أي أتكأ على الفكرة المجردة للرب في ربوبيته في الحالة الأولى ، وعلى الواقع العملي للتجربة البشرية وعلاقته بالرب المعنوي ( سيدنا المسيح عليه السلام ، والقديس بولس الرسول ) في الحالة الثانية . وإلى اللقاء في الحلقة السادسة والعشرين ، وسنعود حتماٌ إلى مفهوم المرآة لدى أبن العربي .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تعليق
عبد الله خلف ( 2013 / 7 / 26 - 17:23 )
1- الله موجود , و هو خارج الزمان و المكان .
2- المسيحيّه معتقد هشّ , و سبب الهشاشه هو التحريف , عقيده وثنيّه حتى النخاع! .

اخر الافلام

.. لماذا هجمات الحوثيين دقيقة في خليج عدن؟.. محرر الشؤون اليمني


.. قرشي: أي مواطن يحمل السلاح في وجه قوات الدعم السريع فإنه يعت




.. تجدد الغارات الإسرائيلية على مخيم النصيرات في وسط قطاع غزة


.. مجلس التعاون الخليجي: مقتل وإصابة المئات في النصيرات جريمة ن




.. نشرة 8 غرينتش | مصادر أميركية: خلية بالسفارة ساعدت إسرائيل..