الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من أيمار الى لاهاي

صلاح سليم علي
(Salah Salim Ali)

2013 / 7 / 25
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات



التاريخ بيت العبر ..نلجأ اليه لمقارنة احوالنا في الحاضر بأحوال الأسلاف في الأزمنة الغابرة ولاسيما عندما تتردى بنا الأوضاع وتحيق بنا شرور لاقبل لنا بها يتلاشى معها بصيص الأمل وتضيق في معمعانها فرص الحياة...وتطرح مشكلة حركة التاريخ نفسها كمعضلة فلسفية وهي هل للتاريخ غائية يمتلك الإنسان زمامها أم أن التاريخ ميدان لحركة القوى العشوائية؟ وبالتالي هل لحركة التاريخ علاقة بمفهوم التقدم بالمعنى الإنساني؟ اي هل ان المستقبل بالضرورة افضل من الماضي من جراء تقدم المعرفة وتطور الوعي وازدهار العلوم وما إلى ذلك؟ أم هو كما قال هيجل عود الى البربرية؟ ..غير أن ماحدث في العراق يضع مشكلة التقدم وحركة التاريخ في معظلة حقيقية لايمكن تفسيرها الا في سياق علم الفوضى ..فوضى العقل وفوضى المجتمع وفوضى الفيزياء أو [الأنتروبيا] كما وضع قانونها بولتزمان وادورد لورنز فيما اطلق عليه الأخير بتاثير الفراشة!

وببساطة فنحن لسنا بحاجة الى التوغل بعلوم الفيزياء والدايناميكيا الحرارية واحتمال اعتماد المخطط الأميركي الصهيوني على المؤسسة الأكاديمية في الفيزياء او على اسماء بذاتها كبرنارد لويس وروفائيل بطي وغيرهما في تصديره الفوضى الى العراق وعكس حركة التاريخ بأسرها.. يكفي ان نتجول ذهنيا او فعليا في عاصمة ك [لاهاي] ونقرا عن مدينة عراقية قديمة على شاطيء الفرات في مجراه السوري ك[أيمار] لمعرفة الجواب على معضلة حركة التاريخ بقدر تعلق تلك الحركة بالتقدم..ولنبدأ ب [لاهاي]، وتلك بداية تتعارض مع توقعات القاريء ولكنها تستجيب للفكرة الرئيسة للموضوع وهي حركة التاريخ ومفهوم التقدم..

لاهاي:

لاهاي [العاصمة السياسية لهولندة]، كلمة شائعة في الوطن العربي ربما أكثر من شيوعها في أوربا..وهي شائعة في العراق وربما في الموصل اكثر من شيوعها في الغرب كله..ولمعرفة السبب لم اكتف بالقراءة عنها بل قمت بزيارتها شخصيا وطلبت من صديق لي من اهل الموصل يقيم في جنوب المدينة الهولندية ان ياخذني الى جامعة لاهاي التي يطلق عليها (الحرة) احيانا و(المفتوحة) احيانا اخرى.. ولم اكن اعرف بوضوح ماتعني كلمة [حرة] عندما تلصق بمؤسسة الجامعة هل تعني ان الدخول اليها غير مقيد أم ان مناهجها حرة ام أن اساتذتها أحرار؟ أم أنها حرة بالمعنى السلبي الذي صدره الغرب للشرق من حريات لم نر فيها غير القتل والنهب والخرائب والدمار وضياع الوطن والسيادة وهلاك الحرث والنسل؟ أما كلمة (مفتوحة) فلاعناء في فهمها لأنها مفتوحة لمن يريد ان يدخلها او يسجل فيها أو لأنها مفتوحة كباب أو شباك أو مطعم ..ولعلها مفتوحة للتوريط فالكلمة تسهيلية ولكنها لاتخلومن توريط فمن يدخل يعلق قدمه او جيبه بفخ لامخرج منه إلا بشهادة...سألت صديقي ان ياخذني اليها فدخل في سيارته شارعا أشبه بشارع المعارض في الموصل ولكنه شارع حديث فيه اناقة هولندة ونظامها...فنزلنا من السيارة واشار الى مكان بالقرب من محل من الشبابيك الزجاجية في داخله سيارات حديثة..وقال مبتسما:هذه لاهاي..فنظرت بالإتجاه الذي اشار اليه فلم اجد شيئا يشبه بناية او مدخل الى بناية توحي بأنها معهد أو جامعة او اي شيء من هذا القبيل؟ (زياد! هل تمزح؟ اين الجامعة؟) (والله ابوسيف هاي جامعة لاهاي!) فاقتربت أكثر الى المكان الذي اشار اليه لأرى بوابة صغيرة حديدية بنوافذ زجاجية صغيرة تؤدي الى سلم حديدي ينتهي بغرفة أشبه بغرفة حارس تعلوها قطعة مكتوب عليها بحروف انكليزية [لاهاي الحرة] وهناك قطعة معدنية مثبتة ببراغي الى جدار جانبي من الطابوق زرقاء اللون مكتوب عليا كلمة "الحرة" باللغة العربية وبالخط الكوفي وتحتها عبارة "الحرة يونيفرسيتي" [الجامعة الحرة] باللون الأسود وبحروف أنكليزية وفي زاوية هذه القطعة رقم عشرين باللون الأحمر والى جانبه الحرف الأول باللغة الأنكليزية باللون الأبيض ربما كان رقم هذا الجزء من البناء الذي يعود بالأرجح الى معرض للسيارات.والى الأعلى من المدخل الزجاجي تتكرر كلمة "الحرة" [بالعربية]على الجانبين ..وفي الوسط عبارة "الجامعة الحرة" [بالخط الكوفي] وتحتها عبارة "الحرة يونيفرسيتي" [بالحروف الأنكليزية]..ويوجد فوق النافذتين الزجاجيتين على جانبي المدخل الزجاجي إعلان على سبيل الكولاج فيه صورة لطلبة وطالبات يجلسون على مقاعد الدراسة وينهمكون بالكتابة وخلفهم صور لأساتذة ونقرأ في الزاوية اليمنى في أعلى هذا الإعلان عبارتي [ صرح أكاديمي كبير] وتحتها [ أساتذة متخصصون]..ويتلو ذلك كتابة لم اتمكن من قراءتها بالصورة التي التقطتها لها وأسفلها [سنوات من الإنجاز والنجاح والتطور] باللون الأزرق ..وتحتها وباللون الأصفر [تمنح شهادات البكلوريوس والماجستير والدكتوراة لكافة الأختصاصات] ثم تحتها باللون الأحمر [الآداب، العلوم التربوية والنفسية، الإدارة والإقتصاد، القانون والسياسة] وإختصاصات أخرى لم تظهر في الصورة التي لدي عن هذا المكان او تلك الزاوية التي ليست بصرح ولا أكاديمي ولا كبير!.وأخمن ان ثمن أيجار هذه الغرفة المعلقة لايتجاوز 150 يورو في الشهر..لأنها لاتصلح لشيء ولايمكن تحويرها لتصبح سكنا لفرد بائس عاطل يعيش على المساعدات بأدنى معايير الحياة الغربية..وليس لمن يعاين ماعاينت ان يداخله أدنى شك بأن المكان تم تأجيره لمجرد وضع ذلك الأعلان والصاق اعلانات ملونة على سبيل الكولاج لبدء الدراسة في تلك الجامعة الغرفة...عندئذ وبعد عودتي الى النرويج، حيث أقيم، أجريت بحوثا كثيرة وأرسلت الى أكاديميين في جامعات هولندية كنت تعرفت عليهم خلال مشاركاتي في مؤتمرات الترجمة عن جامعة لاهاي العربية المفتوحة او الحرة في لاهاي فأكدوا لي ومنهم أساتذة في جامعات سالفورد ولايدن ولندن وأوسلو وبرلين أن هذه الجامعة تكوين افتراضي لا وجود لها في العالم الأكاديمي وأن العرب الذين قاموا بتأسيسها يهدفون الى الربح ..وقال لي أحدهم كان الأحرى بهم تأسيس معهد لتعليم اللغة العربية لأبناء الجالية العربية في لاهاي، بدلا من الزعم انهم يديرون جامعة..وعندما سألت صديق هنا في النرويج يبدو أكثر أهمية من طريقة سيره وأسلوب تحيته وطريقة جلوسه وحديثه ، قال انه يدرس في لاهاي..وعندما سألته ولكنك لم تغادر كرستنساند ..قال لي انه يدرس بطريق البلتوك وهو برنامج الكتروني للتحاور وأرسال المواد الألكترونية ..وعندما سألته كيف تتلقى المواد قال بطريق المطبوعات الألكترونية وطلب مساعدتي في اقتراح موضوع لكتابة الدكتوراة في القانون العقوبي المقارن..وهل ستناقش الأطروحة؟ لا أعرف ولكن التعليم عن بعد يعني المناقشة هي ايضا عن بعد..فسألته: ولكن مالفائدة من شهادة غير معترف بها؟ أجاب: كلا ان الحكومة الهولندية تعترف بها..عندئذ توجهت بالسؤال الى اكاديمي يعمل في دنهاخ، ودنهاخ هو الأسم الهولندي ل [لاهاي]، فقال أن اي شخص في هولندة يمكن ان يؤسس مؤسسة غير ربحية ويسجلها في غرفة التجارة لقاء 50 يورو فقط..ويسمح قانون هولندة بالتصديق على توقيع هذه المؤسسة غير الربحية في غرفة التجارة ثم تؤخذ الوثيقة الصادرة والتي تحمل توقيع غرفة التجارة الى وزارة الخارجية في دنهاخ لتصديقها اي للتصديق على توقيع غرفة التجارة.أي ان التصديق هو على صدقية صدور الورقة من غرفة التجارة للجهة المسجلة فيها وليس اقرارا بأن الشهادة [الورقة] شهادة حقيقية لان التأكد من صدقية الشهادات هو من اختصاص وزارة التربية والتعليم وليس من اختصاص وزارة الخارجية..ويجري كل ذلك مجرى الروتين أي ان وزارة الخارجية الهولندية لاتعنى بمضمون الشهادة او الجهة المانحة او شرعيتها بل تصادق عليها لمجرد انها مسجلة في غرفة التجارة على اساس انها[ مؤسسة] غير ربحية ...وفي المدينة نفسها تقع جامعة لاهاي الهولندية الحقيقية في بناية هائلة وتضم تدريسيين وطلبة من 146 دولة ويقيم طلبتها الأجانب في أقسام داخلية عملاقة أراني أحدها صديقي وهو بناية سوداء مؤلفة من 15 طابق في قلب العاصمة لاهاي تضاف الى عدد من المباني العملاقة المخصصة للطلبة هناك..ولعل من قبيل المفارقة الصارخة ان جامعة لاهاي الحقيقية تتخصص بمنح شهادة الماجستير وبعدد محدود من الأختصاصات بينما تمنح جامعة لاهاي الأفتراضية شهادة الدكتوراة وفي الأختصاصات كلها الإنسانية والعلمية وبضمنها القانون الدولي والفيزياء النووية والطب الأنساني...ومن المضحك أن هذه الجامعة أو الجامعات الإفتراضية غالبا مايكون العاملين فيها من حملة البكالوريوس في افضل الأحوال ..وعندما فاتحت صديق لي بالسويد حول هذه الجامعة قال انها تفرخ وتتوالد فهنالك جامعة لاهاي فرع السويد وأخرى فرع المانيا وأخرى فرع الدنمارك وهناك فروع في اميركا وكندا فضلا عن فروع في بريطانيا وفنلندة والنرويج و في تكريت والموصل والأنبار..وأيران التي انتقلت لها العدوى الأكاديمية بطريق العمائم..ولا أدري أذا ستعمد هذه الجامعات الى منح شهادات عليا شرفية على غرار العديد من الجامعات الوهمية المنتشرة مثل وباء قاتل في العالم العربي ومنها جامعة الحضارة الإسلامية المفتوحة في بيروت وهي متخصصة بالدراسات الإسلامية وتتجه الى منح شهادات دكتوراة شرفية لوعول الخليج خاصة..وتتباهى جامعة لاهاي في اعلانها ان لها عضوية في الإتحاد العالمي للجامعات..وفي الذهاب الى موقع هذا الإتحاد نرى ان العضوية فيه تتم بطريق المراسلة ودفع اجور العضوية ..ويتألف الإتحاد المذكور من جامعات آسيوية وأفريقية هي عبارة عن لملوم من كل نطيحة ومتردية وما ترك السبع للضبع والذئب للغراب..أما عضويتها في اتحاد جامعات العالم الإسلامي فمسألة املاء استمارة طلب عضوية ودفع رسوم رمزية فحسب..

ولكن ترى ماهي لاهاي الموصل وماصلتها بجامعة الموصل او الجامعات العراقية الأخرى؟ ..وكيف اتيح للدجالين المقيمين في هولندة مد خيوطهم العنكبوتية الى الموصل وتكريت والحلة وربما الى اماكن أخرى في العراق الجريح..وهل العراق تنقصه مشكلات الفساد والتزوير لكي تتغلغل اليه هذه الآفة وهدفها منح الشرعية الأكاديمية لمن لاشرعية له..ثم تفكرت بالشهادات التي أحملها ..هي الأخرى ورق ..,لكنه ورق يحمل خلفه جهودا مضنية من السهر والضنى والألتزام بالمحاضرات وحضور الأختبارات والنجاح فيها..ثم تقديم ماحصلت علية من معلومات وخبرات للطلبة على مدى سنين! فالشهادة ليست مجرد ورق او حوار في بالتوك بل هي سهر وتعب ومحن وامتحانات ....وكانت أحلى لحظة هي لحظة استلام الشهادة ..وكان فينا الراسب والمكمل والمؤجل..ولكن على الجميع الدراسة والأختبار في المواد المقررة وتجاوز الأمتحانات وفي حالة الدراسات العليا تجاوز الأمتحانات وكتابة الأطروحة ومناقشتها بحضور ممتحن خارجي...وتذكرت كيف قام الدكتور صفاء خلوصي [رحمه الله] وهو مشرفي في الماجستير في بريطانيا قبل أكثر من ثلاثة عقود بتمزيق ماكتبته من دراسة لترجمة جبرا ابراهيم جبرا لشكسبير مقترحا علي الكتابة في ترجمة القرآن والشعر الجاهلي بدلا من ذلك فقبلت برأيه وكتبت فيما أراد..لم تكن الدراسة سهلة ولم يكن التدريس سهلا..بل جهدا [يشلع القلب] كما يقول اهلنا في الموصل...فكيف يمكن للشهادة ان تشترى من سوق الدجل والشعوذة تحت مسميات خادعة؟

"إن الكذب تنظيم يغطي على عدم انسجام وينبني عليه ويستره"[ فريدريك بوليان]..وفي جامعة لاهاي يتحول الكذب الى مؤسسة وككل مؤسسة هدفها الإستغلال، يميل القائمون عليها الى التظاهر بالمعرفة والقدرات الأكاديمية..وهذا التظاهر يجلب التوهم فالأكاديمي المزعوم لايكتفي بتمرير كذبه على الاخرين فقط بل يجهد لتصديق كذبه ...فالدفاع عن هذا الكذب على انه صدق ولاسيما عندما تترتب على هذا النوع من الكذب المؤسساتي منافع مادية تدعو الكذاب الى اضفاء صفة الشرعية عليها..ولأن الشرعية تقتضي وجود طرف ثالث غير الخادع والمخدوع، يميل الكذاب الى التشبث بصيغ وهمية وصورية للشرعية...وفي حالة لاهاي المفتوحة تعادل الشرعية التصديق على الشهادة من قبل الخارجية الهولندية...وهي عملية تنطوي على استغلال وخداع معا اي استغلال للقوانين الهولندية وخداع للطالب الذي يصدق ان الشهادة الممنوحة له هي شهادة حقيقية تتجاوز قيمتها الورقية مما يجعله شريكا في عملية النصب والكذب والإحتيال..ولحسن الحظ فأن احدا لايعترف بهذه الشهادات في الخارج ولايعادلها بشروى نقير..ولكن ماذا بالعراق..عندما تتحول الشهادة الوهمية هذه الى امتيازات ومناصب؟ عندئذ ومن منظور الطالب الذي يعرف جيدا طريقة تحصيله على الشهادة تتحول العملية كلها الى إحتيال وخداع أكبر ينطوي على صلافة وقلة حياء يصاحبان مزاعم الطالب المفترض وتأكيده على اللقب (العلمي) مع معرفته أنه تحول الى دكتور بليلة وضحاها...وبدون اي جهد يذكر غير تسديد مبالغ [الدراسة] لجامعة وهمية!

وقد يغضب هذا المقال وماذهبت اليه فيه المنتسبين لمثل هذه الجامعات بذريعة انهم يتلقون معلومات منهجية ويرتبطون بتدريسيين واكاديميين معروفين..اقول أن هذه الجامعة لاتدرس لوجه الله بل لقاء أجور ..مع انها تزعم بأنها مؤسسة غير ربحية..وهي بحكم هذا الزعم حصلت على ترخيص من غرفة تجارة لاهاي..كما أن التدريس عن بعد وبطريق الأنترنت وبرامج مثل بالتوك ليس تطورا على المنهج الدراسي الجامعي الذي يفترض وجود منهج سنوي يستمر لأربع سنوات قبل الحصول على البكالوريوس ومثلها للحصول على الماجستير والدكتوراة والمرور بأختبارات وإمتحانات شهرية وفصلية ونهائية ..وهذا لايوجد في التدريس عن بعد ..اي تتعطل في هذا التدريس إمكانية متابعة اداء الطالب ويتم التركيز على الحصول على الشهادة ..كما لاتتوفر في حالة الدراسات العلمية في التدريس عن بعد المختبرات والمشارح وهي ضرورية للتأهل عمليا للحصول على شهادات علمية...متخصصة..ويبدو من متابعة لموقع جامعة لاهاي ان الدراسة فيها تستثني شرط العمر وربما المهاد الأكاديمي والشهادات الأولية للحصول على شهادات عليا..فمعظم من رأيتهن في الصور قد تجاوزن الكهولة أما الرجال في الصور المرفقة فيبدون من دول افريقية، تسمح مؤسساتها او وزاراتها بتعيين الحاصلين على شهادات عليا [مهما كان مصدرها] في مناصب أكاديمية وحكومية ويتطلع العراقيون منهم الى اعتراف من الوزارة في بغداد يتغلغلون بعده الى العراق ليضاعفوا فيه وتائر الفساد والتزوير..ولعل من الطالبات من تسعى لمنافسة زوجها بدافع الشعور بالنقص ..فتحصل على الدكتوراة أسوة به..ولا استبعد ان جامعات لاهاي في العراق تحتضن نخبا اكاديمية جيدة ولاسيما في مجال الأنسانيات كالتاريخ والقانون والآداب وذلك بسبب العدوان ألأميركي على العراق وما لحقه من اجحاف بحق التدريسيين والأكاديميين ممن أستبعدوا من مراكزهم الأكاديمية في جامعات العراق بذريعة الأنتماء السياسي..ولهؤلاء اتقدم بأعتذار خاص لأني أعرف انهم ينتسبون الى ايمار اكثر من انتسابهم الى لاهاي والى عراق السيادة والصدق وليس الى عراق التبعية والتزوير ...لهؤلاء ممن سيقرأ هذا المقال من اصدقائي وزملائي في التدريس اتقدم بتحية إخلاص ووفاء.

ولابد هنا من الإشارة الى أن العراق كان أول من اسس كلية علمية تعمل وفق ضوابط أكاديمية صارمة..وهنا ننتقل من لاهاي القرن العشرين الى عراق الألف الثالث ق.م.:

أيمار:

تقع ايمار [مسكنة] على ضفة الفرات عندما ينعطف فجأة نحو العراق على مسافة 90 كم الى الجنوب الشرقي من حلب وقد اقام الرومان على انقاضها مدينة [بارباليسوس] التي اعاد العرب اعمارها في العهود الأسلامية وأطلقوا عليها اسم [بالس] التي ترد في كتب البلدانيين كما وردت في سياق حملة سيف الدولة على قبيلة كلاب العربية المقيمة في منطقة بالس فيما نقرأ في ديوان المتنبي ..وتمتاز "بالس" العربية بمعالمها الأثرية ومنها منارة باسقة مثمنة الأضلاع متماسكة البنيان فوق قاعدة مربعة مبنية بالآجر المشوي الأصفر بابها من الجهة الغربية يبلغ ارتفاعها 22 متراً يصعد إليها بسلم داخلي ذي 107 درجة، وذات سبع طبقات في كل منها قوس يختلف الواحد عن الآخر، وداخل المدينة أطلال المسجد الذي كان حول المنارة، وأطلال بناء فخم لعله كان قصر ابو فراس الحمداني أمير المدينة، وأطلال بناء آخر شاهق لعله كان حصناً قديما اعاد العرب عمارته..

و إيمارالألف الثالث ق.م. مملكة صغيرة تضم ميناءً تجارياً مهماً يعد همزة وصل تربط بلاد الرافدين بالممالك التي تقع إلى الغرب منها على طريق الفرات و ما يعرف بالطريق البري، وكانت السفن تفرغ حمولتها في هذا الميناء، ويتم نقل البضائع براً على ظهور الحيوانات إلى حلب أو إلى قطنة القريبة من حمص على الطريق الصحراوي، كما كانت البضائع تنقل من حلب وقطنة ومدن الساحل الفينيقي إلى إيمار ومنها الى الأناضول و بلاد الرافدين..

وترينا اللقى الأثرية التي عثر عليها في إيمار دلائل نصية على وجود اقدم كلية للآداب في الشرق الأوسط في العهود القديمة..فقد تم العثور على مئات الرقم الطينية التي تميط اللثام عن طبيعة المناهج الدراسية والتربوية.. وتلقي ضوءا على المناخ الثقافي والفكري في ذلك العصر..وتلك الكلية اسست في بواكير الألف الثالث ق.م. مما يرجح انها اسست على عهد شولكي أو سرجون الأكدي واستمرت حتى العصر الآشوري الحديث..وكان الطلبة..اي طلبة الدراسات العليا يفدون الكلية من العراق وأماكن أخرى فيدرسون الطب وفن التنبوء والآداب القديمة كملحمة كلكامش التي تحكي عن طوفان مماثل لطوفان نوح..وعند التخرج من الكلية يكون الطالب قد تعلم فن كتابة الرسائل وصياغة القرارات الملكية وأحاط بالتراث الطبي وفنون السحر واللغة والآداب، ويكون ضليعا بكتابة الرقم وطباعة الأختام عليها..ويتعلم الطلبة بمساعدة كتب مدرسية اساسية العلامات المسمارية وحفظ المعاجم والقواميس وإستنساخها..ومن هذه المعاجم موسوعة [هارا] التي تقع ب 10.000 مدخل..ويشترط بالطالب ان يكون قد انهى المرحلة الإعدادية للدراسة العليا في ايمار..وكانت متطلبات دراسة الفنون الكتابية تتضمن مهارات أولية يتعلمها الطالب في مدارس الكتابة [أيدوبا]وهي مدارس تأسست في جنوبي العراق وانتشرت من هناك الى الشرق الأدنى القديم وبضمنه مصر والشام..وفي [الأيدوبا] يجرى تطبيق منهج تدريسي ثابت يعتمد اللغتين السومرية والأكدية..ثم ينتقل الناجحون للدراسة في كلية ايماروالإقامة في أقسام داخلية ملحقة بالكلية ..وبعد تخرجهم يتم تعيينهم في دوائر الحكومة وفي المعابد للأستفادة من مهاراتهم في إدارة شؤون الدولة ..وهناك نوع من السجلات عثر عليها في ايمار يطلق عليها [الحوارات المدرسية] تنقل صورة حية للحياة اليومية في الكلية مع وصف لايخلو من الفكاهة للطلبة المتميزين والمدرسين المتشددين والمدراء والعمداء الصارمين..وللحصول على معلومات تفصيلية عن مهادات الطلبة والتدريسيين لابد من الرجوع الى دفاتر ملاحظات وتمرينات الطلبة انفسهم فضلا عن المراسلات اليومية والوثائق العملية والرسمية ..وقد عثر على هذه الوثائق برقم طينية في وادي الرافدين وفي أيبلا وماري تؤرخ لتلك المرحلة...ويترتب على الطلبة للوصول الى ايمار تسلق سلما تربويا شاهقا يبدأ بتعليمهم كيفية مسك ادوات الكتابة..وكان الطلبة يفدون الكلية من مختلف انحاء الشرق الأدنى القديم من اوغاريت ومجيدو وألأناضول ووادي الرافدين ..ويعتمد التدريسيون الوافدون الى ايمار من وادي الرافدين وبخاصة من الحواضر السومرية وبابل لاحقا اسلوب التعليم الحواري وفتح حلقات النقاش مع الطلبة ..ولايستبعد علماء الآثار اعتماد اطروحات او بحوث منتهية يقوم بها الطلبة وبإشراف تدريسي لغرض التخرج من كلية ايمار الجامعة..

ويعود سبب اختيار ايمار مركزا لنشر الثقافة العراقية واللغة الأكدية لأعتبارات سياسية وستراتيجية فأيمار ملتقى التجار القادمين من الساحل الفينيقي ومن مدن الأناضول للأنطلاق منها الى بابل والمدن السومرية ثم لاحقا من بالس الى بغداد..وعلى نحو مماثل تفد أيمار القوافل التجارية القادمة برا من الجنوب ومن العراق بمحاذاة الفرات ثم تتجه غربا نحو الساحل الفينيقي أو شمالا الى الأناضول ..والى الجنوب من ايمار يتسطح الفرات في منطقة ضيقة بحيث يمكن عبوره بدون حاجة الى زوارق او سباحة وهو المكان عينه الذي استخدمه الآشوريون و الأسكندر المقدوني والرومان والعرب فيما بعد لعبور الفرات..وفي اختيار ايمار لنشر الثقافة الرافدينية تتضح ابعاد الفكر الستراتيجي عند العراقيين القدماء اي تأكيد آيديولوجية الدولة وثقافتها في نقطة تلاقي جماعات وحضارات مختلفة تابعة أو صديقة أو معادية احيانا للدولة العراقية..

نتساءل هنا ان كان ثمة سبيل للمقارنة بين ايمارالعراقية ولاهاي [العراقية أيضا] ...لامقارنة حتما ولكن بقدر تعلق الأمر بمسألة حركة التاريخ وصلة تلك الحركة بالتقدم..ففي اية مقارنة يقيمها القاريء بين ايمار ولاهاي العراقيتين..يجد أن لاعلاقة توجد بين حركة التاريخ والتقدم بل ان نظرة هيجل القائلة بأن التاريخ عود الى البربرية هي الأخرى تكتسب ظلا توكيديا هنا..فالتقدم الذي أحرزه العراقيون قبل أكثر من 3000 سنة يفضح التخلف الذي تمخض عن إنهيار الدولة العراقية ومؤسساتها وبروز تنانين آدمية ومعها مؤسسات وهمية بائسة كجامعة لاهاي وغيرها...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الاتحاد الأوروبي.. مليار يورو لدعم لبنان | #غرفة_الأخبار


.. هل تقف أوروبا أمام حقبة جديدة في العلاقات مع الصين؟




.. يديعوت أحرونوت: إسرائيل ناشدت رئيس الكونغرس وأعضاء بالشيوخ ا


.. آثار قصف الاحتلال على بلدة عيتا الشعب جنوب لبنان




.. الجزائر: لإحياء تقاليدها القديمة.. مدينة البليدة تحتضن معرض