الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإنتفاضات العربية ونرجسية المثقف

قصي الصافي

2013 / 8 / 8
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


مع انطلاقة الإنتفاضات العربية كان الإرباك واضحاً على الكثير من كتابنا ومثقفينا، في تحليلاتهم وأحكامهم وتكهناتهم .فحالة الذهول الناجمة عن سرعة تواتر الأحداث الكبرى، قد اصابت المثقف النرجسي في صميم كبريائه المعرفي، فهو يفترض أن من واجبه أن يكون عرافاً خبيراً بقراءة كف المستقبل عن طريق الكهانه ، وإذ لم يكن له السبق في التنبؤ بتلك الأحداث، فمعنى ذلك أن هناك خللاً أو قصوراً ما خارجاً عن ارادته ،وهكذا سرت انذاك أفكار تبريرية غريبة مفادها أن تلك الاحداث لا تمتثل لقوانين علم الإجتماع واشتراطاته التأريخية ، وأن نظريات الثورة تعجز عن تفسيرها. هكذا في جرة قلم تحولنا إلى مخلوقات فضائية، تتحكم بصيرورة مجتمعنا قوى غامضة وربما قوى سحرية خارقة. شاع أيضا أن الإنتفاضات لم تكن ألا من صناعة مجموعة من الشباب الذين لاعلاقة لهم بالفكر والسياسة ، وكل ما يملكونه توقهم للحرية ومهاراتهم في إستثمار التكنولوجيا الحديثة وخاصةً وسائل الإتصال الإجتماعي ، أما الأحزاب والقوى السياسية وصناع الثقافة فلم يكن لهم أي دور على الإطلاق ....( لم يخبرنا التأريخ عن ثورة لم تسبقها ثورة فكرية يقودها الفلاسفة والمفكرون ويكون للمثقفين الدور الريادي في نشر افكارها ). الطريف أن هؤلاء المثقفين قد تورطوا في تحميل أنفسهم مسؤولية التنبؤ بالمستقبل كالعرافين، علماً أن ندرةً من الفلاسفة والمفكرين قادرون على إستشراف المستقبل ، حتى أن فيلسوفاً كبيراً مثل ميشيل فوكو قد إعتكف لفترةٍ في بيته محرجاً لثبوت عدم صحة توقعاته المتفائلة عن الثورة الإيرانية، إلا أن الكثير من كتابنا ومثقفينا لم يعتكفوا حين وعدونا بربيع عربي سينثر أزهاره الديمقراطية على رؤوسنا قريباً ، بل آثروا الإنقلاب وتسمية الأحداث بالشتاء العربي القارس هذه المرة، بعد أن انفجرت دمامل التأريخ بقيحها المتعفن في وجوهنا جميعاً. بهذا النزق الفكري اخطأوا مرتين ، مرةً بالسقوط في تفاؤل ساذج يتوسل نتائج آنية ،ومرةً بالإستسلام ليأس المتعجل ، وهنا استعير توصيفاً متأنياً وحكيماً للكاتبة ليانة بدر تشبه فيه أثر الإنتفاضات بالتغيرات الجيولوجية " إن باطن الأرض يأخذ وقته الطويل المتمهل في التغير والتشكل والثوران وإطلاق البراكين، ويعوزها الوقت الكافي لكي تأخذ شكلها النهائي الناجز."

إن أصحاب الرؤية الربيعية يتجاهلون ألف عامٍ من نفايات الفكر التي يمتلئ بها جوف التأريخ العربي، وأن الإنتفاضات العربية قد تكون في أحسن الأحوال الخطوة الأولى لإجبار التأريخ على تقيؤ تلك النفايات والأحقاد والصراعات المؤجلة، فتنظيف الجراح من القيح يستلزم فتحها أولاً، ومن البديهي أن الدكتاتوريات تنشد الإستقرار والسكونية، ولذا فمن صالحها تأجيل هذه الصراعات دون حسمها بل بتوظفيها لديمومة هيمنتها على السلطة، لذا فقد كرست الدكتاتوريات جهود مؤسساتها الإعلامية والثقافية لتتناغم مع الفضاء الفكري الملوث بفيروسات السلفية والإنغلاق الفكري، عن طريق المزايدة على القوى الظلامية بالدين،بدلاً من تزويد المواطن بواقيات فكرية تمنع اصابته بمثل تلك الفيروسات القاتلة. اننا نعيش حالة طواريء فكرية، وجرس الأنذار قد وصم آذاننا وهو يعلن عن وقوفنا خارج التأريخ، مستأنسين بظلام قبور أجدادنا المبجلين، نخشى التقدم خطوةً بإتجاه نور الحداثة. الفكر العربي السائد مستنبتٌ في تربة بور غير صالحة لاستنبات الفكر الحداثوي قبل تجريفها وحرثها وتسميدها، عن طريق إنتاج ثقافة تنويرية تعقلن الفكر السائد، وتساعده على الخروج من فوضى العواطف الهائجة والنزوع الغرائزي اللاعقلاني الذي يقود إلى الإحتراب والكراهية الطائفية والإثنية. إن تدخل البترول الخليجي -على أهميته - ليس هو السبب الرئيسي الذي أجهض أحلام المنتفضين من أجل الخبز والحرية في بداية إنطلاق الإنتفاضات ، بل كان دوره فقط تنشيط الفيروسات الخاملة التي يمتليء بها فضاء الثقافة الإجتماعية في مجتمعاتنا أصلاً. آن الأوان أن تبدأ المؤسسات الثقافيه والمراكز البحثية وجميع القائمين على الثقافة بمشروع ثقافي شامل يهدف إلى تشخيص الاعتلالات الفكرية والأمراض البنيوية المزمنة في ثقافتنا الإجتماعية ووضع العلاجات الناجعة لها. لايكفي أن يتعامل المثقف مع الآني من الحدث في توصيفات وتحليلات سطحية عابرة ، ولا يكفي نقد أو إدانة الخطاب الثقافي للإرهاب، الخطاب القائم على نرجسية الذات المذهبية أو القومية ، وتعاليها على الآخر والسعي إلى ابادته بروح من التطرف العصابي الذي يصل حد الإختلال العقلي، بل يتعين تفكيك هذا الخطاب والبحث عن جذور وصيرورة تشكل المفاهيم والأنساق الفكرية المكونة له، ومعرفة سر ثباتها ورسوخها في العقل الجمعي.. الأسئلة الكبرى تحاصر ثقافتنا يتقدمها سؤال الحداثة : لماذا تعثرت كل مشاريع الحداثة في البلدان العربية؟، لماذا فشلنا في تحديث العقل الجمعي؟ ، فرغم التحولات في أنماط الإنتاج والتغيرات في العلاقات الإقتصادية والإجتماعية إلا أن المنظومة الفكرية والقيمية والأخلاقية للفرد بقيت ممتنعة وممانعة للعصرنة، لماذا يظهر حنابلة بغداد ومتوكلهم في كل عصر تحت مسميات وأساليب مختلفة ليرتكبوا مجازرهم ويخرسوا أي نأمةٍ للتنوير؟. لماذا فشل الأفغاني وعبده والكواكبي وغيرهم من رجال النهضة في إصلاح الدين؟، وتبدد حلم أنطوان فرح في علمنة الدولة؟، ولم يترك قاسم أمين وطه حسين وسلامة موسى بصمات من فكرهم التنويري إلا في عقول النخبة؟. كيف تمكنت مفاهيم التحجر أن تصمد قروناً وبثبات مدهش لتشكل بتراكمها ثقافة منتجة للكراهية والتمترس المذهبي والقومي ، ثقافة حولت المواطن العربي إلى قنبلة موقوتة تنفجر إذا ما مس أحد قدسية رمز من رموزه الدينية أو المذهبية أو القومية أو السياسية وما أكثر تلك الرموز. قدسية الذات ودونية الآخر تلك هي اشكاليتنا الثقافية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الأستاذ قصي الصافي المحترم
ليندا كبرييل ( 2013 / 8 / 8 - 12:51 )
الذهنية العربية تسليمية لا تؤمن بالتطوير إلا في حدود مصالحها لا مصلحة تعمير الكون
تفضلتَ بالسؤال
لماذا تعثرت كل مشاريع الحداثة في البلدان العربية؟
جوابي أن الحداثة تقوم على العلمانية وهذا ما يرفضه العقل الإسلامي
كما أن المشاريع الحداثية كان عمرها قصيرا،منذ محمد علي إلى الاستعمار الغربي الذي وضعنا على عتبة الحداثة بأن أرسى لنا قاعدة إدارية تشريعية تعليمية قضائية .. انهارت كلها مع مجيء العسكر وحصار العقلية التغييبية
أما التحولات في أنماط الإنتاج والتغيرات في العلاقات الإقتصادية والإجتماعية فهذه ليست من الحداثة أبدا
إنها ليست أكثر من عملية تحديث، والفارق كبير
لأنهم كما نرى في الخليج ينافسون الغرب في مشاريعهم الاقتصادية لكنهم في داخلهم يعيشون البداوة بحذافيرها
تفضل احترامي وتقديري



2 - إلى الأستاذة لندا كبرييل المحترمة
قصي الصافي ( 2013 / 8 / 9 - 07:05 )
إلى الأستاذة لندا كبرييل المحترمة
تحياتي و شكراً لمرورك الكريم ...حين ذكرت في المقال التحولات في أنماط الإنتاج والتغيرات في البنية التحتية، لم يكن المقصود العمران وما يشتريه النفط في بلدان إقتصاد الريع الخليجي ، انما كان إشارةً إلى نظرية التفسير المادي للتأريخ والتي ملخصهاً أن البنى الفوقية المتمثلة بالقانون والثقافة والمفاهيم الفكرية والدينية انما هي نتاج لنمط الإنتاج الإقتصادي ،فللإقطاع بنيته الفكرية التي سيكون من المستحيل دوامها في ظل الرأسمالية مثلاً . أما ما اطلقت عليه مصطلح العقل الإسلامي الممانع للعلمانية فأنا أؤكد لك أن كل الأديان ممانعة للعلمانية ،لذا فالعلمانية تقوم على أساس فصل الدين (أي دين ) عن السياسة ، المسيحية مثلاً هيمنت قرونا على كل مفاصل الحياة في أوروبا ، دفعت خلالها الشعوب اثماناً باهظة جوع وظلم وأرهاب وحروب أهلية حتى صعود البرجوازية الأوربية وثورتها الفكرية المتمثلة بفكر الأنوار . صيرورة التطور المدني في المجتمع تجبر الدين على التنحي عن شؤون العباد للقانون وليس طبيعة الدين، مع عدم إنكار أن الدين المسيحي في أوربا وبعد قرون من العلمانية وجد نفسه مجبراً على التعص

اخر الافلام

.. حاخامات يهود يمزقون علم إسرائيل خلال مظاهرة في نيويورك


.. بايدن يؤكد خلال مراسم ذكرى المحرقة الالتزام بسلامة الشعب الي




.. نور الشريف أبويا الروحي.. حسن الرداد: من البداية كنت مقرر إن


.. عمليات نوعية لـ #المقاومة_الإسلامية في لبنان ضد تجمعات الاحت




.. 34 حارساً سويسرياً يؤدون قسم حماية بابا الفاتيكان