الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ازمة الاسلام السياسي الاخواني بعد خلع محمد مرسي

حسين الهنداوي

2013 / 8 / 10
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


1- جماعة الأخوان المصرية في المفترق الأخطر

قد تكون (جماعة الإخوان المسلمين) المصرية فقدت، إثر خلع الرئيس المنتخب محمد مرسي، حقا دستوريا في حكم مصر، بفعل مؤامرة محبكة، مدعومة دولياً، للانقلاب ضدها، ما دام الانقلاب العسكري، الذي سلبها السلطة، تم باحترافية عالية، وبمباركة جاهزة وفورية من مؤسسات الدولة الرسمية الرئيسة، الدينية، والقضائية، والعسكرية، وبـ (تفهم) نفس القوى الرافضة بشدة، عادة، للانقلابات على الحكومات المنتخبة.

بيد أن هذه الحقيقة لا تنفي أخرى أكبر، وهي أن تجربة سنة واحدة من حكم مرسي وجماعته كانت كافية لإثبات فشل الأخوان المسلمين في قيادة مصر إلى بر العدالة والأمان والازدهار، بعد أن عجزوا عن إقناع أو طمأنة الشعب المصري بأنهم جديرون بثقته وقادرون على تلبية بعض أبسط مطالبه الأساسية، التي ثار من أجلها على نظام حسني مبارك الموغل، في الفساد، والتبعية، والفشل.

بداهة، كان من الأفضل لانتصار الديمقراطية والقانون في مصر ألا يتدخل الجيشُ ودباباته في أي تغيير سياسي، ولا سيما في إسقاط رئيس منتخب. ولا يغير من الأمر أن الجيش (سلّم) السلطة إلى المدنيين، وشكّل حكومة تكنوقراط، ووعد بإجراء انتخابات قريبة، بيد أن هذا السقوط كان، وقبل حصوله بأسابيع، متوقعاً، أكثر فأكثر، حتى من القيادة العليا لجماعة الأخوان المصرية التي، رغم دهائها التعبوي المشهود ومهاراتها التكتيكية المجربة في اختطاف الفرص، لم تنجح في تلافي الكارثة قبل وقوعها، ما وضعها، حالياً، في المفترق الأخطر في كل تأريخها. فالاعتداد المفرط بالنفس، وانعدام الحساسية تجاه حركة الزمن، وفقدان المناعة ضد إغراء التسلط، وإغواء إغفال أو إنكار الآخر، وغيرها من النواقص والأخطاء التي تشترك بها الجماعات الإسلامية السياسية في كل مكان، هي، معاً، الأسباب الممكنة لذلك الفشل، الذي لن يتم الاعتراف به، في الأقل علناً.

ومع ذلك، هذه أسباب مساعدة، فالعامل الرئيس، في رأينا، هو عدم امتلاك الجماعة (المدهش) لمشروع بناء دولة مدنية، حديثة، وعادلة، ومتطورة، ولو بنفحة إسلامية معتدلة، تكون وطنا لكل المصريين، بل لم نشهد لدى الجماعة أي سعي، جاد وفعلي، لامتلاكه، قبل أو بعد فوزها بسلطة مصر عبر صناديق الاقتراع. وهكذا، عجزت قيادة الجماعة عن استغلال فرصة تأريخية ثمينة، جاءتها على طبق من ذهب، بفضل نضال، قاس وطويل، للإطاحة بنظام مبارك، لم تكن فيه، على أهميتها، القوة الأساسية، ولا سيما خلال السنوات الخمس الأخيرة، مقارنة بدعاة الدولة المدنية الحديثة والعادلة، الذين قدموا التضحيات الكبرى، إلا إنهم تركوا فرصتهم لبناء دولة المساواة والحقوق تزوغ من بين أصابعهم، بسبب تشتتهم المفجع، خلال انتخابات 2012، مقابل وحدة ودهاء الجماعة، التي كان محمد مرسي مجرد أداة بيدها. هذا العجز، الغالي الثمن على الإخوان، يفسر واقع أن توصيف (المؤامرة) أو (الانقلاب العسكري) عليهم بدا مثيرا للجدل منذ البداية، قبل أن يفقد مضامينه، تدريجياً، نظراً إلى أن الكل، تقريباً، كان في الأسابيع الأخيرة ينتظر حصوله، عاجلاً أو آجلاً، وكأن القضية قضية وقت لا أكثر، بل كان هناك من يتوقع، وهذا ما تحقق بالفعل، أن يصطف إلى جانب الانقلاب معظم فئات الشعب المصري، وفي المقدمة منه الطلاب، والمثقفون، والفنانون، ومنظمات المجتمع المدني، ورجال الأموال والأعمال.

وفي رأينا، لم تفهم جماعة الأخوان أن هناك فارقا كبيرا بين مصالح وأهداف تنظيم سياسي أو حركة إيديولوجية يمثلونها، ومصالح أمة، بحجم وتنوعية الأمة المصرية، كما لم تجد، حتى بعد وصولها إلى السلطة، ضرورة لإعلان نيتها القيام بمراجعة ونقد ذاتي عميق لفكرها السياسي عن الدولة، ما يستوجب التخلي، جذرياً، عن مفهومها البطريركي عن العلاقة بين الحاكم والرعية، كما عن بنيتها التنظيمية، والهيكلية، والآليات التي تعتمدها لتكون نخبة فوق الدولة وفوق القانون وفوق المجتمع.

بعد الآن، من المرجح أن تعيد الجماعة النظر في كل تلك الأخطاء، إلا إن نجاحها في ذلك سيعتمد على قبولها بأمر واقع ما، والاعتراف بأنها أهملت، خلال عام حكم مرسي، استدعاء قيم التسامح، والتعايش، والتشارك، والأمل، والحوار، وطرح الخطط، لتطوير دعائم الحياة الاقتصادية. ما فعلته كان، على العكس، الإصرار على تأكيد صرامتها وسعيها إلى تفعيل نزعات التفرد، والإقصاء، والهيمنة، في ممارستها السلطة، مع طمس عجزها عن طرح المبادرات الناجعة في كل تلك المجالات، ما كلفها الدخول في مواجهة مع مجتمع مدني منهك أصلاً، وتسويق خطاب طائفي ومذهبي، جلب عليها استياء حتى بعض قطاعات السكان المحسوبة لها تقليدياً، والمعتادة على حذر الأخوان الدائم من الخوض فيه من قبل. وهذا يفسر (التفهم) الواسع الذي قوبل به الانقلاب العسكري من معظم قطاعات الرأي العام، فحال إعلان المؤسسة العسكرية عن قرارها بخلع وعزل الرئيس المنتخب والإطاحة بحكومته، أعلنت المؤسسات القضائية، بما فيها المحكمة الدستورية العليا، دعمها للإجراء، وأعلنت المؤسسة الدينية الأزهرية موافقتها عليه، وكذلك فعل معارضو الأخوان، من قبيل التيار السلفي، الممثل بـ (حزب النور)، والحركة المدنية الممثلة بـ (جبهة الإنقاذ)، فيما استقبل الانقلاب على الصعيدين الإقليمي والدولي بتريث مصطنع، هو أقرب إلى الترحيب، ولا سيما من الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي، ناهيك بارتياح معظم دول الخليج، بما فيها العراق وإيران، القلقة، لسبب داخلي أو آخر، من وصول الأخوان إلى السلطة، في أكبر بلد عربي، والاهم من جهة عمق الطموحات والتقاليد السياسية المدنية.


هل سيراجع الأخوان المسلمون منظورات أثبتت عقمها؟

خسر الأخوان المسلمون المصريون فرصة ذهبية لن تتكرر ثانية، على المدى المنظور في الأقل، لإنجاح مشروع سياسي إسلامي يرتبط باسمهم كان يمكن أن يمتد إلى دول عربية وإسلامية أخرى، فإخفاقهم التاريخي في حكم مصر عام 2013، أثبت أن الحركات الإسلامية الشمولية المؤسسة على استلهام النموذج الأخواني، وأحيانا في الفكر والبنية التنظيمية والممارسة معا، تسير عكس حركة التأريخ، وأن منظوراتها السياسية عرضة للإفلاس تالياً، وفي لحظة، لسبب بسيط جداً، وهو أن الجماعة، دون نكران تضحياتها ضد الأنظمة الدكتاتورية، لا تتعامل مع مفاهيم الديمقراطية ودولة المؤسسات وحقوق وواجبات المواطنة وحتى الانتخابات العادلة بنفس معانيها القانونية الأصلية، إنما من منظور يفترض قبليا الصحة المطلقة لشعارها المركزي (القرآن دستورنا)، المصادِر للرأي الآخر، والذي لا يعني في المطاف الأخير سوى جعل الكتاب الإسلامي المقدس حكرا لها وأداة لشرعنة وصايتها هي على الرعية. ولا يغير من الأمر أنها تقبل بالانتخابات آلية لا مناص منها، تكتيكيا، للوصول إلى السلطة، على الرغم من أنها لا تمارسها في حياتها الداخلية، فهذا القبول مرحلي وحسب، وبالتالي، لا بد من أن تنقلب الجماعة عليه في لحظة قادمة أو أخرى.

الجناح التونسي من الأخوان، حزب النهضة الإسلامية بزعامة راشد الغنوشي الحاكم في تونس منذ عامين، لم يسقط بعد لصموده الصعب على بعض الاعتدال، إلا انه في أزمة وجود حقيقية. ولذا، هو لا يريد بأي حال من الأحوال تنظيم الانتخابات التشريعية المقبلة خشية المغامرة بخسارة السلطة الانتقالية التي اختطفها إثر فوزه بأغلبية في الانتخابات السابقة التي جرت قبل عامين قبل الطريقة المصرية إنما بطريقتها نفسها. وها هو المجتمع المدني التونسي يعاني سلفا من إقدام جماعة النهضة، ودائما بذريعة مكافحة الإرهاب وحماية أخلاق المجتمع، على وضع كل أجهزة الدولة التونسية تحت جناحي حزبه الأصولي الذي سارع إلى تنفيذ سياسة محمومة للهيمنة بإشراف الرجل الثاني عبد الفتاح مورو عبر تعبئة الشباب في معسكرات تدريب واختراق مؤسسات الجيش والشرطة والقضاء والسعي إلى إضعاف القوى الديمقراطية المتمسكة بعلمانية الدولة التونسية، ومنعهم من أي نشاط سياسي من شأنه أن يعارض المشروع الأخواني لحركة النهضة التي مثل أي تنظيم أصولي آخر لا تؤمن بالانتخابات وبالديمقراطية، إنما استخدمت الانتخابات للوصول إلى السلطة لقطع الطريق نهائيا أمام أية تداول مقبل للسلطة.

ونائب رئيس حركة النهضة الإسلامية التي تقود الائتلاف الحاكم في تونس، عبر مؤخرا عن خشيته من انتقال العدوى المصرية إلى تونس معترفا أن بلاده دخلت مثل مصر على خط "تخلف اقتصادي، وتدهور اجتماعي، ومشاكل سياسية" لا تعرف عقباها. وهذا يفسر ربما رفض حركة الأخوان المسلمين والجماعات الإسلامية المماثلة الدائم لفكرة القيام بمراجعات نقدية عميقة لمشروعها عن الدولة قد تفضي إلى الاعتراف بوجود أو التراجع عن بعض الملامح القاسية فيه وخاصة في مفهومها عن لزوم تابعية الحياة السياسية للشريعة أي لقياداتها هي، ولا سيما إن هذا المفهوم الذي يوقف العقل عند لحظة الخلافة الراشدية قسرا، يقدم أو بالأحرى يفرض فكرة مخيفة وضارة بدولة يطمح معظم المواطنين إلى أن تكون إنسانية وديمقراطية وحديثة، هي فكرة الحاكمية الشاملة والنهائية للنخبة الأصولية العليا المتشددة والمطروحة بشكل غامض حتى في كتابات منظري الجماعة الأبرز، بدءا من حسن البنا إلى أبو الأعلى المودودي وإلى سيد قطب، وخاصة الأخير الذي قيد مفهوم الدولة الإسلامية الحديثة بالمزيد من القيود والروادع إلى حد التضاد أحيانا مع معظم بل كل المبادئ والآليات الخاصة بالدولة الديمقراطية الحديثة إلى درجة نعت القسم الأكبر من المسلمين (أي غير الأصوليين) بالأعداء من الداخل الذين يجب التخلص منهم في المحصلة الأخيرة.

لقد تضرر هذا المفهوم جديا بعد السقوط المدوي لمحمد مرسي وسلطة الأخوان في مصر، والقابل جدا للحصول في دول إسلامية ذات تجارب مماثلة مع أحزاب وجماعات أخوانية العقل في الجوهر بغض النظر عن الأسماء والمذاهب والأقطار لاشتراكها في الانتهال بشكل مباشر أو غير مباشر من نفس الأفكار السياسية والاجتماعية والأخلاقية، إذ من غير المتوقع أن تستفيد هذه الجماعات من فشل أخوان مصر وهم الجماعة الأعرق والأقوى والأدهى والأذكى، فهذه القوى والتيارات ستستنسخ الجماعة المصرية في الفشل كما استنسختها في اعتمادها أساليب باطنية العقائد والتنظيم وفي خلط الرسالة أو الدعوة الدينية بالأجندة والأهداف السياسية، تستنسخ بعضها البعض، في الاستفادة من طيبة وبراءة عموم المواطنين الأحرار لتقتل فيهم فكرة المواطنة والحرية والطيبة والبراءة في آن، أي إن الإيديولوجيا الأخوانية لا تحكم عقل الأخوان السياسي وحدهم، بل تحكم أيضاً عقل كل تلك الأحزاب والتيارات المسماة (إسلامية) والتي تجعل من محاربة الدولة (الفاسدة)، وتعني (العلمانية)، هدفا لها ما يجعل سقوط سلطة الأخوان المصريين في 30 حزيران 2013 سقوطا لكل هؤلاء أيضاً.

وكما لاحظ عدد من الكتاب المصريين، إن جماعة الأخوان المسلمين التي تأسست في أعقاب سقوط دولة الخلافة العثمانية، ظلت ومنذ أدبياتها التأسيسية التي كتب معظمها مؤسسها حسن البنا، تتحدث عن (الدولة الفاسدة) وتقصد غير الدينية سواء التى أسسها محمد علي باشا أو التي قامت على أساس دستور 1923 الذي كان أحد أهم منجزات ثورة 1919.

بكلمة أوضح، نحن نزعم أن المشكلة تعود جوهريا إلى إيديولوجيا حركة الأخوان المسلمين ذاتها ورؤيتها لطبيعة الدولة منذ نشأتها وحتى الآن. وهي رؤية مؤسسة كليا على ضرورة الإطاحة بالدولة المدنية التي يسميها جناحها المعتدل (الدولة الفاسدة)، فيما يسميها جناحها الراديكالي (الدولة الكافرة)، وهي الفكرة التي أرسى أسسها العميقة المفكر الأخواني الراحل السيد قطب الذي يستحق فكره ونشاطه وقفة متريثة هنا نظرا لأن كتاباته ومنظوراته السياسية تشكل الجزء الأكثر إثارة في ترسانة الايدولوجيا الأصولية التي تعتمدها حركة الأخوان المسلمين وغيرها من الحركات الإسلامية الأصولية الراهنة في الشرق الأوسط وفي المغرب وفي باكستان وأفغانستان والهند والجمهوريات الإسلامية المنسلخة عن الاتحاد السوفييتي البائد.


سيد قطب وتوصيف متهافت للدولة غير الأخوانية

يمكن عد المفكر المصري الراحل، سيد قطب، بمثابة أكبر منظري حركة الأخوان المسلمين، إن لم يكن الأكبر في العصر الحديث، نظرا لأهمية افكاره السياسية وجرأتها، ولا سيما فيما يتعلق بمفهوم (الدولة الفاسدة)، والمقصود بها الدولة القمعية الناصرية، التي بدت له أنموذجاً للدولة غير الدينية. ولعل قراءة تحليلية لأبرز مؤلفاته، (في ظلال القرآن)، ضرورية لتكوين فهم أعمق للجوانب المختلفة لمنظوره في هذا الشأن، ففي هذا المؤلف، المتعدد الأجزاء، حاول أن يقدم تفسيرا معاصرا للقرآن، لكن هذا التفسير يختلف عن التفسيرات التقليدية، التي عرفها العالم الاسلامي، منذ أولى المؤلفات التي وضعت في هذا الميدان، إذ تسعى محاولة سيد قطب إلى استيعاب مبتكر وحديث للمنظور القرآني، تمهيدا للتحكم به وتوجيهه في قناة تخدم الدعوة إلى تجسيد أفكار القرآن في حركة سياسية معاصرة، تسعى صراحة إلى إعلان الثورة الإسلامية، وإعطاء المثال القرآني للدولة والمجتمع دفعة الوجود الفعلي.

يركز سيد قطب، في تفسيره، ويطيل التوقف عند بعض السور والايات القرآنية، بالقدر الذي يجعل من ذلك التركيز والتوقف، او بالاحرى، تلك السور، تعبيرا عن الحاجة الى (بعث المثال الاسلامي) في الحياة الاجتماعية والسياسية، اي الى تحققه، مطورا منظورا فكريا خاصا ممكن المقارنة، كما يرى الباحث الفرنسي اوليفيه كارا في كتابه المبكر والمهم جدا (قراءة ثورية للقرآن من قبل سيد قطب)، الصادر بالفرنسية سنة 1984، بمنظورات (البعث الاسلامي) الحديثة الاخرى، ولا سيما المنظور الذي طرحه محمد عبده وتلميذه رشيد رضا في مطلع القرن العشرين، وايضا المنظور الذي طرحته حركة البعث كما نجده في كتابات زكي الارسوزي وميشيل عفلق، وحتى مع المنظور العقلاني الذي دافع عنه الجزائري محمد اركون في بعض كتاباته المتأخرة. وهذا الرأي يتطلب وقفة متعمقة، لا عند النصوص وحدها، انما ايضا عند بعض احداث حياة سيد قطب التي تساعدنا في الوصول الى فهم افضل للنصوص ولاسيما موته شهيدا لفكره، حيث اعدمه الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر بعد ان اودعه فترة طويلة في السجن، تعرض خلالها الى التعذيب القاسي من قبل جلاوزة النظام الناصري من جهة، والى المرض العضال من جهة اخرى.

النصوص المعنية هنا لا تقتصر على كتاب (في ظلال القرآن) وحده من بين العديد من مؤلفات سيد قطب، بل فقط على مقتطفات منه، وهي تلك التي نشرت في كتيب اطلق عليه (معالم على الطريق)، الذي عدته اجهزة المخابرات المصرية (دليلا قاطعا) على تخطيطه لمؤامرة تستهدف حياة عبد الناصر نفسه وكبار مساعديه، ولتذهب بعدئذ الى اصدار حكم الاعدام على سيد قطب قبل ان تعمد الى اعدامه فعلا في اواسط عام 1966. وتلك المقتطفات (المؤامرة) التي حملته الى (منصة الشهادة) في نظر انصاره هي في رأيهم ايضا مجرد مقتطفات من تفسيره للقرآن. والحال ان (في ظلال القرآن) هو تفسير بلا شك، لكنه تفسير غير ديني للقرآن. وهذا ما يفسر برأينا الحماسة الخاصة التي تظهرها وتدعو لها بشأنها الحركات الجهادية الاسلاموية اليوم، ليس فقط في مصر وحدها، انما ايضا في مجمل العالمين العربي والاسلامي سواء في تركيا او ايران او افغانستان او الهند او افريقيا الاسلامية او سوريا او بلدان المغرب العربي. وفي الواقع، فانه تفسير غير تقليدي حتى بالنسبة لحركة الاخوان المسلمين الرسمية. وبالفعل فان التيار الرسمي في هذه الحركة اعلن على لسان الهضيبي ومنذ 1969 رفض (في ظلال القرآن) على اساس انه تيار منشق وخارج على الخط العام للحركة، غير ان هذا الموقف لم يؤثر بشيء على نفوذ وقدسية سيد قطب وسطوة افكاره وصدى الهجمات التي يحملها في مؤلفه (في ظلال القرآن) على الاسلام الشعبوي، والتي تلتقي بشكل عميق من جهة مع افكار مماثلة لقادة اسلاميين في غير مصر، في مقدمتهم ابو الاعلى المودودي، وابو الحسن الندوي، وكلاهما من القارة الهندية.

إن نقطة اللقاء بين رشيد رضا وسيد قطب هي عودتهما معا الى افكار الفقيه الاسلامي ابن تيمية المتمحورة حول تيار يهدف الى نقل الفكر الاسلامي الى الحياة السياسية وبشكل نشط. وبالطبع هناك حسن البنا، مؤسس جماعة الاخوان المسلمين في 1928، الذي يقف بين رشيد رضا وسيد قطب لكن على الارضية الفكرية نفسها التي تقف عليها الجماعة المذكورة، غير ان هذا لا يجب ان يقودنا الى ان نعتبر حسن البنا او سيد قطب بمنزلة مفكري (الارهاب الاسلامي) كما يشيع البعض من اسلاميين وحكومات انطلاقا من كونهما بالفعل اكبر الايديولوجيين للجماعة، ويحظيان بتقديس خاص لدى الاجنحة المتطرفة منها. اننا في المقابل، نقول انهما يمثلان بلا ادنى شك، تيارا يعكس بشكل عميق ومتين، موقف المعارضة الاسلامية المتطرفة ضد طرز الانظمة السياسية التي تعتمد النظام الناصري انموذجاً لها في العالم الاسلامي، مطالبة بصراحة وثقة وجد بالعودة الى القرآن لإدراك وتحقيق منظوره السياسي، باعتباره المنظور المثالي للمجتمع الاسلامي بنظرهم. وهذا الموقف اجمالا تعكسه افكار (في ظلال القرآن) بشكل جلي، حيث يقوم سيد قطب فيه بطرحها بصيغة لامعة ومتينة معززا اياه بتجربة سياسية خاصة مثيرة ومتعددة الفصول اضافة الى ما تنطوي عليه من معاناة انسانية جسيمة، فلقد ولد سيد قطب في عام 1906 قرب مدينة اسيوط في عائلة فقيرة شجعته عل الاندفاع في التحصيل الدراسي، فدخل دار العلوم ليتخرج منها معلما، مثلما حصل لرشيد رضا وحسن البنا بالفعل. وفي دار العلوم هذه بدأ تعاطفه وعلاقاته مع حركة الاخوان، لكنه اتجه اولا الى بناء رصيد ادبي من خلال ارتباطه بعلاقات طيبة مع عباس محمود العقاد وتوفيق الحكيم بل شاركهم موقفهم النقدي ضد طه حسين. في تلك الفترة لم تكن له نشاطات اسلامية سياسية مهمة، اذ انصب نشاطه السياسي في الاربعينيات في اطار (حزب السعادة)، وهو تيار منشق عن حزب الوفد الوطني المصري. اما كتاباته فقد تركزت في ميدان النقد الادبي واهتمت بشكل خاص بالطالبع الجمالي غير الملتزم، ثم ذهب الى الولايات المتحدة الامريكية، بين 1949 و1951، للحصول على تعليمه العالي، وفي تلك الفترة بالذات تبلورت اتجاهاته الاسلامية ليتوجها عام 1951 باصدار اول كتاب اسلامي له وهو (العدالة الاجتماعية في الاسلام) حاول فيه سيد قطب ان يسهم من موقع اسلامي، في النقاش الدائر في مصر آنذاك، حول الاشتراكية والاصلاح الزراعي والمجتمع المصري المقبل.

بعد ذلك الكتاب مباشرة، بدأ سيد قطب يبرز بشكل سريع كمفكر نشيط في اطار حركة الاخوان. في البداية وطوال عام 1951 راح يكتب كمتعاطف في مجلة "الدعوة" التي تصدرها الحركة، ثم سرعان ما اصبح عضوا في جمعية الاخوان المسلمين، لكن ليس عضوا عاديا كالآخرين، انما عين مباشرة عضوا في مكتب الارشاد، ثم مسؤولا عن الجهاز الدعائي للحركة في اواخر العام نفسه، ليشارك بشكل فعال من موقعه ذاك في التحضير لتفجير انقلاب او ثورة يوليو 1952 التي حملت الضابط المغمور جمال عبد الناصر الى رئاسة الدولة المصرية.


دولة المخابرات الناصرية وقمع خدم الأخوان

مشروع الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر في إقامة حزب واحد لمصر، هو (الاتحاد الاشتراكي)، وإلغاء وتحريم جميع الأحزاب الأخرى، كشف عن نزعة دكتاتورية واضحة خلف المشروع، ولا سيما لاقترانه بتحول النظام الناصري التدريجي إلى نظام تسلط وطغيان، بتشجيع من الاتحاد السوفييتي البائد وأجواء الحرب الباردة عموما، كانت أبرز ملامحه مظاهر عبادة الشيخ أو الضابط، واستفحال جهاز مخابرات لا يتردد في استعمال كل أشكال القمع والمصادرة لتمرير أحكامه الجائرة وشيوع الفساد والمحسوبية وترهل الأجهزة العسكرية والإدارية.

وهكذا، لم تلبث حركة الأخوان المسلمين المصرية عموماً، وخلفها السورية، أن وجدت نفسها، عبر سيد قطب ومحمد قطب وغيرهما، تعارض سلطة انقلاب يوليو1952، هذه المرة رافضة مهادنتها في موقف جلب لها غضب عبد الناصر، الذي قام، نهاية عام 1954، باعتقال سيد قطب وتعريضه إلى التعذيب النفسي والجسدي القاسي. وقد استمر سجينا في معتقلات عبد الناصر إلى عام 1964، إلا إنه قام، خلال هذه المدة من الاعتقال، بكتابة (في ظلال القرآن)، مستفيدا من وجوده في مستشفى سجنه، الذي نقل إليه بسبب إصابته بمرض صدري.
هكذا كتب سيد قطب (في ظلال القرآن). ومن مقتطفات مختارة من كتابه الكبير هذا، قام قطب بإصدار كتيب بعنوان (معالم على الطريق)، عام 1965، بموافقة من سلطات الرقابة المصرية في الواقع، إلا إن تلك السلطات سرعان ما انتبهت إلى الاستقبال الشعبي والرواج الواسع لتلك المقتطفات، كما انتبهت خاصة إلى طابعها الثوري وحتى التحريضي، ما جعلها تعمد بعد صدور طبعته الخامسة، إلى استعماله دليلاً قاطعاً على وجود (تنظيم سري مسلح) لحركة الأخوان، وعلى وجود مؤامرة على حياة عبد الناصر وكبار المسؤولين في نظامه. وكانت الطبعة الخامسة كافية لإثبات ذلك بالنسبة لشمس الدين بدران، وزير داخلية جمال عبد الناصر، الذي كان متعطشا لتصديق أية تهمة ضد قطب، فقام بإصدار منع على تداول الكتاب، وأمر بإعادة سيد قطب وعدد من أصحابه إلى زنزانة دامسة الظلام، تلاه بالاستجواب تحت التعذيب الجسدي والنفسي، ثم المثول أمام محكمة طوارئ خاصة، سارعت إلى الحكم عليه بالإعدام، الذي نفذ بعد مدة قصيرة جداً، إذ قامت السلطات الناصرية بإعدام قطب في 29 آب/ أغسطس 1966. هذه هي باختصار قصة حياة سيد قطب واستشهاده. ولدينا عن فصولها، الآن، معلومات وافية جدا تمنح النظرية الفكرية أبعادا أكبر. تلك الممارسات الحكومية القمعية البليدة منحت أفكار سيد قطب، ولا سيما كتابه (في ظلال القرآن)، أهمية ثورية استثنائية برغم محاولته الظهور بمظهر نظري على صعيد التوجه السياسي، إذ إن رشيد رضا ومحمد عبده كان كلاهما من كبار الفقهاء ورجال الشريعة الإسلامية، وبالتالي فان تفسيرهما للقرآن قام أساساً، وبالضرورة، على استلهام التفسيرات الدينية السابقة، وفق منظور حديث إنما دون اختلافات جوهرية.

أما سيد قطب فهو، بالمقابل، رجل أدب دنيوي وفكر سياسي واقعي يسعى إلى تحقيق ما يعتبره المجتمع الإسلامي المنشود والممكن التحقيق، بل يذهب البعض إلى اتهامه بالعلمانية، كما أن (في ظلال القرآن) لا يقدم نفسه بوصفه تفسيراً أصولياً وتقليدياً، وسيكون من غير الأمانة أن ننظر له أو نحلله بوصفه تفسيراً دينياً للقرآن، بينما كان سلسلة من المواعظ لـ "الدفاع عن الإسلام"، على ما يقول البعض، أو مرشداً في معرفة دور القرآن في رسم وتحديد طريق الأمة الإسلامية، أي طريق الغد على ما يقول البعض الآخر، الذي يعد (في ظلال القرآن) دليل الحكومة الإسلامية والثورة الإسلامية المنشودتين. من هنا، نستطيع مقارنته بكتاب (الحكومة الإسلامية)، الذي أصدره الإمام الخميني في سنوات الستينيات من مقر إقامته في النجف الأشرف، غير أن كتاب (في ظلال القرآن) وكتابات سيد قطب عموما تظل أشد عمقا وأكثر ثراء وقوة ومنهجية من كتاب الخميني المذكور، وتقتصر المقارنة بين الكتابين على إظهار الأهمية الخاصة لكتاب (في ظلال القرآن) في تصور المثال الذي تتبناه وتسعى له الحركة الجهادية الإسلامية في العالم العربي اليوم. ومن هنا نقول إن (في ظلال القرآن) يمكن مقارنته، أيضاً، مع كتابات مؤسسي حركة البعث العربي، وبشكل خاص كتابات زكي الأرسوزي وميشيل عفلق في الثلاثينيات والأربعينيات التي حاولت هي، أيضاً، أن تستلهم مثال المجتمع النبوي في المدينة المنورة، أي المجتمع الإسلامي الأول، بيد أن استلهام سيد قطب يختلف بشكل جوهري عن الاستلهام البعثي، على الرغم من توافق الاثنين باستخدام مفهوم البعث، العربي لأحدهما، والإسلامي للآخر، فالمثال القطبي يختلف في آفاقه وأدواته عن المثال البعثي، وكذلك في نتائجه، فكما أن التصور القطبي مسؤول بشكل ما عن الطابع (الإرهابي) الشعبي الذي ستأخذه بعض فصائل حركة الأخوان المسلمين في مصر وسوريا خصوصا، باسم (التكفير) كذلك فإن التصور البعثي مسؤول عن ظهور إرهاب الدولة الذي مارسته سلطتا البعث في دمشق وبغداد، على الرغم من أن سيد قطب والبنا لم يريدا، أبداً، تبرير الإرهاب باسم الإسلام، سواء ضد عبد الناصر ونظامه أو ضد غيره من الأنظمة، كما أن الأرسوزي وعفلق لم يهدفا إلى أن يقترن البعث العربي بإرهاب الدولة البعثية في العراق وسوريا.


أدلجة أفكار العراقي الأصل رشيد رضا

الإطار العام للمنهج الذي اعتمده المفكر الإسلامي الأخواني الكبير، سيد قطب، لتفسير النص القرآني، في كتابه (في ظلال القرآن)، هو ـ ظاهرياً ـ المنهج نفسه الذي اعتمده الأستاذ الروحي لمؤسس جماعة الأخوان، حسن البنا، وهو المفكر الإسلامي رشيد رضا (1865 ـ 1935)، والذي قدّمه في عدد من مؤلفاته، ولا سيما (تفسير المنار)، الذي حاول فيه استكمال تفسير معاصر للقرآن، بدأه شيخه محمد عبده، غير أن موقع كل من سيد قطب ورشيد رضا يختلف جذريا، فبينما كان العراقي الأصل، اللبناني المولد، المصري المقام، رشيد رضا، تلميذاً للمصلح الديني والاجتماعي والسياسي، محمد عبده، وداعية للنهضة العلمية والتربوية وللتمسك بالدين، ولاسيما عبر مجلة (المنار) الشهيرة، التي أسسها عام 1898، على نمط مجلة (العروة الوثقى)، التي أسسها محمد عبده قبله، كان سيد قطب ينطلق في المسائل كافة من وجهة نظر شخصية، متشبعة بأجواء الفكر السياسي لجماعة الأخوان المسلمين ما بعد انقلاب يوليو 1952 في مصر، وهو فكر عملي، كفاحي، مستحدث، يتطلع إلى تحقيق مشروع سياسي، يعيد تنظيم الحياة الدنيوية الراهنة للإسلام والمسلمين. وكان سيد قطب منغمسا في فكر الأخوان كلياً، بل كان المنظر الأبرز له بعد حسن البنا، وأكثر نفوذا من الأخير.

ومع ذلك، يمكن أن تكون مدرسة الأخوان امتدادا لمدرسة (المنار)، نظرا إلى أن الكثير من مثقفي الأخوان يعدونها المهادَ الأوحد للصحوة الإسلامية في العصر الحديث. صحيح أن رشيد رضا لم تعرف له علاقة تنظيمية ما مع جماعة الأخوان، المؤسّسة قبيل وفاته ببضع سنوات، إلا إن تحوله من الاعتدال إلى السلفية، في مطلع القرن الماضي، ودفاعه عن أفكار ابن تيمية والحركة الوهابية، تسمح بالقول إن العلاقة الفكرية بين رشيد رضا وجماعة الأخوان ليست مستغربة على أكثر من صعيد، فعلى صعيد الموقف الرافض للاستشراق الغربي يتشابه الطرفان، إلى حد ما، غير أن سيد قطب أكثر حدة، فهو يعد الاستشراق "مؤامرة يهودية ومسيحية" قديمة تعود أصولها إلى الفترة النبوية، فضلاً عن كونها استمرارا للحملات الصليبية على الإسلام، ولا تهدف إلا إلى تجريد القرآن من بعده الإلهي ومعاملته بوصفه مؤلفاً دنيوياً. وتزداد هذه الحدة عندما يتعلق الأمر بهؤلاء الإسلاميين المتساهلين مع الاستشراق والمتواطئين معه. وحتى محمد عبده ورشيد رضا، و(تفسير المنار) إجمالا، لا ينجو من ذلك، برأي قطب، فهو يأخذ على مدرسة محمد عبده ورضا ليبراليتها، أي عقلانيتها المتشددة في موضوع النص القرآني، على الرغم من أننا نعرف أن عقلانية محمد عبده هي عقلانية محدودة جداً، تقوم أساسا على وضع العقل في خدمة النقل، وليس العكس أبدا. ونلاحظ، أيضاً، أن احترام قطب لمحمد عبده غائب كلياً، تقريبا، كما أن قطب لا يتردد في أن يرفض، صراحة، فكرةَ الإقرار بوجود ثنائي للحقيقة، أي حقيقة العقل والعلوم من جهة، وحقيقة الوحي من جهة أخرى، الأمر الذي يجعله يتجنب محمد عبده ورشيد رضا إلى أبعد الحدود الممكنة. وفي الأقل، نجده في (في ظلال القرآن) شديد التحفظ بشأن مسألة التوافق بين القرآن والعلوم الحديثة، فهو يتجنب هذا التوافق عموما، ويميل، دائماً، إلى تغليب التصديق الإيماني، من دون الحاجة إلى الفهم أحياناً، الأمر الذي لا يقبل به محمد عبده، إلا في أحوال نادرة جداً، على نحو ما لاحظ، محقّاً، المستشرق الفرنسي، أوليفيه كارا.

وعلى العكس من محمد عبده ورشيد رضا، يلح قطب على الجانب غير النظري، بل الفعلي الملموس في النص القرآني، إلى درجة يمكن القول معها إنه إذا كان عبده ورضا يؤكدان على ميزة الطبيعية والبساطة والعقلانية للإسلام، فإن قطب يذهب إلى إبراز المضامين التي يتفرد بها الإسلام، أي تلك الخاصة به، ومن بينها المضامين الصعبة القبول، من قبيل المعجزات، وخصوصا الإعجاز القرآني نفسه، والجهاد، والفتوحات الهجومية، وفوقها جميعاًن قضية وحي الله إلى الأنبياء، الذي لا يمكن تفسيره مطلقا بأدوات العقل، وأيضا، وعلى الضد من عبده ورضا، يرفض قطب أن يقدم أدنى شرح ممكن طبيعة العلم النبوي، ويعلن أنه لا ينبغي البحث عن كيفية حصول ذلك، في الوقت الذي يقر فيه بعبقرية نبي الإسلام.

مقابل هذا، يتفق الطرفان، قطب وصاحب (تفسير المنار)، في اتخاذ موقف الحذر من الاتجاهات التي تبالغ في تأويل النص القرآني وتحميله أكثر مما يحتمل، على الرغم من أنهما يسقطان معا في الخطأ نفسه، أي الاعتماد على بعض المدونات الأخرى غير القرآن، والأحاديث النبوية. لكن قطب يتميز في رفضه النظر إلى القرآن بوصفه مجرد مدونة أو وثيقة بين غيرها. من هنا، يقدم (في ظلال القرآن) نفسه، أكثر من المنار، بوصفه منظوراً كاملاً وتمامياً قبلياً، بالمعنى المناقض للتحديث. ومن ثم، تحظى كل محاولة تحديثية لـ (الإسلام)، من قبيل محاولة محمد أركون مثلا، بغضب مقدس، أي ذلك الغضب الذي يستحقه المسلمون المرتدون، الذين يزعمون أنهم مؤمنون وعلماء، وما هم، في الحقيقة، سوى من أرباب الجاهلية، الذين أشار لهم القرآن عبر حديثه عن أهل الكتاب. وهذا الموقف القطبي يشمل التأريخ، أيضاً، بالمفهوم الحديث، باستثناء أن قطب، الأكثر ثقافة في هذا المجال، لا يصرح بذلك، بل يلجأ على التركيز على الجوانب غير التأريخية في القرآن.

ونحن نلاحظ أن (تفسير المنار) و(في ظلال القرآن) يعودان ويعتمدان، جوهرياً، على المفسرين الإسلاميين الأقل عقائدية وتعقيداً. لكن، وبينما يشن (المنار) حملة ضد التقليد الأعمى لهؤلاء، يشن (في ظلال القرآن) حملة على التقليد الأعمى للغرب والمفكرين الغربيين، أي إن مفردة (التقليد الأعمى) لا تتوجه لديهما إلى الهدف نفسه. وفي الحقيقة، إن مفردة (التقليد)، في لغة الأخوان المسلمين منذ البنا، موجهة بشكل دقيق هنا، أي إن حملتهم موجهة، أساساً، وبشكل شبه قاطع، ضد هؤلاء المقلدين المتأثرين بالعقلانية الغربية، وليس ضد التقليد بمعنى العودة إلى الأصول.

وفضلاً عن ذلك، تتجاوز العودة إلى الأصول، التي يدعو لها قطب، مجرد العودة إلى الينابيع التفسيرية الإسلامية الأولى، إنما العودة إلى القرآن نفسه، والانطلاق منه إلى تلمس التجربة الفعلية والإعجازية للرسالة القرآنية، لكن نقطة الانطلاق هذه ليست موجودة في الماضي، إنما في اللحظة الراهنة، وهذا ما يجعلنا نقول إن (في ظلال القرآن) ليس محاولة معاصرة لتفسير القرآن بأدوات تقليدية، إنما هو دعوة أخوانية لانطلاقة جديدة في فهم القرآن.

وعلى العموم، إن تمكن جماعة الأخوان من أدلجة أفكار رشيد رضا وتوظيفها لحساب أهدافهم عائد إلى إمكان المقارنة بين كتاب (في ظلال القرآن) و(تفسير المنار)، النابعة ـ في الواقع ـ من وجود خط مشترك بين الاثنين وعلاقة استمرارية بينهما، فالمعروف، تأريخياً، أن حسن البنا كان على اتصالات مباشرة مع رشيد رضا، منذ عام 1924، ومع مجلته (المنار)، وبعد موت رشيد رضا، عام 1935، انتقلت (المنار) لتصبح تحت الإشراف المباشر والرسمي للأخوان، فكان اسمهم يظهر على المجلة، منذ ذلك العام إلى عام 1941، أي حتى حظر صدور المجلة. والأهم من ذلك هو أن تفسير رشيد رضا يتوقف عند السورة الثانية عشرة من القرآن، بسبب موته، ولم يقم البنا وجماعته باستكمال ذلك التفسير، إنما كان ينبغي أن يجيء سيد قطب ليواصل ذلك. لكن سيد قطب لم يقم بالسير على طريق رضا، إنما ذهب إلى تحقيق هدف آخر، وهو وضع تفسير للقرآن خاص بحركة الأخوان المسلمين.

يليه القسم الثاني.
• د. حسين الهنداوي، كاتب عراقي متخصص في الفلسفة الهيغلية. من مؤلفاته الفلسفية "التاريخ والدولة ما بين ابن خلدون وهيغل" (الساقي)، و"هيغل والاسلام" بالفرنسية، و"على ضفاف الفلسفة" (بيت الحكمة)، "محمد مكية والعمران المعاصر" (ناشرون)، و"اخاديد" (شعر/ ئاراس)، و"مقدمة في الفلسفة البابلية"، و"استبداد شرقي أم استبداد في الشرق"، و"فلاسفة التنوير والاسلام" وغيرها.











التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مقال رائع
هانى شاكر ( 2013 / 8 / 10 - 11:16 )


مقال رائع
______

فى وقت عزت فيه كلمة حق .. تأتى هذه ألمقالة ألأكاديمية ألتحضير ، و ألسهلة ألقراءة .. ضؤاً لامعا فى ضباب ألكذب و ألتضليل ألسياسى و ألأعلامى .. لجيل لم يحضر أو يُعايش ألأحداث .. ألتى دمرت قسم كبير و مُهم من ألعالم ( ألشرق ألأوسط ) ..

فى أنتظار ألمزيد و شُكراً

....


2 - وهل يسنحق الاسلام الا سنة واحدة لا اكثر
محمد البدري ( 2013 / 8 / 10 - 21:38 )
تجربة سنة واحدة من حكم مرسي وجماعته كانت كافية لإثبات فشل الاسلام كدين وكأخلاق وفشل الانتماء لما يسمي العروبة كهوية لازال كثيرون من بلهاء اليسار والقوميون العرب يلزمون انفسهم بها بسطحية معرفية وجهل ثقافي. شكرا لهذه المقالة التي سيصعب علي كثيرين من المخدوعين استيعابها لا لشئ الا لان الصدمة التي اصبتهم قد اخلت بعقولهم باكثر مما اخل الاسلام بهم.

اخر الافلام

.. مظاهرات الطلاب الأمريكيين ضد الحرب في غزة تلهم الطلاب في فرن


.. -البطل الخارق- غريندايزر في باريس! • فرانس 24 / FRANCE 24




.. بلينكن في الصين.. مهمة صعبة وشائكة • فرانس 24 / FRANCE 24


.. بلينكن يصل إسرائيل الثلاثاء المقبل في زيارة هي السابعة له من




.. مسؤولون مصريون: وفد مصري رفيع المستوى توجه لإسرائيل مع رؤية