الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ملاحظات على فكر سان سيمون (2)... الدين والطبقة الاجتماعية

حسين محمود التلاوي
(Hussein Mahmoud Talawy)

2013 / 8 / 11
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


في الأسطر التالية، سنواصل إلقاء الضوء على بعض النقاط الرئيسية في فكر المفكر الفرنسي الراحل كلود هنري دي سان سيمون. وكنا في المقال السابق تناولنا نظرته في التاريخ وكذلك في التنظيم الاجتماعي. وفي هذا المقال، سوف نلقي الضوء على نقطتين أساسيتين أثارتا الكثير من الجدل في فكره، وهما الدين والطبقة الاجتماعية؛ بحيث نقدم إطلالة عامة على هاتين النقطتين، إلى جانب تقديم بعض الملاحظات على أفكاره في هاتين النقطتين.

الدين... أخلاق؟!
من بين النقاط المثيرة للجدل في المشروع الفكري للفيلسوف سان سيمون الدين؛ فهو يبدو في بعض الكتابات رافضًا للدين، بينما يبدو في البعض الآخر مؤيدًا تمامًا للدين وهو ما وضح في تأسيسه لما سماه "المسيحية الجديدة" في أواخر سني حياته، والتي كان الغرض منها دعم المبدأ الرئيسي في أفكاره وهو الصناعة والإنتاج من خلال تقديم الظهير الأخلاقي لعملية الصناعة.
وبشكل عام، تتسم أفكار سان سيمون في الدين برفض التدخل الديني في العلوم، بالنظر إلى أن رجال الدين يصرون على بعض الأفكار التي تتناقض مع المعطيات العلمية مثل حركة الأرض في مقابل ما يقوله رجال الدين من ثباتها، وغير ذلك من التناقضات. وبلغ رفض سان سيمون تدخل رجال الدين في العلم حدًا بلغ أن كان من مميزات المنهج الديكارتي أنه "لا يحتوي على أية فكرة منزلة"، وأنه وضعيّ تمامًا.
كذلك كان يرفض الجانب الأخلاقي في المسيحية والتي يقول إنها كانت تنحو منحًا سلبيًا مستشهدًا بمطالبة السيد المسيح عليه السلام للناس بألا يفعلوا للآخرين ما لا يحبون أن يُفْعَلَ بهم. فيرى فيلسوفنا في هذه المطالبة أمرًا سلبيًا؛ حيث يقول إنه من المفترض أن تكون المطالبة بـ"افعلوا"، مما يشيع الإيجابية والإنتاج والعمل في المجتمع. كذلك رفض ما في الديانة المسيحية — وغيرها من الديانات في الواقع — من تخويف بسوء المصير في حالة العصيان، لأنه كان يرى في ذلك عامل تأثير سلبي على الإنسان، مما يخفض قدرته الإنتاجية. في المقابل، دعا إلى أن تكون الأخلاق وضعية، حتى تكون ملائمة لطبيعة القرن الذي يعيش فيه وهو القرن التاسع عشر والقرون التالية عليه من هيمنة مبادئ الصناعة والإنتاج، مؤكدًا أن الأخلاق يجب أن تكون علمًا، ويتم ملاحظتها كأية ظاهرة تتم دراستها.
إذن، رفض سان سيمون تدخل رجال الدين في العلم، وكذلك رأى في الأخلاق المسيحية عاملًا ذا أثر سلبي على الإنتاج. ولكنه لم يرفض الدين كمبدأ، وإنما أكد أنه يؤمن بأهمية الدين ولكنه أراد أن يكون الدين مستندًا إلى أخلاق وضعية بحيث تلائم طبيعة المجتمع الصناعي، وكذلك أن يكون بعيدًا عن الأمور العلمية، الأمر الذي يمكن معه أن نقول إن "المسيحية الجديدة" التي ابتكرها سان سيمون كانت تحض على "الأخلاق الصناعية" أو "الأخلاق العلمية".
ويمكن التعقيب في عجالة سريعة على موقف سان سيمون من الدين بالقول إنه تأثر أيما تأثر بما كان سائدًا في وقته من الديكتاتورية الدينية الممثلة في الكنيسة الكاثوليكية، التي كانت تصادر حرية الرأي، وتعتبر نفسها المصدر الوحيد لكل أنواع المعرفة بما فيها المعرفة العلمية، وهو ما جعلها تصطدم كثيرًا مع العلماء من أمثال جاليليو الذي دخل في اشتباك مع الكنيسة كاد يودي بحياته عندما قال بدوران الأرض مقابل قول الكنيسة بثباتها، وهو الخلاف الذي انتهى بتراجع جاليليو بشكل ما عن أفكاره علنًا. كما يظهر تأثر سان سيمون بتعسف الكنيسة في فرض الوصاية الأخلاقية على المجتمع، وهو ما كان يتعارض مع حرية الفرد التي نادى بها سان سيمون.
هذا التأثر دفع سان سيمون إلى الشطط في رفض الأخلاقيات القادمة من الكنيسة، وكان حريًا به أن يرفض ممارسات الكنيسة نفسها لا أن يرفض التعاليم الأخلاقية. إلى جانب أن رؤيته للأخلاق المسيحية باعتبارها سلبية تدل على قصور في تفكيره إزاء تأويل هذه التعاليم الأخلاقية، التي يمكن تأويلها من زوايا إيجابية تشيع السعادة في المجتمع، وهو الهدف الأسمى لسان سيمون نفسه. لكن فيما يبدو أنه اختار الطريق السهل برؤية ظاهر الأمر دون الدخول في تأويلاته. أما فيما يتعلق برفضه تدخل الكنيسة في الشأن العلمي، فهو محق جزئيًا بالنظر إلى الإخفاق الكبير الذي سجلته الكنيسة في التعامل مع المنجزات والاكتشافات العلمية الحديثة مثلما هو الحال مع جاليليو.


الطبقة الاجتماعية... ديكتاتورية جديدة؟!
يرفض سان سيمون الديكتاتورية، ويسعى إلى تخليص الفرد من مختلف الديكتاتوريات سواء المالية أو الدينية. وبالتالي، سوف يكون من الغريب أن يدعو إلى تنظيم اجتماعي، يدفع فيه الأفراد إلى ديكتاتورية جديدة وهي ديكتاتورية طبقة الصناع أو المنتجين، والتي تجلت في ما أسماه كارل ماركس مؤسس الشيوعية — المتأثر بالأفكار السان سيمونية — "ديكتاتورية البروليتاريا"؛ أي "ديكتاتورية الطبقة العاملة". ولكي لا يكون حديثنا عبارة عن إلقاء اتهامات وانتهى الأمر، سوف نلقي نظرة سريعة للغاية على أفكار سان سيمون فيما يتعلق بالطبقية الاجتماعية، مع تعقيب سريع عليها.
يقول سان سيمون إن الطبقية الاجتماعية مطلوبة، وهو أمر كنت قد أشرت إليه في المقال السابق؛ حيث قلت إن سان سيمون "يرى أن النظام الطبقي يجب أن يقوم على العدالة الاجتماعية منعًا لطغيان طبقة على أخرى"، ويضيف أيضًا أن طبقة الصناع هي الطبقة التي يجب أن تسود حقًا لأنها لم تأخذ المكانة اللائقة بها في المجتمع. وعند هاتين النقطتين يجب أن تكون لنا وقفة.
فيما يتعلق بالنقطة الأولى، قلنا في المقال السابق إن مصطلح "الطبقة" "في حد ذاته يعني فوقية جزء على جزء آخر. وبالتالي، كان مصطلح "الفئات الاجتماعية" أو "المكونات الاجتماعية" أكثر عدالة وتعبيرًا عن واقع مجتمع متنوع ولكن لا أحد يعلو فيه على الآخرين، وهذا هو الهدف الأساسي لفكر التنظيم عند سان سيمون". ولا داعي للمزيد من النقاش طالما نوقشت هذه النقطة في المقال الأول.
أما النقطة الثانية فتتعلق بسيادة طبقة الصناع. هل يريد سان سيمون أن يستبدل بطبقة النبلاء في التنظيم الاجتماعي القديم طبقة الصناع؟! كيف يضمن سان سيمون أن هذه الطبقة لن تستفرد بالمجتمع فيما بعد لتصبح طبقة ديكتاتورية جديدة؟! إن من المآخذ الأساسية على التنظيم الاجتماعي لسان سيمون أنه لم يضع أطرًا تضمن عدم استفراد طبقة اجتماعية بالمجتمع من خلال إقصاء الطبقات الأخرى. وإذا كان يرى أن الأخلاق يمكنها أن تحل هذه الإشكالية، فهو يمكن أن يوصف بالإفراط في المثالية في هذه الجزئية. لماذا؟! لأنه يعتقد أن المجتمع سوف يقتنع بالأخلاق ويطبقها لدرجة تجعل من غير المطلوب من الحاكم أن يفرض الأوامر وتصبح إدارة المجتمع أمرًا تلقائيًا تنتفي معه في مرحلة من المراحل الحاجة إلى وجود منظومة قضائية وقانونية.
كذلك فإن التنظيم الاجتماعي لسان سيمون وضع الإنتاج والصناعة معيارًا أساسيًا لتقدم المجتمع، ولكنه لم يشر إلى الكيفية التي سيتم بها التعامل مع "الفئات" — لا الطبقات — غير القادرة على الإنتاج من المعاقين والمسنين. فهل سيتم إقصاؤهم من المجتمع أم ماذا؟! وهذا السؤال يكتسب مشروعية بالنظر إلى أن مفكرنا يرى أن الطبقة الصانعة هي التي تستحق المجد في المجتمع؛ فهل الأفراد الذين اضطرتهم ظروفهم إلى الخروج من هذه الطبقة يستحقون الموت كما هو الحال في إسبرطة؟! لم يجب سان سيمون على هذا السؤال تاركًا فجوة كبيرة في تنظيمه الاجتماعي.

مجتمع مثالي؟!
في هذه العجالة السريعة، ألقينا الضوء على ركيزتين رئيسيتين للمشروع الفكري لسان سيمون، وهما الدين والطبقة الاجتماعية، مع بعض الملاحظات على هاتين الركيزتين. ولكن في الختام، يبقى سؤال: هل كان سان سيمون يطمح إلى بناء مجتمع مثالي؟! سوف نلقي الضوء في المقال القادم إن شاء الله على هذه النقطة، مع الانطلاق منها إلى الحديث عن المجتمع المثالي بشكل عام، وموقف الدين منه ولكن هذه سلسلة مقالات أخرى إن شاء الله.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المكسيك: 100 مليون ناخب يختارون أول رئيسة في تاريخ البلاد


.. فاجأت العروس ونقر أحدها ضيفًا.. طيور بطريق تقتحم حفل زفاف أم




.. إليكم ما نعلمه عن ردود حماس وإسرائيل على الاتفاق المطروح لوق


.. عقبات قد تعترض مسار المقترح الذي أعلن عنه بايدن لوقف الحرب ف




.. حملات الدفاع عن ترامب تتزايد بعد إدانته في قضية شراء الصمت