الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأخ الكبير يراقبك.. اِدّعِ الجنون، لكي تمسك بالحكمة

نضال شاكر البيابي

2013 / 8 / 18
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


رغم الطابع السوداويّ الذي اتسمت به رواية جورج أورويل "1984" إلاّ أنها نجحت نجاحاً مذهلاً في الإجابة عن السؤال المؤرق: كيف يفكر النظام الشمولي/ الأخ الأكبر؟!
لقد أراد أورويل أن يقول ببساطة: إنّ قهر الإنسان بالخوف وقهره بالجهل في آن معاً هو جوهر كل حكم شمولي. الحكم الشمولي في رواية أورويل كان متجسداً عبر تلك السلطة الرقابية التأديبية للأخ الكبير التي كانت بالأساس في خدمة الاستعباد والموت. وطبيعة هذه السلطة هي طبيعة إلهية، إذ إنّها قوة مبثوثة في قلب المجتمع بكل مستوياته، ولكنها لا تتجلى إلّا من خلال الترغيب والترهيب، أو التحريم والتشجيع، الأخذ والعطاء، واللعب والمداورة. إنّ نظام الإكراه هو عمودها الفقري، فهي تستهدف إرساء قواعد معممّة تقصي كل انحراف، وأن "يعيش" المواطن تحت هاجس المراقبة الدائمة: الأخ الكبير يراقبك! فكل همس أو حركة تصدر عنك فهي مرصودة، الأخ الكبير يراقبك. "عيناه تلاحقانك. في كل مكان، وصوته يحيط بك، سواء أكنت مستيقظاً أو نائماً، داخل منزلك أو خارجه، في الحمام أو في الفراش، لا فرق، ولا مهرب لك من الأخ الكبير"، وعبر هذه القوة الخفية التي ترتكز عليها المؤسّسات الرسمية في مجتمع يستفحل فيه الخوف المستديم وتُصادر فيه الحقوق والحريّات، كثفت سلطات رقابية رهيبة، إذ لا وجود لهيمنة إلاّ من خلال هذا الكيان الغامض "الأخ الكبير". فالضمير الغائب لا يتجسد إلاّ عبر كيان السلطة التي تملك حق الإحياء والإماتة، إنه الوجود الشبحي الأكثر إثارة للذعر، لأنه غير قابل للقبض عليه، كما أن "تجلياته" تفلت من أي سيطرة. إنه الاحتجاب الأكثر حضوراً في نسيج الجسم الاجتماعي إلى أصغر خلاياه.
فغاية السلطة هي السلطة كما يقول أورويل، فهي في نهاية المطاف لا تريد سوى الولاء وحتميّة حب الأخ الكبير، والولاء كما تقول إحدى شخصيات الرواية هو انعدام التفكير، بل انعدام الحاجة للتفكير، الولاء هو عدم الوعي.
لا يوجد بين "المواطن" الذي انحطّ إلى مرتبة الشيء والأخ الكبير سوى الصمت أو الموت، التمويه أو حبل المشنقة، ولذا ليس ثمة فعل ممكن، من دون شيء من التمثيل، إذ لا يمكن بوجه عام أن يُفصح الأدنى عمّا يعالجه في طواياه إلا بصورة مموّهة، لا سيما حين يعتقد بأن "الأخ الكبير" قادر على تحطيمه تماماً. ومن يمكنه أن يجادل حينئذ بأن صمتاً زائفاً باعتباره اعترافاً بسلطة ما، قد يكون أحياناً أكثر "أصالة" من قول "الحقيقة" في عالم يترنح بين أحضان الموت؟!
حين تتسلط على الإنسان وساوس قهرية، أو يهمين عليه رعب من شيء محدد لا يكف عن تهويله وتضخيمه، فإن ذلك لا يعزله عن نفسه ويشل قدراته جميعاً ويحول دون تمثل الواقع أو الحقيقة فحسب، وإنما يولد نوعاً من الانفصام عن واقعه، حيث تسود الخرافة والأوهام ومشاعر الذنب والخوف المستديم. في هذه المرحلة تبدو الأوهام والعبارات الهاذية وكأنها حقائق راسخة، وإن كانت لا تخلو من منطق بمعنى ما، غير أنه منطق نسجته المخاوف المرضية وإرادة الأخ الكبير. هذا الهذيان الذي يشكّل الأساس الخفي لحقيقة الخوف المرضي ومصدره الدفين، وهو ما ينكشف عبر العنف وغرائب السلوك التي قد تبدو للوهلة الأولى غير مفهومة ومنحرفة عن جادة الصواب. إنه يخضع لإرادة الأخ الكبير فيما يُفصح من جهة أخرى عن نفسه، ويناقضه وينفيه في الوقت نفسه بشذوذه وخروجه عن قواعده. فالخطاب وفقا للتحليل النفسي ليس فقط ما يظهر أو يخفي الرغبة، لكنه أيضاً موضوع الرغبة، فهو "السلطة التي نحاول الاستيلاء عليها". مع ذلك هو يؤسس حقيقته من خلال مقاومات عشوائية لا تتوخى هدفاً بعينه سوى تجاوز إرادة الأخ الكبير ولو على نحو موارب، إلا أنها حقيقة لا تظهر إلا حينما يتدنى الإنسان إلى مستوى الشيئية. ولعل المبالغة في التقوى والتدين التي تؤدي إلى الهلوسة وتفريغ العنف المكبوت، أو في الانحلال والإباحية التي تؤدي عادة إلى إيقاظ كل الغرائز البهيمية البالغة الضراوة، قد تكون شكلاً من أشكال المعارضة اللاشعورية في مواجهة قواعد الأخ الكبير.
إنّ فن التمويه هو الإطار المألوف لكل حيز اجتماعي تشغله صراعات السلطة. وكلما كان الآخر خطراً، كان القناع أسمك. وكما وضح ذلك علم الاجتماع بشأن ( تقمص الأدوار ولعب الأدوار)، إذ نتقمص أدواراً اجتماعية مختلفة، في المنزل، وفي علاقات الحب، والعمل، ومع من هم أعلى منا، وأدنى منا مرتبة وظيفية، ومع أصدقائنا وهكذا دواليك. وعليه، فالعسكري الصغير الذي يخضع إلى سيده يمسي مستبداً متعجرفاً وسادياً مع أفراد الشعب. فمن خلال لعب دور المتسلط أو تمثيل عدوانه أو استعارة صفاته يتحوّل المقهور من كائن مهدد إلى كائن مخيف ومهدِّد، كما يقول حجازي، وفي ذلك "مرور من الدور الفاتر العاجز إلى الدور الفعال، بغية الوصول إلى استيعاب الأحداث المؤلمة والصادمة. في كل حالات التماهي ثمة قلب للأدوار، فتتحول الضحية إلى معتد من خلال نقل دور الضحية أو وضعيتها إلى شخص آخر تفرض عليه الدور المزعج، ويصبح موضوعاً للتشفي من ناحية، وللتنكر من المخاوف الذاتية من ناحية أخرى".. ولا غرابة بعد ذلك، أن يحدث هذا التناقض في قلب المجتمع تصدّعاً يتسلل منه الاغتراب، الاغتراب الذي يؤدي إلى إخضاع الذاتية الفردية وطمس تلقائيتها أو تدفقها الحر، وجعل كل إرهاصات التحرر في حالة موت سريري: حب الاستطلاع والقدرة على التعلم ذاتياً، والقدرة على الشك، والابتكار والإبداع، والوعي المتفكر، والوعي الأخلاقي.
في نص قديم يعود إلى الهند البوذية يستهدف إخبار السيد بالأمور التي تتوارى خلف الخطاب المعلن:" إن عبيدنا يبدون بتصرفاتهم الجسدية أموراً، وبكلامهم أموراً أخرى، لكن في أذهانهم أموراً ثالثة". إنّ ما يمكن أن يُفصح عنه في حقل معين، هو حصيلة ما يُطلق عليه بيير بورديو "رأس المال". رأس المال الذي يُمكن أن يكون نفوذاً سياسياً أو دينياً أو طبقياً أو قبلياً أو ثقافياً، الذي يحدد ما يجب وما لا يجب أن يُقال، وما لا يُمكن وصفه وما يُمكن أن يُقال بسهولة إلى حدّ ما لكنه خاضع للرقابة، أي ما لا يمكن تَسميته. الخطاب السلطوي، كخطاب السياسي، والواعظ، وكذلك المثقف، وإن كان أحياناً غامضاً وملتبساً، تكمن كل قيمته في قدرته على التعمية وإخفاء آليات السلطة، وإضفاء فضائل متعددة عليها، شريطة أن يُعترف به كخطاب نفوذ، أي من خلال المؤسسات الرسمية التي تحتكر رأس المال، أساس القوة أو السلطة الخاصة لحقل ما، ومن ثم تسمح بإنتاجه وتداوله في المجال. فكل خطاب وحتى بعض الخطابات الإصلاحية، هو نتاج صفقة بين "المصالح التعبيرية المحددة بواسطة المواقع التي شغلها المعبرون عنها في المجال، والقيود البنيوية للمجال التي تعمل بوصفها جهاز رقابة.." بهذا المعنى لن يدخل أحد في نظام الخطاب إذا لم يكن متسقاً مع المتطلبات الرسمية، لأن كل مناطق وحقول الخطاب ليست "مشروعة" بنفس الدرجة، كما أنها ليست قابلة للاختراق بنفس الدرجة أيضاً. إذ إنَّ بعضها محمي ومحظور علانية، لا سيما تلك المناطق التي أحكم السياج حولها: السياسة والدين والجنس.
بيد أن البعض الآخر يبدو "مشروعاً" ومتاحاً لكل الذوات المتكلمة. وفي هذا الحيز المشروع الذي تبدو فيه الجماعة منسجمة بوعي أو بلا وعي مع إجراءات أنظمة السيطرة الرسمية، سواء فيما يتعلق بالاستبعاد أو التحوير أو المنع، لا يمكن أن تقال أية حقيقة إلاّ على شكل همسات، أن تعرف ولا تعرف، أن تجهض المنطق بالمنطق، "أن تعي الحقيقة كاملة ومع ذلك لا تفتأ تنسج الأكاذيب محكمة البناء"، وفي هذا الحيز أيضاً، سوف تخضع جل فعاليات إنتاج وتبادل الخطابات إلى عملية تلطيفية تراعي الرسميات والذوق العام وافتقار "الأخ الكبير" إلى الحكمة بالطبع، وذلك لجعل أشد الدوافع التعبيرية غير المقبولة قابلة للكلام في حالة معينة للرقابة، بل يتحتم على كل "منتج" في الحقل الاجتماعي أن يتآلف مع المؤسسة الرسمية، وأن تكون أحلامه وحتى أوهامه تعبيراً عنها، ضمن حدود القيود التي تفرضها وحدها.
ولقد لاحظ علماء الاجتماع اللغوي، فيما يتعلق باستخدام اللغة وعلاقته بالسلطة، أنه حين يكون الخضوع متطرفاً، خاصة عندما تسيطر قوى العدم والخواء المخيف على عقلية الإنسان، مما يجعله فريسة سهلة في قبضة الكوابيس والهلوسات التي لا تنتهي، كما في حالة العبودية والتمييز العنصري، يلاحظ غالباً أن التلعثم يكون شائعاً. وهو تلعثم "لا يعكس عجزاً في النطق، طالما أن المتلعثمين يتحدثون بكل طلاقة في ظروف أخرى، بل يعكس نوعاً من التردد الناتج عن الخوف في مجال إنتاج الصيغة الكلامية الصحيحة... ". إنَّ الاختلالات الناجمة عن مختلف أنواع الخوف المرضي، تنتج خطاباً في العلن يكون منسجماً مع الكيفية التي يريد النظام المهيمن للأمور أن تبدو عليه. وحين تنتهك كرامة المرء وخاصة بشكل علني من قبل شخص ذي قوة أو سلطة عليا، فإنه غالباً ما يستعيد المشهد في مخياله، ولكن مع شيء من التحريف أو إعادة بناء المشهد برمته، حيث يبدو فيه وكأنه انتقم لكرامته المهدرة، ولكن هذه الاستعادة لا تعدو كونها استيهامات تتعلق بالثأر والمجابهة وبعالم ينقلب رأساً على عقب!
"اِدّعِ الجنون، لكي تمسك بالحكمة" هذا هو المثل المفضل الذي يتداوله العبيد الجامايكيون، ولكن سيكتشف أولئك العبيد الذين يجبرهم القمع القتّال على اللجوء إلى حيلة القناع، أن القناع أصبح بفعل التعزيز المتواصل انعكاساً فعلياً للذات، إذ إنَّ التمويه من شأنه أن ينتج في نهاية الأمر منطقه السيكولوجي الخاص ومسوغاته العقلية، التي يمكن أن تجعل من التفكير المزدوج بناءً "منطقياً" محكماً ولو كان محشواً بالأكاذيب. وهكذا كان مصير ونستون بطل الرواية، حين حدق في الوجه الضخم، ولقد استغرق الأمر منه أكثر من أربعين عاما حتى فهم معنى الابتسامة التي كان يخفيها الأخ الكبير تحت شاربيه الأسودين وقال في نفسه: أي غشاوة قاسية لم تكن مبررّة تلك التي رانت على فهمي، وعلام كان العناد والنأي من جانبي عن هذا الصدر الحنون. وكان لسان حاله يقول: لكن لا بأس، لا بأس فقد انتهى النضال، وها قد انتصرت على نفسي وصرت أحبّ الأخ الكبير!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الأستاذ نضال شاكر البيابي المحترم
ليندا كبرييل ( 2013 / 8 / 19 - 07:28 )
مقال ممتع . شكراً على التحليل العميق. تفضل تحيتي واحترامي

اخر الافلام

.. ريبورتاج: تحت دوي الاشتباكات...تلاميذ فلسطينيون يستعيدون متع


.. 70 زوبعة قوية تضرب وسط الولايات المتحدة #سوشال_سكاي




.. تضرر ناقلة نفط إثر تعرضها لهجوم صاروخي بالبحر الأحمر| #الظهي


.. مفاوضات القاهرة تنشُد «صيغة نهائية» للتهدئة رغم المصاعب| #ال




.. حزب الله يعلن مقتل اثنين من عناصره في غارة إسرائيلية بجنوب ل