الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التعليم في سوريا ومشكلاته

عفيف رحمة
باحث

2013 / 8 / 20
التربية والتعليم والبحث العلمي


في عصرنا الحاضر، وفي إطار هذه العلاقة العضوية بين الجامعة وقضايا مجتمعاتنا الموصوفة بالعالم الثالث، تظهر أهمية مساهمتها الفعلية في عملية التنمية الشاملة، ومن هذه الضرورة الموضوعية يمكن أن نقييم واقع الجامعة وجدوى فعلها في عملية التطوير، ومدى توافقها مع مفهموم التنمية الشاملة الذي عرفته هيئة الأمم المتحدة على أنه "النمو والتغيّر اللذان تتكامل فيهما جميع أوجه النشاط الإقتصادي والإجتماعي، وتتضمن جميع الإجراءات والوسائل والأساليب التي تتخذ لزيادة الإنتاج من الموارد الإقتصادية المتاحة والكافية لرفع مستوى معيشة الفرد والمجتمع، مع تنظيم عمليات التنمية بشكل يحقق الكفاية والعدل، ويحقق أحسن إستخدام للموارد الإقتصادية والبشرية".

فهل تجتهد وتعمل جامعاتنا ضمن هذا المنظور ؟! وهل تحقق مهامها في إعداد القوى البشرية بالمستوى العلمي والفني والمعرفي اللائق لإنخراط شبابنا في عملية التنمية؟! وهل تقدم ما يلزم لإنتاج كادر مؤهل ليخوض في المستقبل غمار البحث العلمي الذي أثبتت ضرورات التنمية أهميته الحيوية؟!

تطور كمي وتراجع نوعي!
من حيث الكم، تطورت الجامعات الحكومية وقدرتها الإستيعابية بشكل مترافق مع توسع جغرافي تجاوباً مع سياسة تحقيق المزيد من العدالة العلمية والمعرفية، وبتحول نوعي في منهجية التفكير السياسي إستحدثت الجامعات الخاصة في بدايات القرن الواحد والعشرين لتساهم حسب رأي المشرع في إستكمال عملية التطور الكمي، ولكن ماذا عن التطور النوعي؟!
في عمليات تصنيف الجامعات في العالم تعتمد المؤسسات المهتمة على عدد من المعايير في عملية التقييم منها: تواجد الجامعة وأعضاء هيئتها التعليمية على صفحات الشبكة العنكبوتية، قيمة المعلومات الواردة في هذه الصفحات ومدى أهميتها التبادلية مع صفحات الجامعات الأخرى، التبادل العلمي الأكاديمي فيما بين أعضائها، القيمة العلمية للأوراق العلمية المنشورة بين عامي 2007 و 2011، تأثير أهم هذه الأوراق العلمية في مجال تخصصها....

ضمن هذا إطار وحسب مؤسسة Ranking web of university(الإسبانية المستقلة)، جاءت جامعة دمشق (الأولى في الترتيب الوطني) في الترتيب 3400، في حين كان ترتيب معهد التكنولوجيا في بومباي الهند 492، جامعة استنبول في تركيا 500، لوس أنديز في فنزويلا 599، جامعة طهران في إيران 645، القاهرة في مصر 796، النجاح الوطنية في فلسطين 1030، هافانا في كوبا 1331، القديس يوسف في لبنان 1813، صنعاء للعلوم والتكنولوجيا اليمن 3706، بغداد في العراق 4341، في حين جاء ترتيب الجامعة العبرية في القدس 213.

تردي المكانة العلمية للجامعات السورية
لعل أهم ما يمكن الإنطلاق منه في تفسيرنا لواقع الجامعات السورية مؤشر النسبة بين العدد الإجمالي للطلاب إلى عدد أعضاء الهيئة التدريسية، حيث نجد أنه على المستوى الداخلي تأخذ جامعة دمشق القيمة 37.4، جامعة حلب 57.7، جامعة تشرين 47.4 و 59.3 لجامعة البعث (الحساب مبني على معلومات عن وزارة التعليم العالي).
أما على مستوى الدول العربية وبإعتماد مؤشر وسطي عام، تأخذ سوريا المعدل 45.5 (بمن فيهم المعارين) في حين أن النسبة 8.9 في العراق، 15.1 في لبنان، 17 في المملكة السعودية، 20.7 في الإمارات، 22 في مصر، 26.8 في المملكة المغربية، 29.1 في المملكة الأردنية، 29.9 في اليمن، 43.4 في فلسطين، ونحو 33.4 في الجزائر، و 57.5 في السودان. (مصدر المعلومات: إتحاد الجامعات العربية لعام 2012).

في سياق هذا الإحصاء لا بد من الإشارة إلى:
1- إن وجود عدم دقة في بعض المعطيات المستمدة من مصدر إتحاد الجامعات العربية إنما يدل على عدم جدية التعاون العربي على صعيد العمل المؤسساتي،
2- لم يؤخذ بالإعتبار أعضاء الهيئة التدريسية في الجامعات الخاصة السورية لعلمنا أن هذه الجامعات لم تستكمل بعد بناء كادرها التدريسي وما زال أغلب إعتمادها على أعضاء الهيئة التدريسية المعارين من الجامعات السورية الرسمية.
3- لابد هنا من التنويه إلى أن إفتتاح جامعات خاصة عالج جانب بسيط من عملية الإستيعاب الكمي لكنه إنعكس سلباً على الجانب النوعي وجودة التعليم الذي سعت السلطات لتطويره في العقود الماضية، وذلك بسبب تسرب أو إعارة عدد كبير من أعضاء الهيئة التدريسية من الجامعات الحكومية إلى الجامعات الخاصة والذي تجاوز نسبة 20% في الكليات العلمية.

أما نسبة أعضاء الهيئة التدريسية لكل مليون مواطن فتدل الإحصاءات على أن المعدل في سوريا 322 في حين أخذ هذا المعدل القيمة 124 في المملكة المغربية، 165 في السودان، 251 في الإمارات العربية، 265 في اليمن، 275 في الجزائر، 743 في لبنان، 751 في المملكة السعودية، 896 في العراق، 899 في مصر، 1115 في المملكة الأردنية، 1260 في ليبيا. علماً بأن جامعة دمشق تأسست عام1923 وهي أول جامعة في العالم العربي، يأتي بعدها جامعة القاهرة التي تاسست عام 1925.

فقد الرؤية وضعف في الإنفاق
هذا التردي العلمي للجامعات السورية ما هو إلا محصلة عدم إدراك راسمي السياسات للقوانين الجدلية بين التوظيف الكمي ودوره في التغير النوعي المعتمد كمؤشر في التنمية الشاملة، وهذا ما نجده في معدل الإنفاق لتمويل عملية التعليم العالي، فمعدل الإنفاق الحكومي في سوريا كنسبة مؤية من الناتج المحلي الإجمالي لم يتجاوز نسبة 4.9%، في مقابل 13.6% في كوبا، 5.7% في المغرب، 5.7% في المملكة السعودية، 5.3% في فييتنام، 5.2% في اليمن، 4.8% في إيران،4.5% في ماليزيا، 4.3% في الجزائر، 3.8% في مصر، 3.7% في فنزويلا، 3.5 في أندونيسيا، 3.2% في الهند، 2.9% في تركيا، 2% في لبنان، 0.9% في الإمارات، و 6.4% في إسرائيل،. (مؤشرات معهد اليونيسكو للإحصاء عن عام 2008، تقرير 2010).
هذا الضعف في الإنفاق العام ما هو إلا ضعف في الرؤية لدى الهيئات التربوية والتعليمية لأهمية العملية التربوية والتعليمية ودورهما المحوري، ولعل أهم مؤشر لنتائج هذا الفقر في الرؤية السياسية مؤشر متوسط عدد سنوات الدراسة، فبناء على إحصائيات سنوات الدراسة في الأعوام العشر الماضية قدر متوسط سنوات الدراسة لعام 2012 بِ 5.7 سنوات (و 4.9 لعام 2010) في سوريا، في حين قدرت في كوبا 9.9، ماليزيا 9.5، الإمارات 9.3، لبنان 7.9، المملكة السعودية 7.8، فنزويلا 7.6، إيران 7.3، الجزائر 7، تركيا 6.5، مصر 6.4، أندونوسيا 5.8، فييتنام 5.5، المملكة المغربية 4.4، الهند 4.4، اليمن 2.5، في حين وصلت في إسرائيل إلى 11.9. (إحصاء برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لعام 2011). ما هو مثير للإهتمام أن معدل الإلتحاق بالمؤسسات التعليمية لجميع المستويات في كوبا لمتوسط الأعوام 2001-2009 جاور متوسط معدلات دول العالم الأول.
هذا الواقع المتردي للتعليم في سوريا يفسر لنا أسباب التراجع في عملية التنمية الشاملة، حيث يدل تقرير برنامج الأمم المتحدة للتنمية لعام 2011 والذي تناول قضايا التعليم والتنمية في 187 دولة، أن سوريا تأتي في المرتبة 119، الإمارات 30، كوبا 51، المملكة السعودية 56، ماليزيا 61، لبنان 71، فنزويلا 73، إيران 88، تركيا 92، الجزائر96، مصر 113، أندونيسيا 124، فييتنام 128، المغرب 130، الهند 134، اليمن 154، في حين تحتل إسرائيل المرتبة 17 (إحصاء برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لعام 2011).

جزء بسيط من المؤشرات يفتح لنا الباب من أجل تقييم موضوعي لواقع التعليم في الجامعات السورية، نسبة لدول عربية أخرى مثل مصر، لبنان والعراق أو دول تعيش ضمن مناخات سياسية مشابهة مثل إيران كوبا وفنزويلا. فما هي المنصات التي يمكن أن نحدد عبرها العوامل التي تساهم في تردي أوضاع التعليم العالي وعدم القدرة على تحقيق قفزة جدية في مشروع التنمية والنهضة الوطنية، وما هو الذاتي فيها من الموضوعي؟

من المدرسة إلى الجامعة
خارج إطار المعايير المعتمدة في تقييم جودة التعليم العالي والمستوى الفني للجامعات، يمكننا الإشارة إلى جملة من العوامل التي تؤثر على منظومة التعليم العالي بشكل مباشر أو غير مباشر، أهمها ما يعود بجذوره لمرحلة التعليم الأساسي والثانوي الذي لا يشك أحد بحاجته لمراجعة عامة وشاملة وإعادة صياغة لمجمل قضاياه مثل أولويات التعليم وعلاقتها بالعملية التنموية، الطرق التربوية في نقل المعلومة، شكل توظيف المعلومة وإبراز أهميتها العلمية والمعرفية، التعامل مع المعلومة من منظور حركي لا منظور سكوني، التعامل مع الطالب وكيفية تحريض وعيه الإبداعي وتوجيهه نحو المبادرة والتحليل والإستقراء، التبادل المعرفي بين الطلبة،...
هذا الخلل غالباً ما ينتج تلميذاً ذات مستوى علمي ومعرفي متدني أو مقولب يعتمد على الإستظهار بدل التشخيص التقليد بدل التحليل والإبتكار، تلميذ غير قادر على تطوير المعلومة وإستثمارها، وهذا ما يفسر معاناته في فهم الرياضيات المتقدمة، إستيعابه للتكنولوجيا الفائقة، الربط التكاملي بين المعلومات...، عدم إتقانه للغات الأجنبية وحسن توظيفها في عملية التلقي العلمي...

عوامل أخرى ترتبط بالمرحلة الإنتقالية من المدرسة إلى الجامعة التي تبدأ بنظام القبول الجامعي الذي لم يستطع الخروج من مركزيته المفرطة المرتكزة على شرط علامة النجاح في الشهادة الثانوية التي أثبتت أنها تعبير عن قدرة الطالب على الحفظ لا على التفكير الإبداعي والتحليل المنطقي، ومما هو لافت للإنتباه أن للجامعة محاولات عدة للبحث عن أسس أخرى لنظام القبول الجامعي إلا ان جميع محاولاتها كانت تعود لتصب في ذات المسار مع تعقيدات غير مبررة وعدالة إجتماعية غير محققة ولتنتهي من حيث بدأت مع نظام التوجيه القصري لآفاق مستقبل الطلبة.
غير أن إشكالية أخرى تعترض الطالب من لحظة إنتقاله من المرحلة التربوية وبناء الشخصية إلى مرحلة التعامل مع المعلومة وحسن إستثمارها، حيث يقف منذ لحظة دخوله الجامعة في مواجهة صدمة علمية ومعرفية يرافقها تبدل نوعي في نظام التعليم (حضور، دوام، علامات، طرق الإختبارات والإمتحان، آليات وضوابط النجاح...) وطبيعة العلاقات الجامعية (العلاقة مع الأستاذ والزملاء...)...إلخ، وما أن يتمكن من وضع منهجية خاصة به للتفوق على مركبات هذه الصدمة حتى يقف امام صدمة جديدة تمس جانب الثقة بالذات وقضية العمل وأفق بناء المستقبل... ولعل تزاوج هذه القضايا معاً يأتي لينمي ظاهرة التسرب الدراسي الذي يساهم من جديد في تفاقم عدم الثقة بالذات وبالمستقبل.

من الجامعة إلى سوق العمل
إن ما نقرأه من مؤشرات عن مستوى التنمية في سوريا وعن تراجع مستوى التعليم العالي، إنما يأتي كنتيجة للتراجع في السياسات الإنمائية والإنجراف نحو الليبرالية اللاواعية التي عملت على زيادة التباين الطبقي والفقر في المجتمع السوري حيث تدل الإحصاءات الصادرة عن الأمم المتحدة أن سوريا إنتقلت ضمن البلدان النامية (التسعون) وخلال تسع سنوات فقط من المرتبة 34 في معدلات الفقر في عام 2001 إلى المرتبة 56 عام 2009
وما هو لافت للإنتباه أن جميع الحكومات منذ الإستقلال حتى الآن تتغنى بكفاءة الجامعي والفني السوري وإنتشاره في الدول الغربية والسوق الخليجية، معتبرين أنهم كثروة بشرية جزء من منظومة الإقتصاد السوري ورافداً من روافده الهامة. أما السلطات السياسو-علمية فتتباهى بأنها تغذي السوق المجاورة ومخابر البحث العلمي في البلدان المتقدمة بجامعيين من صناعة سورية.
نظرية إنتهازية خالصة تحاول الحكومات الترويج لها لتهرب نحوالأمام في عملية تغطية لبؤس سياساتها الإنمائية، في الوقت الذي يفترض فيه أن تتوجه نحو تثبيت الجامعي بإعتباره ثروة بشرية وقوة محركة للعجلة الإقتصادية ومشاريع الإنماء الوطني بتبنيها سياسات وطنية صحيحة تحقق النمو والإزدهار الوطني الذي بحث ويبحث عنه الجامعي مرغماً في الغرب أو في دول الجوار.

الإخفاقات ومسارب الفساد
ما هو لافت للإنتباه أن جميع رؤساء الجامعات الذين إنتقلوا من العام إلى الخاص، أدلوا بدلوهم في إنتقاد عطالة المؤسسة التعليمة في الجامعات الحكومية، فها هو رئيس جامعة دمشق في مقال له في دام بريس، بعد أن إنتقل إلى الخاص، ينتقد الإجراءات التي إتخذت بشأن الدراسات العليا في زمن كان فيه مقرراً ومشاركاً بمثل هذه القرارات؟! شيء يدعوا للحيرة!
إن ما يمكن أن نجزم به أنه ضمن أطر منظومة الإدارة الجامعية المعتمدة حتى الآن لم تستطع أي إدارة جامعية أن تحقق نقلة نوعية للإرتقاء بجامعاتنا إلى المستوى الذي يليق بأبناء، وما يؤكد هذه الرؤية التراجع الذي تشهده سوريا على مستوى التنمية رغم كل ما يقال عن محاولات للإصلاح، فها هي سوريا تتراجع في التقييم الإحصائي لمنظمة اليونسكو حول التنمية البشرية الذي يجري سنوياً على نحو 187 دولة، من المرتبة 72 عام 1991 إلى المرتية 119 عام 2011، أي بتراجع 47 موقع على الصعيد العالمي خلال عشرون عاماً، في عام 1990 كانت تسبقها إيران ويتبعها الصين واليوم يسبقها غوايانا وبوستوانا ويتبعها نامبيا. في حين تتقدم كوبا من المرتبة 62 إلى المرتبة 51 وإيران من 92 إلى 88 وإسرائيل من 21 إلى 17. فمن اين تأتي هذه العطالة في المؤسسة الجامعية ، وما هي مسارب الفساد التي تنخر هذه المؤسسة التي قارب عمرها المئة عام؟

التعليم والهم المعيشي
أحد أهم هذه المسارب سيطرة الهاجس المالي والسعي لتحسين الوضع المعيشي لدى مختلف سويات الهيئة التدريسية، حالة مستدامة ساهمت بشكل جوهري في إنخفاض الكفاءة العلمية وجودة الأداء التعليمي، كما أسست لمبررات التسرب وعدم الجدية والدفع بقضية البحث العلمي إلى المرتبة الأخيرة في سلم إهتمامات عضو الهيئة التدريسية وفي بعض الأحيان جعلها من المنسيات.
وإذا كانت هذه الظاهرة ذكورية بمجملها فإن فكرة الجمع بين المطبخ وتربية الأطفال والعمل الوظيفي أنثوية بإمتياز، خيار دفع بكثيرات للعمل في الحقل التعليمي حيث المرونة بالتوقيت والدوام وتسخيف للمهام والواجبات العلمية.
ما عزز إنسلاخ عضو الهيئة التدريسية عن المهام الأكاديمية والبحث العلمي إنخراطه الواسع في"نظام العمل المهني" الذي وسعت آفاقة اللائحة التنفيذية لقانون تنظيم الجامعات (المرسوم رقم 250) حين إعتبرته حلقة أساسية من حلقات نشاط عضو الهيئة التدريسية، حيث ورد في المادة 54 أن للجامعة التعاقد من أجل تقديم الخبرة والمشورة الأكاديمية والتعاقد على إجراء البحوث والدراسات العلمية النوعية المتميزة وكذلك التدقيق العلمي المميز والتأهيل والتدريب، رغم أن هذه المادة لا تنسجم تماماً مع المادة 93-آ-1 من قانون تنظيم الجامعات.
نظام كان يفترض أن توضع ضوابطه ومعاييره بما يخدم الحركة العلمية والإستشارية، غير أن التعليمات التنفيذية لتطبيق أحكام قانون ممارسة المهنة، الصادرة بقرار من مجلس التعليم العالي والتي وضعت على قياس البعض، جاءت لتفتح الشهية نحو المزيد من الكسب المادي، تشريعات ساهمت بشكل فعال في تنامي الفساد وتحول العلاقات الأكاديمية إلى علاقات مهنية بحتة قائمة على التسويق والتنافس المهني وقوانين العرض والطلب.

الذاتي والموضوعي
ليس من العلمية بشيء في تحليلنا لمشكلات التعليم العالي إرجاع هذه المشكلات جذرياً إلى الأنظمة والقوانين فمهما كان القانون قاصراً أو لا يلبي مجمل متطلبات التنمية فلا بد وأن يؤثر ولو بالجزء اليسير في هذه عملية الوطنية.
تكمن المشكلة في كيفية التعامل مع هذه الأنظمة، ذلك أنه بعد صدور أي قانون أو قرار وفي بيئة حاضنة للفساد يسعى المعنيون بتطبيقه إلى تدوير زواياه أو إعادة إنتاجه عبر اللوائح والتعليمات التنفيذية أو قرارات المجالس، اللاموضوعية في بعض الأحيان أو المشخصنة في أحيان أخرى بما يحقق مصالح الأرستقراطية، سياسية كانت أم إجتماعية، و أصحاب السطوة والنفوذ !
واقع تنامى بشكل مريع عبر العقود الأربع الأخيرة نتيجة المركزية المطلقة، وغياب الديمقراطية والشفافية، وعدم إستقلالية الإدارات العلمية، وإنصياع السلطة العلمية لأهواء السلطة السياسية (بحكم المادة الثامنة من الدستور) وسيطرت الهيئات الحزبية على مختلف المجالس وما تصدره من قرارات علمية منها أو تنظيمية.

المنهجية العلمية
هي أولى المفاهيم التي نرتكز عليها في تقييمنا لأي جهد علمي، وهو ما يجب أن يرتكزعليه أعضاء المجالس حين إتخاذ قراراتهم، فهل ما يصدر عن مجالس التعليم العالي ومجالس الجامعات مبني فعلاً على المنهجية العلمية، وهل ما يصدر من قرارات يستند فعلاً إلى الموضوعية العلمية، وإن كان نعم! فلماذا نشهد بشكل دائم ومتواصل تصدير أنظمة وقوانين متبدلة ومتناقضة، هل لأن الأنظمة والقوانين لم تعد تستوفي الشروط الموضوعية، أم لأنها لم تكن يوماً موضوعية بل شخصية، أم لأنها موضوعية ولكنها طبقت بطرق غير علمية وغير موضوعية ؟!
وماذا عن تصدير قرارات مجالس ثم نسخها بقرارات أخرى،... سن التقاعد، أنظمة الترفيع الأكاديمي، التأليف العلمي، نشر الأوراق العلمية، البعثات قصيرة الأمد، حضور المؤتمرات، توصيف الدراسات العليا ومهامها، تشكيل المجالس، تشكيل اللجان العلمية، شروط الإنتقال بين الجامعات،.... توصيف التمايز بين التفرغ العلمي وعدمه وضوابط النظامين وتعويضاتهما..... إنتهاء بضوابط وقواعد العمل المهني.
وماذا عن الخطط الدرسية وتعديلاتها، وفترات الإمتحانات وتعديلاتها، عبثية المقررات الإختيارية، تسخيف تدريس مقررات بلغات أجنبية، الإستهتار بأهمية اللغات الأجنبية ودورها في التطوير المعرفي...
هل هي قرارات أتخذت على عجل ولماذا؟! أم أنها أتخذت كضرورة ظرفية أو شرطية تلبية لتطلعات خاصة؟! أم أن إختيار أعضاء هذه المجالس جاء وفق معايير ذاتية لا موضوعية وهو الغالب، هل تمّ التخطيط على مبدأ التجريب غير المنهجي وغير المعزز بالمعرفة والكفاءة أم على المعرفة والكفاءة وتحليل المعلومة؟
لعل أهم قضية عانت منها المنهجية اللاعلمية قضية الترفيع الأكاديمي حيث جاءت القرارات رغم تبدلها غير عادلة، ذلك أنه إعتبر النشر العلمي شرطاً أساسياً من شروط الترفيع الأكاديمي، فكيف لعضو الهيئة التريسية أن ينشر وهو لم يخض يوماً غمار البحث العلمي التجريبي الحقيقي، وكيف له أن يبحث ولا يوجد استراتيجية واضحة للبحث العلمي وهل يمكنه أن ينشر وهو يعاني من ضعف في مستوى اللغة المعتمدة في المجلات العالمية المرموقة، وهل ستقبل أوراقه العلمية وقد توجها بإسمه منفرداً خلافاً لمفهوم البحث العلمي القائم على عمل الفريق، وماذا لو رفضت الأوراق العلمية لأن موضوع هذه الأوراق قديم ومستهلك ولا يقدم معلومة علمية جديدة أو لأنه لا يندرج ضمن محاور وإهتمامات هذه المجلات.... اسئلة كثيرة وإجراءات كثيرة لا بد من الموضوعية والمنهجية العلمية لمعالجتها.

التأليف الجامعي
إعتبر التأليف العلمي واحداً من واجبات ومهام عضو الهيئة التدريسية وشرطاً من شروط الترفيع الأكاديمي، دون أي مراعاة لقدرة عضو الهيئة التدريسية على التأليف العلمي الذي يفترض أن نجد إنعكاساً له فيما سبق للمكلف أن نشر من أوراق علمية وإعداد تقارير ومساهمات في البحث العلمي، ولم يكتفي التشريع بإلزامية التأليف بل عزز الخلل بوضع شرط المشاركة بين أكثر من مؤلف لوضع الكتاب الجامعي، رغم أهمية إعتماد المشاركة على الطوعية والتوافق لا على الضرورة الظرفية والمشاركة القصرية، ومما يزيد الطين بلة أنه غالباً ما تأتي تسمية لجان تدقيق المؤلفات العلمية فقط كعملية متممة لمقتضيات الشكل القانوني لقرارات التكليف. بيئة مهدت لجعل المؤلفات العلمية مجرد ترجمات مكررة وفي أحيان كثيرة ممسوخة، غير منسجمة بالأسلوب ومتجانسة بالمنهجية العلمية، حتى باتت عبئاً حقيقياً على المستوى العلمي للكتاب.

اللجان العلمية
إذا أعطى التشريع أهمية للمجالس ومنحها جملة من السلطات (ولو في الشكل) فإن اللجان ليست أقل أهمية منها، فهي حلقة من الحلقات الفاعلة في العملية التعليمية، غير أن الممارسة التي أسست لها البيئة السياسية آلت إلى الإستخفاف في تشكيل اللجان العلمية وشخصنة عمليات التشكيل دون مراعاة للكفاءة العلمية والإختصاص والجدية العلمية لدى أعضائها ومدى مساهمتهم بالأبحاث العلمية وبالنشر العلمي.

البنية التنظيمية
في بداية السبعينات جاء تغيير الهيكل التنظيمي والتوصيف الأكاديمي لأعضاء الهيئة التدريسية كمرتكز رئيس لترسيخ ديمقراطية التعليم، حيث إفترض المشرع أن تحرير المؤسسة الجامعية من البنية القديمة هو تحرير للجامعة من هيمنة الفرد وإستئثاره بالسلطات والممارسات اللاموضوعية، غير أن هذا التغيير الذي عزز بالمادة الثامنة لم يثمر إلا بتعدد السلطات ومراكز القوى وتنامي التنافسية والصراعات المصلحية نتيجة لتلاشي ضوابط واخلاقيات التراتبية والقدم الوظيفي والأكاديمي التي مهدت للتحلل من الواجبات والأخلاق الأكاديمية.

البحث العلمي
عندما نتحدث عن عدم تقدم البحث العلمي الذي وصفه قانون تنظيم الجامعات بأنه واجب من واجبات أعضاء الهيئة التدريسية، نتعامل مع القضية من منظور أخلاقي بحت دون أن نتطرق إلى جوهر العوامل المسببة لهذا العجز وأن نسأل ما هي الضوابط القانونية التي يُعمل بها لتقييم أو محاسبة المنكفئين عن هذا الواجب!
وإذا تركنا جانباً قضية إنشغال عضو الهيئة التدريسية بالهم المعيشي والمعاشي، فلا بد أن نسأل كيف تفهم السلطات العلمية والسياسية دور البحث العلمي في التنمية الوطنية وما هو البحث التنموي من غير التنموي ومن يضع هذ التوصيف... في واقع الأمر و رغم ما يسمع من تصريحات إنشائية عبر وسائل الإعلام، لا زالت إدارات الجامعة تتعامل مع البحث العلمي وكأنه سلة من الإمتيازات التي تمنح للبعض وتحجب عن البعض الآخر بموجب ذرائع تحت مسميات متعددة... التمويل والكلفة والموازنة، عقود البحث العلمي بالتراضي، علاقة البحوث العلمية مع خطط التنمي، .. وما أن تنتهي السنة المالية حتى نقرا عن إنجازات في البحث العلمي متمثلة بما صرف من الموازنة الإستثمارية للبحث العلمي على ما تمّ شراءه من تجهيزات للمخابر وما صرف على البنى التحتية..... ناسين أن البحث العلمي هو مشروع متكامل لا يمكن أن يتحقق دون وجود الباحث الذي لم يتم تعريفه حتى الآن.

خلاصة القول
إن المكانة الموضوعية للجامعة يجعلها المؤسسة المعنية بتهيئة وتوفير القوى المؤهلة للإنخراط في مؤسسات التنمية الشاملة، الإقتصادية والإجتماعية والثقافية، لتلبية إحتياجات المجتمع الحيوية في تحقيق إستقلاله الإقتصادي والسياسي.
ويرى كثيرون أن مسؤلية تردي هذه المؤسسة وتراجع الحالة التعليمية تعود لضياع في الرؤية أو غياب للأهداف، كما يفسر البعض أن هذه الحالة تعود إلى إنشغال السلطة بالقضايا السياسية والأمنية وغرقها بالعقائدية وبعدها الفعلي عن قضايا التنمية الشاملة.
أما عدم الموائمة بين الجامعة وقطاعات الإنتاج رغم أن أغلب إداراتها من حملة الشهادات الجامعية فتعزى لعدم الثقة بالمستوى العلمي للخريج الجامعي وإلإشتباه بطبيعة معارفه النظرية العامة وبعدها عن الجانب التطبيقي ونقصها للحداثة دون تجاوز لعدم إتقانه للغات ووسائل الإتصال الحديثة.
في ذات الظرف وفي الوقت الذي يواجه فيه شبابنا قضية البحث عن العمل الذي أصبح أكثر إرتباطاً بالأنشطة الإقتصادية المتكاملة، نراهم يقفون في مواجهة العديد من التحديات التي تفرضها التغيرات والتطورات في العديد من المجالات التي يمكن تلخيصها في العولمة، والتكنولوجيا الفائقة، والانفتاح على وسائل الإتصال، وانفجار المعرفة والمعلومات.
أمام هذه الهواجس والعثرات لم يعد مقبولاً الإنتظار طويلاً لرد الإعتبار للتعليم والتعليم العالي والبحث العلمي وتحرير المؤسسات والطاقات العلمية من القيود والضوابط السياسية المعطلة للحركة، ولم يعد من الممكن الإستهانة بقضية تطوير مجالات الأنشطة الإقتصادية وفتح آفاقها لتوفير فرص للعمل، هذه أولوية أولويات التنمية الشاملة التي أثبتت مختلف التجارب في العالم من كوبا إلى اليابان أنه لا يمكن إنجاحها إلا بإستثمار التعليم في تحرير الطاقات البشرية وتوظيفها التوظيف العلمي الصحيح في خطط إنمائية شاملة منطلقها الداخل الوطني وهدفها الإنسان ابن هذا الوطن.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بوتين يتعهد بمواصلة العمل على عالم متعدد الأقطاب.. فما واقعي


.. ترامب قد يواجه عقوبة السجن بسبب انتهاكات قضائية | #أميركا_ال




.. استطلاع للرأي يكشف أن معظم الطلاب لا يكترثون للاحتجاجات على 


.. قبول حماس بصفقة التبادل يحرج نتنياهو أمام الإسرائيليين والمج




.. البيت الأبيض يبدي تفاؤلا بشأن إمكانية تضييق الفجوات بين حماس