الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دراسة الحزن

حمودة إسماعيلي

2013 / 8 / 22
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


من أين جاء الحزن يا صديقتي ؟ وكيف جاء؟ يحمل لي في يده.. زنابقا رائعة الشحوب
يحمل لي.. حقائب الدموع والبكاء
¤ نزار قباني

الإنسان أحيانا سعيد وأحيانا تعيس، هي "سُنّة الحياة" أن يعرف البشر أوقات حزن وأوقات فرح كقدرهم في الحياة. و"ضرسة الحياة" هي أن هذا محض تخريف بشري ! ، فتشبيه حالات الإنسان النفسية بالطقس وما يعرفه من انقلابات وتغيرات في الفصول وتعاقب الليل والنهار (باعتبارها أشياء خارجة عن ارادة الإنسان)، يعتبر تفسير (أو تشبيها) سخيفا.. جد سخيف ! .

من بسائط الفيزياء المعروفة، أن البرودة هي غياب الحرارة، وأن الظلام هو غياب الضوء. لدى فحينما يبرد الجو فهذا معناه غياب الحرارة (أو انخفاضها بتعبير أدق)، وعندما يظلم فذلك بسبب غياب الضوء، فالحرارة والضوء هما الذي تتم دراستهما وليس البرودة والظلام لأنهما مسميات لحالة غيابهما، فقط لا غير. كذلك فالحرارة و الضوء هما اللذان يحتاجان للتوليد أما الظلام والبرودة فوجودهما شبه مطلق ولا حاجة لهما للتوليد، فللحفاظ على حرارة جسم حي يلزم توفير أكل وضمان استمرار حركة أعضاء الجسم (الداخلية والخارجية) وحتى أشعة شمس إن تطلب الأمر، أما لتبريدها فيكفي تركها ليتم الأمر تلقائيا. وللاحتفاظ على الضوء (مثلا) في مغارة أو كهف، يلزم توفير نار أو مصباح أو أي مولد كهربائي، أما لإظلامه فهو مظلم أصلا لا يحتاج ظلامه للسهر وبدل الجهد مثل عملية إنارته. والسؤال الذي سينطرح هنا هو : لما كل هذا الشطح الفيزيائي الغريب ؟ والذي يبدو أنه لايمت للموضوع بصلة ! .

ما نود قوله للإجابة عن السؤال، هو أن التفسير توطئة لإظهار أن السعادة والحزن بالمفهوم الاجتماعي ينطبق عليهما نفس الرؤية الفيزيائية ونفس الشرح المبسط. كيف ؟
اجتماعيا يُعرف أن الحزين غير سعيد، والسعيد غير حزين، فالحزن هو غياب السعادة وهذه الأخيرة هي "التغلب" على الحزن. وحتى نوضح لماذا اخترنا "التغلب" بدل غياب، فمن الملاحظ أن الناس تسعى لتحقيق السعادة أكثر من سعيها لأن تكون حزينة، بل إنها تسعى للسعادة كهروب من الوقوع في الحزن، هذا الأخير الذي لا يحتاج لتوليد أو جهد لتحقيقه (كحالة نفسية) فيكفي أن تكون غير سعيد حتى تجد نفسك حزينا. رغم أنه لا يمكن اعتبار الحزن قاعدة مثل البرودة أو الظلام، فكلاهما لا السعادة ولا الحزن، لا يمكن أن نفهمهما إلا كمكتسبات اجتماعية نتيجة الاحتكاك الإنساني وما يحدثه من تنافس ومقارنات ووفي ظل الإشباع المعنوي والمادي (متحقق أو غير متحقق) داخل المجتمع. فمن هنا يتحدد المفهومان عند الأغلبية، إنطلاقا من الآخرين يصف الشخص نفسه، من المقارنة، من محاولة التشبه، فبما أن الموقف له مردود على نفسية الإنسان (كاستجابة)، فالتشبه بالسعداء قد يجعلك سعيدا ! . فكثيرون يبنون سعادتهم (أو يفهمونها هكذا) أي على أن يتوفروا على ما يجعل الآخرين سعداء، رغم أن الآخرين قد نجدهم "يبدون" سعداء، وليسوا فعلا سعداء.. فالمظهر يخدع من يفتقر للتجربة.

لهذا قلنا أن الناس تحاول التغلب على الحزن، لأنه كالبرودة والحرارة، ولإغلاق ثغرة هنا باعتبار أن يمكن أن يكون الإنسان غير سعيد وفي نفس الوقت غير تعيس، كإحساس د.هاوس : "لست سعيدا، لكني بخير !". ولنعتبر أنه إحساس خالي من المعنى، فما يجب ألا نغفل عنه هو أن أي احساس أو موقف أو حركة يعتادها الإنسان قد تتحول لروتين ويتلاشى طعمها، وحينما يقع الشخص في الروتين والملل فإنه سيقترب من اليأس لأنه صار مسجونا في واقع لا يتغير، فيكره بذلك ذاته المسجونة. والحزن هنا يفسر نفسه كعجز، عجز الإنسان عن إحداث التغيير والتغلب على الواقع (خلق سعادة بتعبير آخر). بل الحزن بجميع أشكاله قد نجده تعبيرا عن عجز الإنسان، فمن يحزن على وطنه يعبر عن عجزه في إحداث تغيير، ومن يحزن عن ميت هو يعبر كذلك عن عجزه عن تغيير الواقع، ومن يحزن عن حاله "فحزنه من عجزه" أو تعبير له. فلو كان لهؤلاء قدرة لإحداث فرق، هل كانوا ليحزنوا ؟ . طبعا لا، لأن إحداث التغيير هنا يعبر عن القوة وعن المسؤولية وعن قدرة الإنسان على التغلب على الوقع والسيطرة عليه، لهذا نلاحظ أن الإنسان يعلن فرحته وسعادته ويسعى ليشرك الآخرين في ذلك، كإعلان لتغلبه على الواقع (تغلبه عن عجزه)، كالناجح في الامتحان الذي ما إن تنكشف النتيجة، حتى تراه تلقائيا يعانق من حوله أو يرفع يده (كما يفعل الرياضون عند احراز اهداف) للإشارة لذاته ولفت انتباه الآخرين إلي أنه احرز تفوقا. عكس من يفشل، تجده يحني رأسه وينسحب، إن لم يغب عن الانظار لأيام ! .
من ذلك نستنتج أن الفرحة احساس اجتماعي يتشاركه الإنسان مع الآخرين كإعلان عن انتصاره على معيقات الحياة. عكس الحزن، ينعزل وينفرد كيلا يراه أحد في موقف الانهزام والضعف.

وقد نجد أن الحزن مرادف للفقر، لأنهما من منظور اجتماعي لا يحتاجان بدل الجهد مثل ما يحتاجها الغنى والسعادة، اللذان يحتجان جهدا لتوليدهما والحفاظ على استمراريتهما مثلهما مثل الحرارة والضوء. لدى فالسعادة صناعة.
الإشكال المطروح هو أن الأغلبية، بحكم أنها لم تتربى أو تتعود على صناعة سعادتها، فإنها تجلس وتنتظر أن ينقلب حزنها لسعادة تلقائيا مثلما ينقب الليل إلى نهار. وحتى عندما تكون سعيدة فإنها تتوقع أن ينقلب الوضع حزنا (تلقائيا كذلك) كما ينقلب الخريف إلى شتاء.
كما كان "البابا" و"الماما" و"الدادا" يتكلفون بإخراجنا من حزننا وإسعادنا (بالهدايا مثلا)، نكبر (بنفس العقلية) منتظرين من "بابا" أو "دادا" (وهمية) تأتي من مكان ما وتغير واقعنا، وما يحتاج التغيير هو تفكيرنا، تفكير العجز ! .

السعادة والحزن مفهومان نسبيان، فشخص يسعده شيء ما قد يبدو تافها للآخر، وشخص يحزن لأمر ما قد يبدو أنه لا يستحق بالنسبة لشخص آخر. والسعادة ليست مرتبطة بثروة ضخمة أو تحقيق أحلام خيالية، بل (أحيانا) بأشياء جد بسيطة (فكثير من الناس يخلقون سعادة بمجرد رؤيتهم لجماعة من الحمقى تطارد كرة لوضعها بين عارضتين !)، وكذلك قد يحزن الإنسان على أقل شيء (ضيع حلقة من مسلسل مثلا !). بل قد نجد أن أغلب الأحزان لا تستحق، فقط لو فكر فيها الإنسان بعقلانية قليلا ! لكن الناس لا تريد أن تفكر، بل تريد من يتدخل ويخلّصها ويحل مشاكلها (وهذا الأمر لم يعد يحدث حتى في الأفلام !!!). والسبب قد يكون أن "معظم الناس يخافون من المسؤولية" كما يشير لذلك سيغموند فرويد.

نتذكر في حديث مع أحد أصدقاءنا الذي كان يعاني من أزمات نفسية، كان قد أخبرنا أنه استنتج سبب حزنه وعدم سعادته، وكان السبب (في نظره) هو "بعده عن الدين". لكن بمجرد تلميح إلى أن ربط الدين بالسعادة يعني أن جميع المتدينين سعداء ! ، وهذا ما لانراه في الواقع (بجميع أنواع المتدينين)، بل أن هناك ملحدين ويعيشون سعداء ! . فتراجع عن الفكرة، فعاد واستنتج أن الأمر يعود لأسلوب حياة كل شخص وطريقة تفسيره، فهناك متدينين سعداء وآخرين تعساء كما أن هناك غير متدينين سعداء ومنهم كذلك تعساء.
وأضفنا كذلك أن هناك من يسعد عندما يلجأ للدين، وهناك من يتخلص من أحزانه عندما يتركه. رؤية الشخص واختياراته هي التي تلعب دورا.

يقول بوبي نايت (مدرب كرة سلة أمريكي) أن : "إرادة النجاح مهمة، لكن الأهم منها إرادة التحضير للنجاح"، وكذلك نقول أن "إرادة السعادة مهمة، لكن الأهم منها إرادة التحضير للسعادة.

وأنت تُحضّر لصناعة السعادة، حاذر أن تجتذبك قوة الحزن المعدية
تلك القوة التي تفاقمت كالوباء، كالثقافة، صارت صناعة
بكثرة الحشود التي تساهم في تحضيرها
بسهولة تحضيرها.

وإن كنت حزينا، فحزنك لن يغيّر من الأمر شيئا، ف"احمل بعيداً هذه الخطى الجريحة.. فليس في المدينة متسع لمثل هذا الألم.. ملعونة النبتة التي لا تبهج العيون.. لا شيء مطلقاً أجمل من بسمة، حتى على وجه مشوه؛ ألا يهمك أن تكون جميلاً ؟(1).
هي الحياة يعيشها الإنسان، يعيشها (يصنعها) بشكل جيد أو سيء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش :

1 : لويس أراغون - قصيدة شظايا ـ موقع أدب.. الموسوعة العالمية للشعر








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيران: ما الترتيبات المقررة في حال شغور منصب الرئيس؟


.. نبض فرنسا: كاليدونيا الجديدة، موقع استراتيجي يثير اهتمام الق




.. إيران: كيف تجري عمليات البحث عن مروحية الرئيس وكم يصمد الإنس


.. نبض أوروبا: كيف تؤثر الحرب في أوكرانيا وغزة على حملة الانتخا




.. WSJ: عدد قتلى الرهائن الإسرائيليين لدى حماس أعلى بكثير مما ه