الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءات في العهد القديم - داود

سامح المحاريق

2005 / 5 / 16
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


داود … الخروج من العهد القديم

هوة هائلة بين رؤيتين تتناولان شخصية واحدة في نصين مقدسين ، فاءت في أحدهما وهو القرآن الكريم بمظلة نورانية كنبي من أنبياء الله فأخرجه من دائرة النقد ، ورفعه على التناول المريض والفج الذي حاصره في التوراة ، التي طوعت قصة داود للمزاج اليهودي المتزمت والحسابات التاريخية و توخت التناقضات الداخلية لتطور الجماعة اليهودية ضمن مفهوم القبيلة واسعة الأسباط المتصارعة والمتحاسدة ، جماعة منغلقة لا تمجد غير القوة فتغذي أخلاقيات السلطة المفتوحة ، وتنقلب على بوادر التسامح والانفتاح على الغير ، فمن هو داود الذي نجده في أوراق التوراة ،تلك الأوراق المتضاربة والمتناقضة مع ذاتها وبناها المؤسسة ، في الحقيقة لن نجد أكثر من سيرة شعبية وغنائية لصعود داود من الصفوف الخلفية بصورة درامية واستثنائية إلى قمة السلطة لدولة غضة في مرحلة النشوء ، ولا يستمد مركزيته في التاريخ اليهودي التي تأتي تالية لمكانة موسى إلا من إرسائه لقواعد الحكم في بني إسرائيل ، فيمثل النهاية الفعلية لعصر القضاة والبداية الحقيقية لمملكة إسرائيل ، التي تصعد متطردة بزحف الوهن إلى جسد داود فيقع الرمز في الصياغة الجاهزة للسرد الأسطوري التقليدي ذو الطابع البابلي الذي هيمن في فترة السبي على كتابة اليهود لتاريخهم ورؤيتهم لأحداثه التي أتت على الطبيعة الدينية للتوراة لتجيرها إلى أنماط فردانية وضيقة من التعاطي والمحاكاة لتراث الممالك المتاخمة لوجودهم .


تبع موسى في السلطة على أسباط إسرائيل عدد من القضاة تمكنوا من السلطة الدينية والدنيوية وإدارة حياة بني إسرائيل في منظومة حكم تتلاءم مع طبيعة البداوة التي تمكنت من الشخصية اليهودية في مرحلة التيه الذي أنهاه يوشع بن نون ودخل بالأسباط إلى فلسطين بعد أربعين عاما على تخومها ، وبدأت سلطاته القضائية بتقسيم الأراضي بين الأسباط ، وتأسيس العلاقات الدنيوية وفق أحكام الشريعة موسى ، ولعل تقسيم الأراضي التي سكنها بنو إسرائيل على أساس الانتماء القبلي عمق من تأثير ثقافة العزلة اليهودية لينقلها من أزمة مجتمع يهودي إلى أزمة أسباط متصارعة ومتنافسة ، فأصبحت دوائر العزلة تتعايش وتتقاطع ضمن عزلة الجنس اليهودي ، لتمتد بجذورها إلى التكوين الجيني للفرد اليهودي مبررة لكافة صور التزمت والعداء للغير في التركيبة النفسية لليهود.


تجلت أزمة العزلة والصراعات الداخلية لدى تأسيس نظام الملك المنقول من الممالك الآرامية المجاورة للإسرائيليين ، ففي النهاية ونتيجة عوامل التداعي في المجتمع اليهودي المنتكس عن شريعة الرب والمحكوم بأقصى درجات الفوضى نتيجة تورطه في صراعات غير متكافئة مع أقوام البحر ( الفلسطينيون وفق النعت التوراتي) رضخ صاموئيل آخر القضاة لمطالب الإسرائيليين بتسمية ملك عليهم ، فسمى شاول أو (طالوت) ملكا عليهم وفق النص القرآني الكريم {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} ، وكان من الطبيعي ألا يحقق الملك شاول أيا من الطموحات اليهودية ، فلم يمتد ملكه الفعلي خارج سبط بنيامين وفي نهاية أيامه خارج خيمته المتواضعة ، باستسلامه للوثة عقلية ونوبات من الشك والتخوين طالت المقربين منه أساسا ، وكانت تلك الأحداث هي التربة الخصبة لظهور وصعود شخصية داود التي لاءمت المزاج اليهودي المنحاز لأوهام القوة .


الحس الدرامي في الرواية التوراتية يظهر من النقطة الأولى لذكر داود الذي ساقه القدر بشكل غير متوقع لقلب الحدث ، فقد استمرت حالة الترقب بين جند شاول والفلسطينيين بقيادة جالوت لأربعين يوما دونما اقتتال ، ونظرا لطول مرحلة الترقب وسط التهيب الإسرائيلي ، فقد أرسله أبوه ليزود أشقاءه في جيش شاول بالطعام على أن يعود لقطيعه في بيت لحم ، ويصل داود في مرحلة حساسة من الأحدث تمثلت في خروج جالوت لمعايرة الإسرائيليين على جبنهم وتهربهم من المواجهة ، وسط الحرج الذي استشعره شاول بدت مبادرة داود بطلبه الاقتتال مع جالوت بمثابة القشة التي تلقفها بوعده أن يزوجه ابنته وأن يجعل أباه حرا في بني إسرائيل ، كمخرج من العار الذي ألحقه الفلسطيني الأغلف ( غير المختون ) بصفوف الله الحي ، وفق ما ترويه التوراة ، وبالفعل فقد تمكن داود من صرع جالوت في موقعة المقلاع الشهيرة ، ليتقرب من يومها برغم حداثة سنه من الملك شاول ويصبح أحد المقربين له ، قبل أن يدخل في امتحانه الأهم بعد وفاة شاول ، حيث بايع سبط يهوذا داود ملكا خلفا لشاول بينما بايعت بقية الأسباط (إيشبوشت) ابن شاول ليدخل داود في صراع طاحن مع بقية الأسباط أدى إلى تحالفه مع الفلسطينيين وإغارته على أسباط بني اسرائيل ، "وضرب داود الأرض ولم يستبق رجلاً ولا امرأة وأخذ غنماً وبقراً وحميراً وجمالاً وثياباً ورجع وجاء إلى أخيش" ، وأخيش المذكور هو من ملوك الفلسطينيين ، ويختلف التوراتيون في تناول هذه الغزوات التي شنها داود لمصلحة الفلسطينيين ، فالرؤية الرسمية للتوراة ترى أنه خاضها بأمر الرب كإبادة مقدسة وتطهيرية ، أما الرؤى الأكثر معاصرة فلا تراها إلا مجرد عمليات سطو مسلح، دنيوية محضة، وسياسية، قامت بها المملكة التي سوف يشيدها داود، ، فضلاً عن ذلك اتهام داود نفسه بأنه قد عمل مرتزقاً لدى أعداء قومه، فداود في نظرهم مجرد لص طموح لجأ إلى التحالف مع أعدائه وأعداء الرب بالتالي ليؤسس مملكته عبر عمليات منتظمة من السلب والنهب كانت أسباط اسرائيل الضحية الأساسية لها ، بحيث تبدو المملكة التي حازها داود تلك الأعظم في تاريخ بني اسرائيل لا تتعدى كونها هدية لداود على خيانته ، المملكة الحلم التي تمتد من النيل إلى الفرات وفق مزاعمهم لم تكن وعدا من الرب في هذه الحالة بل مجرد إمبراطورية أسسها راعي غنم موتور وطموح بالتعاون مع الفلسطينيين أنفسهم ، وهي وفي قمة اتساعها لم تمس لا النيل ولا الفرات فالثابت تاريخيا أن حكم داود في ذروته أن أكبر رقعة استطاعت دولة داود تحقيقها امتدت من حافة الجليل الأعلى إلى "بئر السبع" في الجنوب، ولم يكن لبني إسرائيل وجود في أي موقع على الساحل الفلسطيني ولا في الجليل شمالي فلسطين باستثناء موقع صغير عند تل القاضي، وإنما تشكلت أسطورة إسرائيل الكبرى في مرحلة السبي البابلي ، وبرغم ما يحاوله أن يضفيه اليهود على شخصية داود من دموية وشهوانية تزايدت في شيخوخته وفق ما تذكره التوراة ، ويعتبر نصا لا أخلاقيا تمثل في طلبه لفتاة عذراء وعارية في فراش موته ، أو ما صورته التوراة عنه أنه يتلذذ باستراق النظر على امرأة تستحم ويصور كيف أعجبته ثم يرسل بطلبها ويضاجعها فتحبل منه، ثم يرسل بطلب زوجها الجندي في جيش داوود من المعركة ليضاجع زوجته لكي ينسب الطفل لابيه لكن الجندي الشهم يرفض ان ينام في بيته والجيش يقاتل انما نام امام منزله، فيقرر داود ان يتخلص منه، فيحمله رسالة الى قائده في المعركة ويطلب منه ان يضعه في مقدمة الجيش دون حماية .. ليموت، ليرسل داوود الى امرأته ويضمها الى بيته لاخفاء فعلته ، برغم كل ذلك الزيف والتلفيق ، فإن الدلائل التاريخية تؤكد على مخالفة داود لتلك الصورة التوارتية وتضعه في صورة رجل الدولة والفقيه المتمكن من شريعة الرب و الحكيم المؤسس لدولة تسوس علاقات طيبة مع الفينيقيين والفلسطينيين من أهل الساحل ، بما يجعل قيام دولته مبررا على أساس تصالحي وتفاهمي معهم ، وكانت دولته أقرب إلى دولة خاضعة لسيطرتهم أساسا ، أو ما يمكن توصيفه بقصاصة دولة ،ترتبط بشكل وثيق في الجانب التجاري معهم ، فأرسى داود صناعة الدروع الحديدية التي مثلت مع المحاصيل الزراعية مادة التبادل الأساسية مع الواردات البحرية للفلسطينيين والفينيقيين بما يدحض الروايات الإسرائيلية المتأخرة عن قتالية دولة داود وعسكريتها العلاقة المتبادلة مع ملك صور (حيرام) ، فلم يسجل التاريخ أي نزاع عسكري بين مملكة صور الكنعانية وبين مملكة داود اليهودية.


وبالاقتراب من النص الإسلامي فإن داود لم يكن ذلك المرتزق الذي تصوره الروايات الإسرائيلية المتأخرة كأول ملوك اسرائيل الفعليين ومؤسس دولة الرب في فلسطين ، أو الملك المنتصر ذو الطابع الجلجامشي الأسطوري كما صورته المرحلة التلمودية البابلية ، وإنما نبيا ومعلما لبني اسرائيل
((وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا))
، فداود صاحب المزامير التي تعد من أتم وأروع ما يضمه العهد القديم والتي لا تتلاءم تركيبتها اللغوية و البنيوية مع ذلك الطابع التوراتي الدموي الشهواني لشخصيته ، شخصية مسالمة مكللة برسالة إلهية للخروج ببني اسرائيل وتوحيدهم والبحث لهم عن موطئ قدم بين الأمم المجاورة لا على حسابها ، كما أنه استطاع أن ينهي صراعات الأسباط الاستنزافية في نهاية عهده بمسحه لابنه سليمان ملكا على بني اسرائيل قبل وفاته ، كيلا يفتح المجال لتكرار أحداث الانتقال من عصر القضاة إلى عصر الملوك ، والتاريخ يعتبر داود أول ملوك اسرائيل لأن ملك شاول لم يكن سوى مرحلة انتقالية تبعت عصر القضاة ، امتدت لعامين لم يستطع أن يحقق فيهما أي وجود لدولة يهودية تستطيع التعايش مع الممالك الأكثر تحضرا التي تجاورها ، كما أنه المؤسس الفعلي لاورشاليم كمدينة للسلام والانفتاح على الغير ، ومما أخذه الحاخاميون على داود وسليمان كمدخل للتجريح في شخصيتهما زوجهما المتكرر من أقوام لا تدين ليهوه ، متجاهلين حقيقة أن هذا النفس الانفتاحي المتمرد على ثقافة العزلة والهجرة على الداخل هو سبب نجاحهما في تأسيس مملكة الرب على الأرض ، وليست كل الأساطير التوراتية والمخلفات القبلية المرتبطة بالعودة النستولوجية إلى فلسطين التي تشكلت أساسا في فترة السبي البابلي .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. 155-Al-Baqarah


.. 156-Al-Baqarah




.. 157-Al-Baqarah


.. 158-Al-Baqarah




.. 159-Al-Baqarah