الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تاريخ الخوف من المجهول

رمضان عيسى

2013 / 9 / 2
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


كثيرا ما نسمع أحدهم يردد أنه يخاف من الظلام ، وآخر يخاف الارتفاع ، وغيره يخاف البحر، وآخر يخاف من الثعابين . وهذه أشياء موجودة في الواقع وملموسة ، وقد تثير مشاعر الخوف والتوجس وتتطلب الحيطة والانتباه لتحاشي ضرر ما قد يحدث في حال التعامل مع هذه الأشياء دون معرفة سابقة .
ومن جانب آخر ، نسمع أن بعض الناس يتكلمون عن الخوف من مسميات مثل الغول والغولة والعفريت وابليس والأشباح والقتيل والجن والشيطان ، وأهورا مزدا ، وأُولاهيم وعشتار وايزيس وأُزوريس وزيوس والعجل الذهبي ، وتنين انطاكية .
كل هذه المسميات ليس لها في الواقع المادي دليل ملموس ممكن ان يؤثر التأثير المباشر على الجسم الحي . ف " زيوس " و" بعل " وأوزوريس " و " إيزيس " و"أولاهيم " و" العفريت والشبح الذي يطل علينا من القمر ، والشيطان مفاهيم ندلل بها على تصورات ، أشياء مختفية عنا ، تكمن خلف كل ما نراه في هذا الكون من كواكب ونجوم , وما نراه في الطبيعة من نظام وجمال ، وما يواجهنا من أحداث محزنة . ولأنها مجهولة لدينا ، لذا فهي سر من الأسرار ، لهذا فإن وعينا الخيالي يذهب معها الى الحد الأقصى من التضخيم والتفخيم ، وهذه الضخامة والفخامة تجعلنا في الجانب الآخر نشعر بالصغار والخوف الذي يوحي لنا بعبادتها وتقديم القرابين لها .
وعن مسالة الخوف من المجهول فقد ورد في كتاب تهذيب الحيوان للجاحظ كيف ان الاعراب كانوا يتخيلون الجن والغيلان "فاذا استوحش الانسان تمثل له الشئ الصغير في صورة الكبير ، وارتاب ، وتفرق ذهنه ، ... فرأى مالا يُرى ، وسمع ما لا يُسمَع ، وتوهم على الشئ اليسير الحقير ، انه عظيم جليل . ثم جعلوا ما تصور لهم من ذلك شعرا تناشدوه ، وأحاديث توارثوها فازدادوا بذلك ايمانا ونشأ عليه الناشئ ، وربي به الطفل ، فصار احدهم حين يتوسط الفيافي ، وتشتمل عليه الغيطان في الليالي الحنادس (المظلمة) فعند اول وحشة و فزعة ، وعند صياح بوم ومجاوبة صدى ، فقد رأى كل باطل وتوهم كل زور ... فعند ذلك يقول : رأيت الغيلان ! وكَلمْت السعلاة ! ثم يتجاوز ذلك الي أن يقول : قتلتها ! ثم يتجاوز ذلك الى ان يقول : رافقتها ! ثم يتجاوز ذلك الي أن يقول : تزوجتها ! ( تهذيب الحيوان للجاحظ – مكتبة الأسرة – ص 230- 231 ) .

فلماذا الخوف اذا ؟ إنه الخوف من المجهول !!!
فالمجهول لدينا يثير فينا الخوف من المفاجأة ، من الغير مُتوقع ، وهذا يجعلنا لا نعرف مدى الضرر الذي سيحدثه فينا ، فالمجهول يجعل الإنسان يعيش حياته في حالة خوف وحذر وتَوقُع وتوجُس دائم .
ماذا يعني هذا ، أي مم يخاف الانسان ؟
في نشاط الانسان العملي ، كثيرا ما يواجه الإنسان معاضل وإشكاليات يستعصي عليه حلها ، ويبدأ في محاولة فهمها والوصول الى حلول يكون فيها منفعة له . وهو يحاول قدر الإمكان في حدود معرفته تجنب الوقوع في مشاكل تكون نتائجها ضارة له من قريب أو بعيد .
فإذا كان ما يواجه الإنسان في حدود معرفته وإمكانياته ، فلا مشكلة ، وأما إذا كان ما يواجهه اكبر من إمكانياته المادية ، فإنه يلجأ الى غيره من البشر طالبا مساعدته . أما اذا كان ما يواجهه خارجا عن نطاق الإمكانيات ، فإنه يلجأ الى " الغيب ، المجهول " ، " الرب " ، " الله " ،وهناك أناس يلجئون الى الجن ، الشياطين ، العفاريت . فكل الشعوب لها آلهة بمسميات متعددة تلجأ اليها خوفا من عقابها , وطمعا في رضاها .
كيف نشأ الخوف من الغيب ؟
الغيب في الوعي البشري قديم ، قِدم وعي الإنسان ، فالإنسان حينما تفارق مع مرحلة الوحشية وبدأت عنده مظاهر الوعي ، مثل مشاعر الخوف والفرح ، والسلوك المعبر عن هذه المشاعر ، وتطورت أعضائه بحيث ملك القدرة على نطق الكلمات ، أي تكونت لديه أوليات المسميات للأشياء والظواهر التي يتعامل معها في حياته ، ولما كان وعيه جنيني لا يستطيع بالتحليل والتركيب الوصول لجواهر الظواهر الطبيعية من حوله ، تكونت لديه أيضا مسميات لتصورات مجهولة ، وكان لعامل الخوف من المجهول اليد الطولى في تكون هذه المسميات ، فعدم فهمه ظاهرة ما ، أدخل في روعه أن هناك شيء ما مخفي عنه – لا يفهمه ، لا يراه – يسبب هذا . فالبرق مثلا ظاهرة مستغلقة بالنسبة لوعيه الجنيني ، فاعتقد أن هناك اله يسبب هذا الوميض المفاجئ في الأعالي . كما أن الخوف من الرعد أوجد عنده إله الرعد . وعدم فهمه لكيفية سقوط المطر، أوجد عنده إله المطر ، وعدم فهمه للشمس وقوتها الضوئية ، أوجد في تفكيره ووعيه إله الشمس ، وكذلك إله للقمر والكواكب الأخرى مثل الزهرة والمريخ . وكذلك أوجد آلهة للكثير من المظاهر والأشياء الطبيعية ، كالفيضان والحيوانات القوية .
ولما كانت الكثير من مظاهر الطبيعة علوية ، أي تحدث في الأعالي ، السماء . أعتقد الإنسان البدائي أن السماء هي مسكن الآلهة من كل الأنواع .
كما أن لظاهرة الموت ، والتي يفقد فيها الإنسان القدرة على الحركة والكلام أثرا كبيرا في وعيه بأن أوجدت لديه مفاهيم متناقضة ، هي مفاهيم " الحياة " و" الموت " . فالحياة تعني الحركة والعمل والنشاط ومصارعة الحيوانات في الغابة ، وإشباع دوافعه من جوع وجنس ومشاركة اجتماعية .
في حين أن الموت ، هو فقدان لكل هذا ، ويحوله الى شيء لا قيمة له ، فهو إما أن يُترك للحيوانات والطيور الجارحة ، أو يدفن في التراب ويتحول الى جيفة نتنة وعظمة نخرة ويندثر .
إن ظاهرة الموت كانت أكبر من أن يستطيع دماغ الإنسان في ذلك الزمن السحيق في التاريخ ان يفهم أسبابها الجسمانية ، لهذا دخل في وعيه أن وراء ظاهرة الموت " إله " له قدرة خارقة على سحب المقدرة على الحركة والكلام من هذا الجسد ، وهذه المقدرة صورها في شيء ينفصل عن الجسد ، أطلق عليه اسم " الروح " ، كما أن هناك تصور عند قدماء المصريين مفاده أن الجسم بعد موته يترك بعده ما يطلق عليه " القرينه " التي تظل حية ولها احتياجات كما لو كان الجسم حيا .
وكان للأحلام دورا كبيرا في خلق تصور عن موجودات " أثيرية ", خيالية ، إسطورية ،غير موجودة بكامل هيئها في العالم المادي ، وقد تكون أجزاء منها مأخوذة من موجودات في العالم المادي ، مثل الحصان الطيار ، أو الغولة ذات الشعر المنفوش والأنياب الطويلة والعيون الطولية ، والمأخوذة من الغوريلا الضخمة البشعة المفترسه . وهذه الصور الخيالية أو أشباهها يتصور الانسان أنها تعيش في الأماكن المظلمة ، أو الخربة والمغاور والغابات الكثيفة ، وتظهر للناس في أحلامهم أو في الليالي المظلمة ، هي أو أصواتها .لهذا دخل في روع الناس أن هذه التصورات الخيالية موجودة فعلا مع أن أحدا لم يراها ، ولكن نُسجت حولها القصص والأساطير وكأنها موجودة فعلا وعاشت في زمن ما .
والإنسان حينما يرى في أحلامه أشخاصا فارقهم عنه موتهم ، وكانوا يحضرون ويراهم في أحلامه ، ولا يجد لهذه الظاهرة تفسيرا . لهذا دخل في وعيه أنهم يسكنون في الأعالي في مكان ما ، أو في الغابات أو في الجبال الشاهقة , ويأتون لزيارته أثناء نومه , ثم يعودون الى مجتمعهم الذي أطلق عليه " عالم الأرواح " . ومجتمع الأرواح هذا ، هو حياة غير مادية ، روحية ، ليس بها موت ، بل حياة أبدية بجوار الآلهة . و" مجتمع الأرواح " الخيالي هذا هو مجتمع تعيش فيه كل الأرواح الخيرة من آلهة وملائكة ، والشريرة من شياطين وعفاريت ، وذات أشكال متعددة ومختلفة في الطول والقصر ، ومنها الهوائية ومنها النارية ومنها الأثيرية التي لها القدرة على الانزلاق والدخول في كل الأمكنة وأضيقها ،حتى في جسم الانسان .
إن هذه الظواهر قد زرعت أول ما زرعت في وعي الإنسان هو الدهشة و" الخوف " , الخوف من المجهول . إن دماغ الإنسان البدائي لم يستطع ان يوصله الى إدراك مسببات هذه الظواهر ، ولم يكن يستطيع أن يتقي خطرها إلا باستخدامه أشياء بسيطة موجودة في الطبيعة . فاتقاء المطر والبرق مثلا ، كان باللجوء للكهوف أو محاولة بناء كوخ من الأغصان في الغابة .
كذلك يصادف الإنسان البدائي في الغابة حيوانات قوية لا يستطيع أن يواجهها بمفرده ، بل كمجموع ، فهي تملك قوة كبيرة . لهذا نراه يتماهى مع شكلها ويرتدي جلودها ويحمل قرونها على رأسه ، اعتقادا منه انه بهذا يملك قوتها ، ويصبح مهابا مثلها .
وبهذا فالإنسان البدائي كان يواجه الخوف من اتجاهين :
الأول : ما يواجهونه في الغابة من حيوانات ضخمة وقوية ، أو أثناء تصارعهم مع بعضهم البعض أو مع غيرهم من المجموعات البشرية . وهذا دفع الإنسان الى تطوير أسلحة للصيد والحرب .
أما اتجاه الخوف الثاني : فيأتي من السماء ، من المجهول ، من الآلهة. فلما كان المطر والبرق والرعد يأتي من الأعالي ، اذا هناك مسكنا للآلهة في الأعالي ، وهذه لا يمكن مواجهتها بأدوات مادية ، أدوات من الطبيعة ، انها أكبر من أن تُواجه، إنها في الأعالي ، في السماء . من هنا يجب استعطافها ونيل رضاها ، إما بالترجي ، بالدعاء ، وإما بعمل طقوس وصلوات ، أو بذبح الحيوانات وتقديمها كقرابين شملت أنواع متعددة من الحيوانات ،إرضاء للآلهة ، وأحيانا يقدم البشر كقرابين للآلهة ،فقد قدم امنحوتب الثاني سته من الملوك السوريين الذين أسرهم قربانا " لآمون " ضحى بهم بيده .( قصة الحضارة – ول ديورانت ص80 ) ، وفي كل هذا فإن الإله لا يشرب دم القرابين ولا يأكل لحومها ، بل البشر هم الذين يأكلون لحمها أو يشربون دمها أحيانا ، أو يُهرق على الأرض . إذن ما هي العبرة من القربان ؟ الجواب جاهز ، إنه تقرب بالدم الى " الله " ، أو " المعبود " المجهول .
والسؤال : هل الآلهة بحاجة الى هذا الدم ، الى هذا القربان ؟ أم أن هذا هو تقليد وعادات موروثة من الأقدمين ، بأن قمة الطاعة هي إهراق الدم ، ولو كان القربان انسان ، ان انتشار ظاهرة القرابين يوحي أن الآلهة لدى بعض الشعوب القديمة جائعة ومتعطشة للدماء ، وتنتشي لرائحة اللحم المشوي .
إن هذه المفاهيم وهذه التصورات قد وجدت لها ترسيخا وثباتا في الأديان بوصفها نظاما إعتقاديا شموليا يخلق نوعا من العزاء النفسي والوجداني للمؤمنين بها .
وفي كل الأديان الكتابية وغير الكتابية توجد عادة تقديم القرابين للآلهة لإثبات الطاعة لها واستعطافها واستجلاب عونها على الأعداء ، كما تعتبر وسيلة للتخلص من الخطايا , إن هذا هو ميراث ارتدى صفة القداسة ووجد تدعيما له من الأديان .
من الملاحظ أن الأنبياء والفلاسفة والمصلحين ، لم يبدأوا بتعظيم الخوف في دعواتهم بل انتهجوا اسلوب الإقناع والترغيب ، فكل القصص المأخوذة من الميراث المقدس أو التاريخ المكتوب تقول أن آدم لم يضرب أبنائه ، وإبراهيم دعى الى قناعاته بالمحاورة ، وكذلك المسيح لم يدعو الى العنف ، بل حاور الفريسيين ، وسقراط سعى الى المجادلة واعتماد اسلوب التساؤل والإقناع ، وحتى الدعوة المحمدية بدأت كدعوة هادئة لسنوات ، ولكن حينما كثر أتباعه وتركزت مقومات دولة النبي في المدينة ، بدأ بانتهاج العنف في نشر دعوته ، وخَيرَ من لم يتبعه بين الدخول في دعوته او الغزو ودفع الجزية ، أي الإخضاع بالقوة ، وظل هذا منهج يتبعه المسلمون على طول التاريخ كلما أحسوا بقوتهم . وأيضا حينما اعتنق الامبراطور الروماني قسطنطين الأول المسيحية ، جعل من المسيحية الديانة الرسمية للدولة الرومانية ، وفرضها على الرعية ، مع أن المسيح والرسل لم يدعوا أو ينتهجوا هذا السلوك بفرض معتقداتهم على الغير، او بتعظيم الخوف من الرب في دعواتهم . ولم يدخل عنصر الخوف الى الدعوات إلا حينما تحالفت السلطة ، " الدولة " مع الدين .
ولكن كيف وصل الخوف الى الشعب من جهاز الدولة ؟
حينما تحالف الحكام والملوك مع الدين وجدوا في الدين ضالتهم المنشودة فتركز حكمهم ، بان أصبحوا ممثلين للإله في الأرض ، ووجدوا ان الإيمان بالإله الواحد يعني القبول وعدم التمرد على الحكم الواحد ، الملك ، ووجدوا في صفات الرب بأنه شديد العقاب وسيلة لتثبيت حكمهم وزرع الخوف بين الناس .
لما كانت التجمعات الكبيرة من الناس قائمة على المنفعة الاقتصادية ، من هنا يجب اخضاع الميول الفردية لمصالح المجموع ، المجتمع . فالدولة تقوم بفرض قوانينها على الأفراد بالوسائل المادية المنظورة من شرطة وسجون ، ولكن هذا لا يكفي في أغلب الأحيان . اذن هي بحاجة الى الحارس المخيف والغير منظور وذلك لتقوية الدوافع الاجتماعية ضد الدوافع الفردية بما تثيره فيهم من آمال قوية ومخاوف قوية . وهذا الحارس الغير منظور هو الدين .
وفي هذا يقول الجغرافي القديم " سترابو " :
" انك في معاملتك لأية مجموعة من الناس ، اجتمعت كما اتفق ، لا تستطيع بالفلسفة أن تؤثر فيهم . انك لا تستطيع ان تؤثر فيهم بالعقل ، أو أن تقنعهم اقناعا بضرورة الوقار والورع والإيمان ، كلا ، بل لابد لهم من الخوف الديني أيضا ، ولا يمكن اثارة الخوف في نفوسهم بغير الأساطير والأعاجيب ، فالصواعق والدروع والصولجانات والمشاعل ورماح الآلهة ، كل هذه من الأساطير ، وكذلك منها اللاهوت القديم من أوله الى آخره ، لكن مؤسسي الدول حرصوا على هذه الأشياء باعتبارها عفاريت يفزعون بها السذج من الناس " . ( قصة الحضارة – ويل ديورانت – المجلد الأول - ص 97 ) .
*** قال مكيافيللي في نصيحته للحاكم انه يجب عليه "حماية الدين ولو كان هو نفسه لا يؤمن به لأن الدين يعاونه على حكم الجماهير وعلى تثبيت سلطانه."
قال المنصور الخليفة العباسي " انما أنا سلطان الله في أرضه ، أسوسكم بتوفيقه وتسديده , أطيعوني ما أطعت الله فيكم " . وهذا يعني أن من خالفني ، فهو يخالف الله لأني ولي أمركم في هذه الدنيا .
.ونرى أن مظهر الخوف هذا له جذور تاريخية وله علاقة بالثقافة والموروث المقدس في حياة كل مجتمع . إن انتشار الخوف بين الرعية له انعكاس على الأخلاق والضمير والبنية الثقافية في المجتمع ، من قوانين وعقوبات ، والأهم من هذا ابتداء سلسلة الخوف من الله وامتزاجها بالخوف من الدولة ، ونظام الحكم سواء كان سلطان أو ملك أو خليفة أو حكم فردي .في حين يجب التفريق بين الخوف من المعبود والخوف من سلطة وأجهزة الدولة الظالمة .
ولكن لماذا التقت مصالح الدولة والحكام مع الدين ، لماذا هذا التزاوج بين الدين والدولة ؟ ذلك أن كلاهما يرتبط وجوده بأن يكون فوق المجموع ، ومسيطر على المجموع . فالدين يُخضع المجموع بالخوف والترهيب من الآلهة في الحياة ومن عقابها بعد الموت . ووسيلته زرع الأمل والترغيب في حياة فاضلة بعد الموت في الجنة . وهذا الاعتقاد يخلق مجموعة من المطيعين لأولي الأمر والمسالمين والقانعين والمؤمنين بالقضاء والقدر خيره وشره ، وأن الحياة مَعبرْ ، ولا تطمع في مال غيرك ، أي لا تمدن أعينك للذي متعنا به غيرك ، فهذا حسد ، وعليك بالأعمال الصالحة لأنها هي الطريق الى الجنة .
أما الدولة ، فتقوم مصالحها على السيطرة على الشعب ، الجموع الغفيرة من الناس ، وذلك بزرع المفاهيم التي تجعل وجودها بهذا الشكل دائم ، وقمع التمرد عليها بكل الوسائل . فالعنف مرتبط مع الدولة منذ ظهورها في التاريخ . فقد قامت إما لإدارة الحروب ،أو لإخضاع الجموع من الناس لسلطتها .
فالدولة هي جهاز للعنف تسيطر فيه قلة ، طبقة من الناس بالعنف على الجموع الغفيرة في البلاد . ومنذ ظهرت الملكية الخاصة في المجتمع الانساني ، أصبح قِلة من المالكين للثروة ووسائل الانتاج ، هم الذين يسيطرون على جهاز الدولة ، ويخضعون بالعنف الجموع الغفيرة الغير مالكة من الشعب ، والتي بحكم فقرها ، وعدم ملكيتها لوسائل العيش ، تخضع للسخرة والاستعباد وتضطر للعمل في ممتلكات الطبقة المالكة . وهكذا كان في التاريخ أسياد مالكين وعبيد مملوكين ، واقطاع مالكين للأرض , وفلاحين وأقنان لا يملكون شيئا ، وأيضا في المجتمع الرأسمالي توجد طبقة البرجوازية المالكة لأدوات الانتاج وتسيطر على جهاز الدولة ، وطبقة البروليتاريا الغير مالكة ، ولكي تعيش تضطر للعمل لدى المالكين لوسائل الانتاج .
ان مصلحة المسيطرين على جهاز الدولة ومصادر الدخل الوطني في البلاد تكون مع عدم التغيير ، بل بقاء الوضع كما هو عليه ، تحت سيطرتهم ، ولتحقيق هذا الهدف يجب إبقاء الناس في حالة عدم فهم للواقع ،جهلاء ،عن طريق تزييف وتشتيت المفاهيم لدى الناس عن الواقع ، وهذه المهمة يقدمها الممثلين الرسميين للدين عن طريق الفتاوي والتركيز على جملة من المسلمات الموروثة ، والتي تُبقي النظام العائلي ، السلطاني ، الملكي الوراثي كما هو . وبالأخص تبقي التقسيمة الطبقية في المجتمع كما هي ، وإقناع الناس أن وجود ناس فوق ، وناس تحت ، هي سنة الله في خلقة ، وأن هذا هو الوضع الطبيعي في الكون , ولا مجال لتغيير هذا الوضع الاجتماعي أبدا .
واذا ما ظهرت بوادر للتمرد على سلطة الدولة ، فالشرطة والسجون والقمع بكل الوسائل جاهزة للتصدي لدعاة التغيير والثورة والمطالبين بالحرية . كما أن المشايخ وممثلي الدين بكافة أطيافهم جاهزون لمساندة السلطة القائمة بالفتاوي والندوات وتفسير النصوص الدينية لصالح النظام القائم . ولا مانع لديهم من نعت الثوار بالمفسدين في الأرض والمخربين . ففي كل نظام جملة من ممثلي الدين لتبييض صورته في عيون الجموع الغفيرة من الناس في البلاد .
ويبقى هنا السؤال : هل الخوف يقتصر على الأفراد في المجتمع ؟ بالطبع لا ، فالمؤسسات العسكرية لا تعيش إلا على السرية ، وتخاف من نشر أي معلومة عنها على الملأ , فالسرية لعدد الجيش وامكانياته المادية وتشكيلاته ذات أثر كبير لنجاحها .
كما أنه لا يمكن تجاهل السرية التي تحيط بها المؤسسات العلمية ذات المنحى العسكري ، خصوصا في الدول التي تتنافس على الأسبقية في تطوير نفسها عسكريا وفي علوم الأرض والفضاء .
والنظام الديكتاتوري والملكي الوراثي يخافان من أن يتداول الشعب المفاهيم السياسية مثل : الثورة والديمقراطية وحرية الانتخاب والتطور الاجتماعي ، وتداول السلطة وحرية الرأي واستقلالية الصحف .
فالطغاة والحكام المطلقون يدركون تماما أن التعلُيم والكتب تحمل الخطر في طياتها ، لأنها ممكن أن تصب أفكارا استقلالية متمردة وتشهيرية في عقول رعاياها . ولا يعنيهم أن التعلُم والتعليم هو الطريق الى العلم ، وهو الذي يخلق الدوافع للاكتشاف والاختراع ولحراك اجتماعي الى أعلى ودفع دم جديد متعلم يؤمن بالتطور في كل نواحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والفكرية .
إن الخوف من انتشار المفاهيم الجديدة لا تجده الا عند أنظمة الحكم السائرة في الطريق الخطأ ، وما يعنيها هو خلق جيل مُفرغ من الدوافع للخلق والإبداع ، خلق جيل مُدجن لوقوعه تحت نظام تعليمي من الحد الأدنى ، بما يلبي رغبات نظام الحكم دون زيادة .
ان هذا يترك أثره السلبي على المجتمع ، فحركة التطور الفكري والاجتماعي تبقى ساكنة ومتباطئة ، مما يترك أثره على تردي الخدمات الصحية ويكثر الفساد الحكومي وتزداد معدلات الجريمة , وينخفض مستوى الدخل القومي . وبالتالي تزداد الحاجة الى الاستيراد ، وتنخفض الحاجة الى التطوير الصناعي ، مما يزيد وتيرة هجرة العقول ، وعدم القدرة على صعود الدرجات الدنيا من السلم الحضاري .
كما أن المؤسسة الدينية تخاف من أن يتعرف الجيل على الآراء الفلسفية والنظريات العلمية الجديدة ، إلا من خلال ما تروجه هي وتحاول أن تُعمم وجهة نظرها وتفرضها على المؤسسة التعليمية في البلاد . فمثلا في جميع الدول العربية يُمنع تدريس الفلسفات بأنواعها ، وخاصة فلسفة المادية الجدلية ، والفلسفات الداعية الى التحرر والديمقراطية . كما يُمنع تدريس نظرية التطور ، " النشوء والارتقاء " لتشالز داروين .
وفي الحياة العادية يظهر الخوف بمظهرين : الخوف من المعلوم ، أو من المجهول المعلوم ، أي يكون مجهول لي ومعلوم لغيري .
ففي الحياة نجد الخوف هو السبب الكامن خلف الكثير من السلوكيات الفردية في المجتمع ، فالخوف من الفصل من الوظيفة يدفع الموظف إلى الذهاب بانتظام الى العمل ، والخوف من التوبيخ يدفعه لإتقان العمل وعدم التأخير ، وأن لا يضع نفسه في موقف يستوجب التوبيخ .
وفي المدرسة ، فلكي يتفادى التلميذ العقاب يسرع الخطى لكي يصل المدرسة قبل قرع الجرس . والخوف من المخالفة يدفع سائقي المركبات إلى الالتزام بقوانين السير وعدم اختراقها .
فسلسلة الخوف يبدأ ترسيخها في الوعي منذ الطفولة ، حيث يتم توجيه الأطفال من الوالدين بتكرار التحذيرات من كل تصرف غير لائق اجتماعيا ، او كل سلوك له نتائج خطرة . وبتنامي الوعي وتبيان المنافع والأضرار المترتبة على الفعل ، يعتاد الجيل على السلوك الايجابي والغير خطر . فالخوف من المعلوم يزول بالوعي بالتربية والمعرفة والتعلم والالتزام بالقوانين .
أما الخوف من المجهول لك ، والمعلوم لغيرك . فيزول بقابلية التعلم والصدق والإخلاص في المعاملة بين الناس وكشف الحقيقة انطلاقا من الشعور بالمسئولية والتعاون البناء بين أفراد المجتمع .
أخيرا فإننا نرى أن الخوف يرجع في الأساس الى الجهل ، الجهل بالذات ، والجهل بالمجتمع ، والجهل بالتاريخ ، وهذا ما أورث الخوف لدى الإنسان ؟ فأينما يكون الجهل أكثر يكون من السهل السيطرة على الإنسان بتكثيف سلسة الخوف في وعيه . وأشد أساليب الخوف قوة ، هو الخوف الذي قام عليه الميراث الشعبي ، وهو الخوف من المجهول ، ومن خطر المجهول : الشيطان ، العفاريت ، إبليس ، عزرائيل واسرافيل .
قد يقول قائل إنني لن أخاف من أي شيء ما دمت أعمل بالوصايا الدينية . ونقول ان الايمان مبني على الخوف من المجهول ويضاف إليه الخوف من الدولة ، السلطة ، الحاكم ، الذي هو ولي أمرك .
إنك لا تملك حريتك ما دام هناك خوف ، ولا يمكن ان تتخلص من الخوف إلا بالوعي ، بمعرفة المجهول بشتى صوره ، وكيف دخل الى وعيك هذا الخوف ، وأصبح يتحكم في مسلكك اليومي من صحوك الى نومك . إنه الميراث الفكري الذي ورثته من المجتمع الذي تعيش فيه ، وارتدى صفة القداسة في وعيك . ولو وُجدت في مجتمع آخر ، لكانت مقدساتك وأفكارك غير التي تؤمن بها الآن .
لكن كيف نتخلص من عقدة الخوف ، سواء الخوف من المجهول ، أو الخوف من المعلوم ؟
والجواب : انه اذا عرفنا مسببات الخوف ، وكيف دخل الخوف في وعينا , وما هي العوامل التي تزيد من قوة تأثيره علينا ، عرفنا كيف نتخلص من الخوف بإزالة المسببات .
** بالوعي ،وفهم تراكم الميراث الفكري في وعي الأجيال وكيف أصبح من المسلمات الغير قابلة للتغيير وكيف ارتدت صفة القداسة .
** نستطيع أن نتخلص من الخوف , بالعلم والفلسفة وفهم التاريخ الإنساني وتطوره على مر العصور وكيف وصل الإنسان الى هذه الدرجة من الحضارة والرقي .
** نستطيع التحرر من الخوف بالعمل على كسر التحالف الغير مقدس بين سلاطين الأرض وسلاطين السماء الذي دام قرون وقرون .
** نستطيع أن نتخلص من الخوف بإخضاع كل شيء للمعقولية ، والتمسك بأن لكل شيء سبب معقول المقترن بالتواتر السببي .
** نستطيع أن نتحرر من الخوف بزرع الجرأة وتقوية الرغبة في التحرر من الجدر الصلبة التي بنتها في وعينا جملة من المسلمات الممتزجة بالأساطير .
** نستطيع التحرر من الخوف بالاعتراف بأن معيار الحقيقة هو مطابقة الواقع ، هو الاختبار ، هو التجربة ، والإخلاص لها .
وأخيرا ، لا ننسى أن هناك من ينادي بضرورة الخوف من قوة عليا ، لأن هذا الخوف هو ركيزة لحفظ أخلاق البشر . ونرى أنه بالوعي والأمان الاجتماعي والاقتصادي تسود الأخلاق الجماعية .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - شكرا لنشر المقال
رمضان عيسى ( 2013 / 9 / 4 - 06:24 )
أشكر القائمين على هذا المنبر لما لمسته عندهم من توجه تنويري بنشر المقالات الهادفة الى تنمية الوعي لدى الجيل في ظل هذه الظروف التي تثير الاجباط أو فقدان الاتجاه . فالمقالات الهادفة تعمل على الدق على جدار الوعي بفكرة من هنا وفكرة من هناك من أجل تعديل المسار لصالح التوجه الثوري الحقيقي الهادف الى تحرير الانسان من ظلم الانسان بغض النظر عن اللون والدين والجنس .
لي مقالات فكرية وتنويرية منشورة في موقع الحوار المتمدن باسمي مثل :
1- آدم بين المعيار الديني والمعيار العلمي 2- بومبي مدينة الحضارة والفن والعمارة 3- العرب ونظرية التطور 4 - حقيقة الاسلام 5- هل كان حمورابي نبيا
6- قراءة في كتاب سقوط العالم الاسلامي .

اخر الافلام

.. 116-Al-Baqarah


.. 112-Al-Baqarah




.. سي إن إن تكشف عن فظائع مروعة بحق فلسطينيين في سجن إسرائيلي غ


.. نائب فرنسي: -الإخوان- قامت بتمويل الدعاية ضدنا في أفريقيا




.. اتهامات بالإلحاد والفوضى.. ما قصة مؤسسة -تكوين-؟