الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فعل التقدم : بين المفهوم الفلسفي والديني والبرجماتي والماركسي

عزالدين بوركة

2013 / 9 / 4
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


إن فعل التقدم بمعناه هو فعل التجاوز، والهدم غاية في البناء، إذ لا يوجد بناء دائم، أو فكرة مطلقة أو حتى مجتمع مثالي، فكل شيء قابل ويخضع للتغيير و التبدل حسب تغير وتبدل ظروفنا وتجدد حاجاتنا، والتقدم لا يعني البتة الرجوع إلى الماضي كما يراه التوجه الراديكالي بل هو عملية الخروج على الماضي، وهدم الصلة معه..

يرى "زكريا إبراهيم" في كتابه *مشكلة الإنسان* أن الطبيعة الإنسانية تنصرف إلى تكذيب نفسها لحظة بعد أخرى، تثور على تراث الماضي، وتتمرد على الزمان نفسه، وتعلن أن لديها من القدرة ما تستطيع معه أن تبدأ دائما..
إن كان زكريا إبراهيم و آخرون يرون أن أساس التقدم هو إحداث قطيعة موضوعية مع الماضي ، فهنالك تصوران أحدهما راديكالي والآخر فلسفي، يريان بكون الإنسان عاش بشكل أفضل من ما يعيشه الآن، في وضع لم يعرف فيه الكائن الإنساني الظلم والقهر كما يعرفه الآن، في عصر سُمي بالعصر الذهبي، إلى أن حدث التدهور من بعد ذلك العصر.
ويؤكد "جون جاك روسو" طرحنا هذا بخصوص الاتجاه الفلسفي الذي يرى أن الإنسان عاش أفضل في الماضي وأن الحضارة شر بلا منازع، وإفسادا للفعل الأخلاقي و ما هو إنساني، وحسب روسو إن الإنسان طيب بطبعه ولكن الحضارة تفسده، وهذه الحضارة تتعرض نفسها للإفساد المستمر بفعل التطور والتقدم التقنيين، مما خلق لنا البطالة (بخلق التقنية).. فيقول-أي روسو- أن الطبيعة الأولى كان يعمها الخير والسعادة والفضيلة، و أن المجتمع المتحضر هو من يتسم بالشرور والآثام.. فكلما نمت و تطورت و تقدمت الحضارة نمى التخلف الخلقي و ابتعد الإنسان عن حالة الطبيعة الخيرة.
ولكن روسو لا يرفض التقدم لكونه مشروعا قائم بذاته والعجلة لا تنتظر ولابد من إصلاح الحضارة وشكلها عوض العودة للماضي.
فيقع روسو هنا في ازدواجية رفض التقدم تارة و قبوله تارة أخرى.
بذكر ما هو فلسفي لابد من طرح سؤال التقدم على الفلسفة اليونانية.. وعودةً إلى هذه الفلسفة والزمن اليوناني لن نجد مرادفا لفكرة التقدم، وهذا راجع لسيطرة فكرة وفلسفة العودة الزمنية على الفلسفة الأفلاطونية وعند الفيتاغوريين و هروقليط و آخرون رغم اختلافهم على المدة الزمنية التي يتم فيها اكتمال العود أو الفترة.. مما يجعل البحت عن فكرة التقدم رغم قدمها في الفلسفة اليونانية أمرا مستحيلا..
والغريب في الأمر هو عودة هذا الطرح-العود الزمني- على يد "نيتشه" رغم أنه عاش في فترة بداية سيادة العقل والازدهار العلمي.. فنقف مستغربين من هذا الطرح مجددا.. (وفي نظري) هذا عائد لكون نيتشه كانت له دوافعه الخاصة للتفكير بهذا الشكل، لإيمانه بعدم-ومعارضته لفكرة- فناء الطاقة (وهذا ما تؤكده الفيزياء الحرارية و الكمية) من جهة و نتيجة للتشاؤم الذي سيطر عليه من جهة أخرى.
وباستعماله للإنسان الأقوى و الأعلى (سوبرمان) مستخلصا إياه من إرادة القوة التي يذهب "هيدغر" لتأكيدها في كتابته وخاصة كتابه الذي يعد نقطة انعطاف لدى هيدجر * الكينونة والزمن*، ويعطي نيتشه دورا فاعلا للإنسان بإمكانية التقدم، حتى ضمن الدائرة نفسها، فهو يرى بالعود الزمني للحضارة وليس للأشخاص.
بينما ترى الديانات السماوية بالخطية المتناهية أو بمعنى آخر أن التاريخ يعد مسارا خطيا ذا اتجاه وهدف وغاية، لكنه متناه ويقف عند نقطة معينة/الفناء.
فهذه النظرية تعطي الأهمية للماضي وللمستقبل على حساب الحاضر، فتتفق الأديان هنا مع الاتجاه الراديكالي في أن الازدهار كان في الماضي وتضفي عليه أن الأحسن في المستقبل لإيمانها بالجنة والفردوس و الخلود والسعادة الأبدية المطلقة المستقبلية، فيموت الحاضر و يضيع الإنسان والكينونة وتضيع الحضارة لكونها ليست ذات أهمية بنسبة لهذه النظرية الدينية. فالأهم هو المستقبل/الغيبي، و أما قوة الفاعلة فهي القوة الغيبية/الإلهية وليست القوى الإنسانية..
فهذه النظرية مناهضة للتقدم رغم أننا نجد بعض أنصارها يؤيدون مفهوما مقربا للتقدم وهو النهضة.. فالنهضة تخص جماعة معينة وليس الإنسانية جمعاء.. عكس التقدم الذي يرى بالتطور والتغيير لما هو أفضل للإنسانية عامة..
لقد اتخذ مفهوم التقدم تصورا ونظريات متعددة و أوجه الفهم مختلفة، تاريخيا وفلسفيا ودينيا وسوسيولوجيا عند "ابن خلدون" الذي يرى بكون الحضارة- رديفة التقدم- تمر بثلاث مراحل متعاقبة وهي:
-مرحلة البداوة: التي تتميز بالإنتاج البسيط والتماسك و العصبية
-مرحلة التحضر: وهنا يكون الانتقال من البداوة إلى التحضر، و تأسيس الدولة و الانغماس في الترف و بناء القصور، و إعداد الجيش...
-أما الثالثة في مرحلة التدهور: وهنا يبطش الحاكم و يزداد استبدادا، ويشتد غضب المحكومين ويستعين الحاكم بالموالى بدلا من عصبيته التي ضعفت، ليزداد الاستهلاك و يضعف الإنتاج وتتهاوى الدولة، وتصبح سهلة المنال من طرف الأعداء الطامعين.(1)
وهذه المراحل الثلاثة تؤكد حتمية التدهور لدى ابن خلدون للحضارة رغم أنه يتبنى قيام حضارة بديلة، أي أن التدهور بالنسبة لابن خلدون هو قيام حضارة أقوى بدل أخرى أضعف وليس موت الحضارة البشرية، بل هو تقدم عبر هدم الأضعف وبناء ما هو أقوى و أكثر قابلية للتقدم نحو الأفضل.
ويذهب "اسوالد إشبلنجر" لنفس ما ذهب إليه ابن خلدون حيت أن الحضارة بالنسبة لإشبلنجلر كإنسان لديها مراحل الطفولة و الشباب والنضج والشيخوخة، وتموت حينما تحقق ذاتها، حيت تتخشب وتتجمد وتتجول إلى مدينة و تضعف، كالحضارة الصينية والإسلامية و الهندية والرومانية القديمة..(2) وبعد فترة المدينة تضعف الحضارة لتترك مجالا لقيام حضارة أخرى.
مما يجعل الحضارة الإنسانية لا تنهار هو ارتباطها بالقوة الفاعلة والحاسمة فيها وهي العقل، وهذا العقل هو الذي يتقدم ويتطور، فيرى "كون درسيه" أن تقدم العقل هو نتاج طبيعي لتقدم الاستعدادات الفطرية في الإنسان.(3)
إن التقدم ظل الغاية التي يأملها العقل الإنساني رغم الاختلاف الحضاري والفكري ة الديني والفلسفي والإيديولوجي على شكل هذا الفعل-تقدم-.. ومن أهم الإيديولوجيات التي ناقشت هذا المفهوم هي الماركسية والبرجماتية وارتباطه بهما في القرون الثلاثة الأخيرة.
آمنت البرجماتية بالتقدم والفلسفة التقدمية، لأنها اهتمت-أي البرجماتية- بالعمل والتجربة بدلا عن التأمل المجرد.
ورأت أن العقل والمعرفة هما أهم أداتين لصنع التقدم الإنساني. و أن الحضارة والتقدم لا يقفان عند الحتمية التاريخية كما تراها الماركسية. فحسب البرجماتية فإن ماهية الوجود الإنساني لا يتجلى إلا من خلال فعل التمرد والرفض لكل ما يعوق حركتنا و تقدمنا وتحقيق الأفعال الخلاقة المتجهة نحو المستقبل: وليس الأفعال العكسية والمرتدة إلى الماضي تجتره و تعيد إنتاجه، لأن في هذه العودة إهدار لطاقتنا العقلية و إعمالا لذاكرتنا فقط.
ويؤكد الأب الروحي للبرجماتية " ويليام جيمس" أن الحرية هي الشرط الأساسي للتقدم، و أن الحرية تؤكد قدرة العقل على الإبداع و الاختيار والحرية هي تأكيد للتقدم الإنساني.
بينما التقدم حسب الماركسية يحوي الاستمرارية وأن النفي أمر غير مطلق، و التجديد لا يعدو كونه إعادة تركيب ودمج لعناصر قديمة.. فشكل التقدم لدى الماركسية هو استمرار القديم في أحشاء الجديد بينما ترى البرجماتية بنظرية التجاوز و بناء الذات والخروج على الأسلاف تطويرا للعقل الإنساني وإمكانية لبلوغ جنس بشري متكامل.
فالتقدم هو عملية بناء على أنقاد الهدم وتطوير العقل الإنساني.
رغم اختلاف كل الرؤى لشكل التقدم والعقل الإنساني هو النقطة التي تتفق عليها كل الاتجاهات الفكرية. فلا تقدم حضاري إذن ولا تقني دون تقدم عقلي و الإنساني.

بوركة عزا لدين
المراجع:
(1)مقدمة ابن خلدون-بتصرف-
(2)ارنست بلوخ : فلسفة عصر النهضة
(3)عاطف وصفي:كون درسيه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إليكم مواعيد القداسات في أسبوع الآلام للمسيحيين الذين يتّبعو


.. مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي: عدد اليهود في العالم اليوم




.. أسامة بن لادن.. 13 عاما على مقتله


.. حديث السوشال | من بينها المسجد النبوي.. سيول شديدة تضرب مناط




.. 102-Al-Baqarah