الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وطنيون لا يعرفون الوطنية

أحلام طرايرة

2013 / 9 / 7
المجتمع المدني


يكاد المرء أحيانا أن يعتقد بضآلة ما عليه من وطنية وسط فائض منسوب الوطنية التي يتغنى بها أغلبية أبناء هذا الوطن. الكل يتحدث عن الفداء والولاء وكيف يجري عشق تراب الوطن منهم مجرى الدم. لكن كل هذه الشعارات والفداءات الكلامية لا يبدو أن لها أي أثر ملموس محسوس على ملامح هذا الوطن وحاضره، ولا يبدو أن تغييرا جميلا قادما في المستقبل من شـأنه أن يحدث ولو عرضا كنتيجة لهذه الخطابات الوطنية الرنانة. فلا يقدّم أحدا لهذا الوطن شيئا بغير مقابل، لأن على الوطن أن يدفع المقابل مقدما. وما أسهل أن تُقلع أشجار الوطن وتُهجر كرومه وتُهدم أبنيته القديمة. وهواء الوطن وترابه ملوثين، وشوارع الوطن وطرقاته قذرة، ومؤسساته قذرة- لكن بنوع آخر من القذارة يرتبط ارتباطا متينا بالنوع الأول. الوطن ليس سعيدا، ولا أهله- الوطنيّون على وجه الخصوص- سعداء هم الآخرين. هذا لأن هناك ثمة خطأ كبيرا في مفهوم الوطن، وخللاً واضحاً في علاقة المواطن-الوطني- به. هناك- في الحقيقة- خللٌ كبيرٌ في علاقة الإنسان في هذا الوطن بمحيطه ككل.

في هذا الوطن- على سبيل المثال- يعترف الناس بالملكية الخاصة فقط، أما مفهوم الملكية العامة ففيه لُبس كبير للدرجة التي تجعل من أطفال ومراهقي الوطن- على غالبيتهم- أن يخلعوا ويكسروا ويشوّهوا ما تقع عليه أيديهم من ممتلكات عامة كأشجار الشوارع وأرصفتها ومصابيحها دون أدنى مراجعة ذاتية بمدى صواب أو خطأ ما يفعلونه. لكن هؤلاء الأطفال والمراهقين هم أنفسهم من يقوم برشق حافلات نقل جنود الاحتلال بالحجارة وهم أيضا من يشاركون بالتظاهرات وقت الأزمات (سقوط شهداء، تضامن مع الأسرى، قضية عرضية ما...) ويعودون لبيوتهم آخر النهار تاركين مكان التظاهرة- الذي يقع في الوطن- ملوّثا بآثار إطارات السيارات القديمة التي أشعلوها وحواجز الحجارة وحاويات القمامة التي جرّوها كحواجز لمنع جنود الاحتلال من الاقتراب، يتركون ذلك كله لعمّال البلدية لينظفوه هم، فتنظيف الشوارع ليس من اختصاص أي مواطنين آخرين حتى ولو كانوا أولئك الذين وسّخوه!
وليس هناك حاجة للإسهاب بأمثلة كثيرة في هذا المضمار، فالحفلات والمناسبات العامة- التي في غالبيتها تحمل شعارا وطنيا ما- تعتبر شاهدة حيّة بكل تلك المشاهد الكارثية التي يتركها المحتفلين خلفهم، الأرضية مغطاة بالكامل بكل أنواع القمامة، والكراسي والمعدات محطمة ومكومة فوق بعضها كأن زلزالا ما قد مرّ بالمكان.

في هذ الوطن، مفهوم المواطنة الصالحة لا نجده متجليّا في ممارسات الكبار قبل الصغار. فبالرغم أن منهاج الدراسة الجديد كان قد خصص مادة تعليمية باسم التربية الوطنية والمدنية في مرحلة التعليم الأساسي إلا أنه يمكن ملاحظة قدر الأهمية الضئيل التي تعامل به هذه المادة الدراسية. وأظن أنها ليست مفهومة للمدرسات والمدرسين بعد، ولهذا يصعب عليهم نقلها للصغار. فالكبار كانوا قد نشأوا على تلويث الشارع بالإطارات المحترقة والحجارة وتشويه الجدران بالشعارات والجرافيتي السياسية ضمن مسيرة النضال ضد الاحتلال ولكنها تحولت فيما بعد لثقافة تخريب لمجرد التخريب وخرجت عن سياق استخدامها الأول، تماما كما يحدث مع أي فكرة نبيلة تزور هذه البقعة من الأرض. لم يفصل جيليّ الانتفاضة بين التعبير عن غضبهم تجاه المحتل ضمن سياق معين وبين ممارساتهم اليومية في الأوقات العادية، فباتت السلوكيات المؤذية لبيئة وطبيعة وجمال الوطن هي ممارسات يومية طبيعية لا تستوقف أحدا، وبات الحديث عنها في منهاج دراسي مدعاة للسخرية، فالحفاظ على جمال الوطن هو نوع من أنواع الرفاهية التي لا وقت للوطنيين للتفكير به تحت الاحتلال.

ولأن الناس في هذا الوطن لا يقدّرون الأشياء إلا إذا كانت تقع ضمن ممتلكاتهم الخاصة، فهم بذلك لن يحافظوا على مؤسسة عامة يعملون بها إلا إذا اعتبروها ملكية خاصة لهم، فيكون سلوكهم وقراراتهم ومواقفهم كلها مبنيّة على هذا الافتراض- حتى تصبح أموال هذه المؤسسة أموالا لهم في بعض الأحيان. وبالمقابل فإن الناس الآخرين غير العاملين بهذه المؤسسة سيعتبرونها ملكية خاصة لغيرهم ولهذا إذا تظاهرت مجموعة في هذا الوطن ضد الحكومة لأي سبب كان ستتوجه بالضرورة لمبنى حكومي لتحطيمه على اعتبار أنه ملكية للأشخاص العاملين به وليس ملكية لشعب الوطن.

في هذا الوطن، وصل الأمر بالناس أن يعتقدوا أن الحياة لا تسير إلا إذا كان هناك مموّل وداعم خارجي لكل تفصيلة فيها، فالمزارع لا يزرع إلا إذا حصل على تكاليف هذه الزراعة من جهة أخرى، والمدرسة لا تبنى إلا إذا تقدمت جهة مانحة ببنائها، وطريق قرية لا تؤهل إلا بتمويل خارجي. كل شيء أصبح معتمدا على الأمواال "الخارجية" حتى بات الناس على يقين أنه لو انقطعت هذه الأموال لماتوا جوعا. لا يدرك الناس أن هذا الوطن فيه من الخيرات والموارد التي إن بيّتوا نيتهم للاستثمار فيها، لبدأت حركة نضال ثورية حقيقية لبناء وطن حقيقي يحبونه حقا ويحبهم. سيعرفون أن بداية هذا الاستثمار صعبة ومؤلمة ككل البدايات، لكنها ستأتيهم بوطن في نهاية المطاف، بوطن لطالما تحدثوا عنه ولم يعرفوه ولم يعرفهم.
لا بدّ أن يدرك الوطنيون في هذا الوطن أنهم لا يعرفون شيئا عن الوطنية، وأن عملية بناء الوطن لم تبدأ في فلسطين بعد، وأن عليهم مراجعة كل ما هم عليه الآن ليكونوا وطنيين كما يجب للوطنيين أن يكونوا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جبال من القمامة بالقرب من خيام النازحين جنوب غزة


.. أردنيون يتظاهرون وسط العاصمة عمان ضد الحرب الإسرائيلية على ق




.. كيف يمكن وصف الوضع الإنساني في غزة؟


.. الصحة العالمية: المجاعة تطارد الملايين في السودان وسط قتال ع




.. الموظفون الحكوميون يتظاهرون في بيرو ضد رئيس البلاد