الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نقض أنطولوجية بارمنيدس

هيبت بافي حلبجة

2013 / 9 / 7
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع



بارمنيدس ، الذي عاش في فترة نهاية القرن السادس قبل الميلاد وبداية القرن الخامس ، ترك لنا مؤلفاً شعرياُ ( في الطبيعة ) ، وقسمه إلى قسمين ، خص الأول منه بالوجود الفعلي ، الوجود الماورائي ، الوجود كموجود ، وخص الثاني بالوجود الظني ، الوجود المحسوس المرئي ، الوجود الذي يتحرك ويتغير ضمن الوجود الأول دون أن يغير من طبيعته ومحتواه .
في مؤلفه ذاك ، مؤلفه الشعري الوحيد ، أحتسب بارمنيدس بحق أول من صاغ نظرية أنطولوجية في الوجود والحقيقة ، لأنه تحدث عن الوجود كمفهوم مستقل ، كمفهوم خاص به ، عبر المعنى الميتافيزيقي لجملته الشهيرة ( الوجود موجود ، واللاموجود غير موجود ) .
وبهذه العبارة التي كانت قفزة حقيقية في تاريخ الفلسفة ، أعتبر بارمنيدس من الشخصيات الفلسفية الأولى التي أسست مدرسة خاصة بها ضمن التيار الأيليوني ، مدرسة خالفت ، بوعي فعلي ، أفكار هراقليطس ونبذت أسس الحركة والتغير عن الوجود ووسمته بالثابت والكلي .
في مؤلفه ذاك يعالج بارمنيدس قضية الوجود والحقيقة برؤيا أسطورية ، حيث إن بنات الشمس تجرن عربة هو ( الشاعر ) راكب فيها ، وحينما تصل هذه العربة إلى نقطة فاصلة ما بين الليل والنهار يلمح الشاعر آلهة الحكمة مينرفا فيسألها عن ديكي آلهة العدالة ويلتمس منها أن يقابلها ، وبمجرد أن يبدي هذه الرغبة تشرع أمامه الأبواب فيلج فيها ليسألها عن أسرار الوجود والمعرفة والحكمة ، فتقول له الآلهة ( جئت تبحث في كل شيء ، عن الحق الثابت المستدير ، عن الحق الذي لايتغير ، كما تبحث عن ظنون البشر الفانيين ، تلك الظنون التي لايوثق بها ، لكن أدرك أن تعلم هذه الأمور أيضاُ وكيف تنظر في جميع الأشياء التي تظهر وتبحث فيها ) .
وتستطرد الآلهة ( أقبل الآن لأخبرك ، وأسمع كلمتي وتقبلها ، ثمة طريقان لاغير للمعرفة يمكن التفكير فيهما ، الأول إن الوجود موجود ، ولايمكن أن يكون غير موجود ، وهذا هو طريق اليقين ، لأنه يتبع الحق . والثاني إن الوجود غير موجود ، ويجب ألا يكون موجوداً ، وهذا الطريق لايستطيع أحد أن يبحثه ، لأنك لاتستطيع معرفة اللاوجود ولا أن تنطق به لأن الفكر والوجود واحد ونفس الشيء ) .
من خلال سبر أغوار هذا المؤلف ( في الطبيعة ) ندرك حجم الأرتباك الذي يسيطر على بعض أطروحاته وكيفية التعبير عنها ، لكن ، بما أننا نبحث في الجوهر فقط ونحاول التقرب من محتوى الحقيقة ليس للطعن فيها إنما لبنائها ، نغض الطرف عن – حجم الأرتباك - ونقيد أنفسنا بالمرتكزات الجوهرية التي توسم الخلجات الأولية والفعلية لأفكاره .
بارمنيدس ، الذي هو من رواد المدرسة الإيلية ( أكسانوفان ، ثم بارمنيدس ، ثم زينون ) ، أختزل زبدة تصوراته في قوله ( الكل هو واحد ) ، وبما إن الكل هو واحد فهو ثابت لامتغير ، وبما أنه ثابت لامتغير فهو موجود في واحده وفي كله ، يتولد من ذاته ( الوجود ) ، ولا يتولد من غيره ( اللاوجود ) ، وبما أنه يتولد من ذاته فهو خال من الفراغ والخلاء ، وهكذا نحصل على مقولته الشهيرة ( الوجود موجود ، واللاموجود غير موجود ) .
وهنا نحذر من مغبة أدراك مفهوم الوجود البارمنيدي على غرار الوجود الهيجلي ( الفكرة المطلقة ) أو على شاكلة الوجود الأفلاطوني ( المثل ) ، فلدى بارمنيدس الوجود هو موجود ، بينما لدى أفلاطون وهيجل الوجود هو الوجود ، أي ، وهذه كانت مغالطة لدى الكثيرين ، بارمنيدس يتحقق من الوجود من خلال الموجود ، ويرى الموجودات ، ويرى التغير والحركة . فالموجودات ليست إلا كثرة في الموجود ، وهي بالتالي ليست إلا الموجود ، والموجود ليس سوى دالة الوجود وليس العكس . كما إن الحركة والتغير ليستا خلا طارىء يطرىء على الموجود ولا يغير من حالته ، اي لايبدله من الموجود إلى اللاموجود .
هكذا ، يمكننا أن نثبت مقولة ثانية لبارمنيدس ألا وهي إن التغير كتعريف لايمت إلى المفهوم الذي نطمح إلى أدراكه أحياناً ، فهو ، أي التغير لدى بارمنيدس ، أنتقال من موجود إلى لاموجود ، أو بالعكس أنتقال من لاموجود إلى موجود ، وهذا محال وخلف في الحالتين .
لذلك يرفض الحركة والتغير ويقبل بالثبات ، لذلك يقبل بالكل في الواحد ، فالكل هو ( الموجودات ) دون فراغ أو خلاء ، والواحد هو الوجود بمعناه الموجودي ، لإن الوجود الكامل لايقبل التغير ولا الأنتقال ولا الحركة لسبب بسيط هو إنه لو قبل هذه الحالات فإنه يفقد معناه وفحواه ، وبالتالي يجنح نحو اللاموجود .
وهكذا ، يمكننا أن نثبت مقولة ثالثة لدى بارمنيدس ، مع العلم إن كافة المقولات تتداخل وتؤلف نسيجاً يمنع أي خرق ويردع أي أختراق ، وهذه المقولة الثالثة هي إن الوجود لايتولد إلا من الوجود نفسه ، لأنه لو تولد من غيره لكانت طبيعة هذا الأخير مغايراُ عن طبيعة الوجود ، وهذا ، حسب بارمنيدس ، محال .
وفي الفعل ، إن الموجود لايتولد سوى من ذاته ، ويأبى أن يتولد من اللاموجود أو من العدم ، ومن هنا تحديداً أبدع – برنت – في مؤلفه – فجر الفلسفة اليونانية – حينما أكد إن ( بارمنيدس يعني بالوجود كل ما هو موجود ، ويخص به كل الموجودات ، ومعنى ذلك إن الوجود ليس وجوداً مجرداً ، وبعيداً عن الواقع ، إنما هو الواقع نفسه ، أي جملة الأشياء الموجودة في العيان ) .
وهذا هو مبدأ الوجود ، أو بالأحرى مبدأ الموجود لدى بارمنيدس ، الذي من خلاله لاندرك فقط معنى الحقيقة إنما ندرك قيمتها المعرفية أيضاً ، فالحقيقة هي حقيقة وجودية على صعيد الموجود ، وهي حقيقة عقلية على صعيد معرفتنا بالموجود ، لإننا ، حسب بارمنيدس ، ( لاندرك الوجود إلا بواسطة العقل ) وهذا هو التلازم مابين الموجود ومعقوليته ، وهذا هو التلازم في تحديد العلاقة مابينهما ، فمعقولية الموجود هي في معرفة وجوده .
لذلك ، وعلى الصعيد المعرفي ، تنقسم المعرفة إلى قسمين ، قسم ظني ( متغير لايعتمد عليه ) ، وقسم حقيقي ( ثابت يستند إليه ) ، القسم الأول مرتبط بالحواس وبالتغير والحركة ، وبما إن الحواس مضللة ، حسب بارمنيدس ، فقد طلبت منه الآلهة التحرر من خداعها وأن لايدرك محتوى التغير والحركة إلا عبر هذه الرؤيا ، والقسم الثاني مرتبط بالموجود نفسه ، وبما إن هذا الأخير ثابت فإن الحقيقة المرتبطة بها ثابتة ( لأنك لاتستيطع معرفة اللاوجود ولا أن تنطق به ، لإن الفكر والوجود هما واحد ونفس الشيء ) أي ( لاندرك الوجود إلا بواسطة العقل ) أي أنه يوحد ما بين الموجود والمعرفة ( مايلفظ به ويفكر فيه يجب أن يكون موجوداُ ، لأنه من الممكن أن يكون الوجود موجوداُ ، ومن المستحيل أن يوجد اللاموجود ، أنني آمرك أن تتأمل كافة هذه الأمور ) هكذا تؤمره الآلهة .
ونتيجة عدم التمييز ما بين مبدأ الموجود ومبدأ المعرفة ، أرتبك أرسطو وأعتقد إن الوجود البارمنيدي هو صوري ، لإن العقل لايدرك مادة الموجودات إنما يدرك صورتها فقط ، وفي الحقيقة إن الوجود البارمنيدي هو صورة ومادة ، لإن العقل لايحدد الوجود كما توهم أرسطو ، إنما هو الموجود الذي يضفي على الوجود معناه ، ويفضي إلى العقل وأدراكه للوجود .
وعندما يبلغ بارمنيدس نهاية القسم الأول من مؤلفه يؤكد إن ( الوجود هو كامل من جميع الجهات ، مثل الكرة المستديرة الأبعاد من المركز ، لأنها ليست أكبر أو أصغر فهي في هذا الأتجاه وذاك ، ولا يعوقها شيء عن بلوغ النقط المتساوية عن المركز ، وليس الوجود أكثر أو أقل في مكان دون الآخر ، بل هو كل لا أنفصال فيه ، ولما كان الوجود متساوياُ من جميع الجهات فإنه يبلغ الحدود بشكل متجانس ) وهذا هو الوجود الواحد المستمر الثابت ، وهذا هو الموجود الواحد المستمر الثابت ( الوجود موجود ، واللاموجود غير موجود ) .
إن أنطولوجية بارمنيدس هذه لاتصمد أمام المآخذ الآتية :
أولاً : نحن نتفق مع بارمنيدس إن الموجود هو الذي يحدد مفهوم ومحتوى ( الوجود ) ، ولكن لانتفق معه إن الموجود هو الذي يحدد ( العقل ، المعقولية ) ، على الرغم إن ما يقوله بارمنيدس فيه الكثير من الموضوعية من زاوية إن الموجود وهو الثابت الوحيد يلتمس بطبيعته محتوى الحقيقة ( الوجودية والعقلية ) ومضمون العقل ( الوجودي والمعقولي ) المتعاطفين والمتوازيين معه .
ودعوني أعترف إن تصور بارمنيدس هذا يشدني أكثر من أي تصور آخر ، لإن الموجود يدل فعلاً على الوجود المطابق له ، ويدل من طرف معين على المعقولية ، لكن ، ماغاب عن ذهن بارمنيدس هو إن ثبات الوجود في الموجود أكثر وأكبر وأدق من ثبات المعقولية فيه .
أضف إلى ذلك إن المعقولية ، إن وجدت وإن تمكنا من ألغاء الجانب الشخصي فيها وأخذنا فقط الجانب الموضوعي كأمتلاء وحيد ، لايمكن إلا أن تكون تابعة بالضرورة لقوة الوجود في الموجود ، لقوة الواقع فيه ، لقوة الحقيقة فيه . لذلك فإن التنازع في المعقولية مابين الجانب اشخصي والجانب الموضوعي هو الذي يحدد مدى الضعف أو القوة في الوجود وبالتالي في الموجود .
ثانياُ : نحن نتفق أيضاً مع بارمنيدس إن مفهوم التغير في الموجود ، في الطبيعة ، في الوجود ليس سهلاً لوضعه في قالب معين ، فعلى الرغم من المقولة الماركسية الخالدة ، إن التبدلات الكمية تؤدي إلى التبدلات النوعية والكيفية ، وإن هذه الصيرورة تخلق حالة تناقضية تعكس أسسها في مبادىء الديالكتيك ، وعلى الرغم من مقولة هراقليطس ، أننا لانستحم في مياه النهر مرتين ، فإن التغير لايغير من حالة قوة الوجود في الموجود ما خلا أنه يبدله من موجود إلى موجود آخر ، وإلا فليقل لنا أحدكم لماذا نادى ماركس بخلود الطبيعة ، وبخلود المادة ، أي أزليتها وأبديتها !!
وهذا بالذات ما نعيبه على بارمنيدس ، فهو يرى الوجود والمعقولية في الموجود ، ولايرى التغير في الوجود والمعقولية في الموجود بحد ذاتيتهما إذا ما أستخدمنا تعابيره المنسجمة مع تصوره ، ولذلك فأننا نرجح مفهوم التغير على طراز محتوى القاعدة التي تؤكد : وجود المطلق في النسبي وكذلك وجود النسبي في المطلق ، وفي رأينا على ضوء هذا التصور يمكن أدراك محتوى مبدأ التناقض .
ثالثاُ : لن نتطرق بصورة فعلية إلى مدى الأرتباك الحاصل لدى بارمنيدس في التمايز الواضح والصريح ما بين أنطولوجية الوجود ومسألة المعرفة ، أي ما بين مبحث الوجود ومبحث المعرفة ، وكذلك فيما يخص قضية إن الحواس خادعة ومضللة ، وإن المعرفة هي في جانب منها ظني وكذلك الحقيقة والوجود ، لإنه ، وهذا هو الذي يهمنا أن ندركه هنا ، لايوجد ، ومن المستحيل إن يوجد ، ذلك الفيصل القطعي والمبرم ما بين المعرفة الحقيقية والمعرفة الظنية ، وكذلك ما بين الوجود الحقيقي والوجود الظني ، وكذلك ما بين الحقيقة الفعلية والحقيقة الظنية .
وذلك لسبب بسيط وهو هل إن الماء الذي يتألف من جزيئين من الهيدروجين وجزيء من الأوكسجين ، ندرك طبيعته من خلال العقل أم من خلال الحواس أم إنه يفرض علينا وجوده بتلك الصورة !!
رابعاً : لندقق في القانون الأنطولوجي لبارمنيدس ، الذي حسبه إن الضرورة تقتضي أن يكون الوجود موجوداً وتقتضي أن يكون اللاموجود غير موجود ( الوجود موجود ، واللاموجود غير موجود ) وهذه الضرورة هل هو يؤمن بها من العقل إنما يؤمن بها من الواقع ؟ وهذه المسألة كانت مثار خلاف حاد مابين أتجاه يؤكد على مثالية الفلسفة البارمنيدية وأتجاه يؤكد على ماديتها .
فإذا كانت هذه الضرورة نتيجة عقلية فإنها تقتضي ( الوجود هو الوجود ، واللاوجود هو اللاوجود ) لإن الموجود سيكون هنا ليس إلا إحدى مظاهر الوجود أو إحدى تجلياته في أفضل الحالات ، حسب تعبير جان بول سارتر ، وهذا ما قد يتطابق جزيئاُ مع مفهوم ( التغير والحركة وأنعدامهما ) ومع محتوى الثبات ، لكنه يخلق حالة رهيبة من التناقض ، لإن الوجود يتحول إلى حالة الضرورة وكذلك اللاوجود ، بينما يفقد الموجود حالة وجوده وضرورته وهذا ما يرفضه بارمنيدس قطعاً .
وإذا كانت الضرورة واقعية فإنها تقتضي أولوية الموجود على الأطلاق ، وهذا مايناسب فكرته من إن الوجود ( أي الموجود ) متناه وعلى شكل دائري وكل لاأنفصال فيه وكامل وواحد ومستمر ( وهذا ما أرجحه ) لكن ومن الملاحظ إن بارمنيدس يستخدم هذه الضرورة مرة واحدة وينساها إلى الأبد ، لإنه يبحث عن الحقيقة خارج الواقع ، لكن داخل الموجود ، ويبحث عن العقل خارج الواقع ، لكن داخل الموجود ، لذلك هو يؤكد إن ( الوجود موجود ، واللاموجود غير موجود ) ، بينما كنا نود أن يؤكد بارمنيدس على الآتي ( الموجود هو وجود ، واللاموجود هو لاوجود ) . وإلى اللقاء في الحلقة الثالثة والثلاثين ، مع ملاحظة أننا ألتزمنا كليا بما أؤتي في مؤلفه الوحيد ( في الطبيعة ) ولم نأخذ المرجعين الآخرين ( محاورة أفلاطون مابين سقراط وبارمنيدس ، وماذكره أبللورودس عنه ) إلا على سبيل الأستئناس .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. معدن اليورانيوم يتفوق على الجميع


.. حل مجلس الحرب.. لماذا قرر نتنياهو فض التوافق وما التداعيات؟




.. انحسار التصعيد نسبيّاً على الجبهة اللبنانية.. في انتظار هوكش


.. مع استمرار مناسك الحج.. أين تذهب الجمرات التي يرميها الحجاج؟




.. قراءة عسكرية.. ما مدى تأثير حل مجلس الحرب الإسرائيلي على الم