الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تفنيد منطقي لمفهوم العذاب الإلهي

إبراهيم جركس

2013 / 9 / 11
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


تفنيد منطقي لمفهوم العذاب الإلهي
________________________________

((لا يسعني تصوّر إله يكافئ ويعاقب خلقه... الله، باختصار، ما هو إلا عبارة عن انعكاس للضعف والوهن الإنسانيين. ولا يمكنني الإيمان بفكرة أنّ الفرد يستمرّ في الحياة بعد موت جسده، بالرغم من أنّ الأرواح الضعيفة والواهنة تحمل مثل هذه الأفكار من خلال الخوف أو الغرور الأحمق))
[البرت آينشتاين]
لطالما كان الوجود المزعوم لله موضوعاً جذّاباً للنقاش بين رجال الدين والعلمانيين. ولطالما قال رجال الدين على اختلاف دياناتهم أنّه لا يمكن سوى لإله عظيم وقدير أن يخلق هذا الكون. هؤلاء الأفراد المتديّنون والموبوءون بفيروس الدين لا يقبلون بأي نظرية علمية تقوم أساساً على التفسير الطبيعي لأصل ونشأة الكون. أمّا أعداء نظرية التطور وأنصار نظرية الخلق يقولون أنّ الإنسان نفسه عبارة عن كائن حي معقّد جداً، ومن غير المعقول أن يتطوّر عن مادّة خاملة وميتة. ثمّ يطرحون السؤال التالي: ومن أين جاءت هذه المادة الميتة؟
إلا أنّ هذه النزعة الماورائية سرعان ما تتعرّض لهجوم شديد على أيدي علماء يقولون أنّ الإنسان ما هو إلا نتيجة عملية تطوّرية تدريجية. ومن جهةٍ أخرى، يبرز العلمانيون ليعلنوا أنّه ليس هناك أي دليل يدعن وجود الآلهة، الشياطين، الجان، العفاريت، الحوريات، الملائكة، والأشباح، أو أي شيء آخر تحت مسمّى "ماورائي" أو "غيبي". ويذكّرنا العلماء أنّ الاكتشافات الأحفورية الأخيرة والتكنولوجيا الوراثية الجديدة تمنحنا دليلاً قاطعاً وباتاً بأنّ الإنسان كان ضمن عملية تطورية وأنّه تطوّر من أشكال حياة أدنى. في النهاية، يأتي المتشكّكون في الدين ويطرحون فرضيتهم الأخيرة ويقولون أنّ الأعاصير والطوفانات والزلازل والبراكين والمجاعات والأوبئة وكل الأمراض التي نراها في العالم جميعها تشير إلى أنّ هذا العالم غير مخلوق أو محكوم من قبل إله عليم قدير رحيم وعادل.
ليس الغرض من هذه المناقشة هو مناقشة وجود الله أو عدم وجوده. بل إنّنا نفترض، في سبيل النقاش، أنّ الله موجود. والهدف هنا من هذا الافتراض هو تفنيد فكرة وجود الجحيم أو جهنّم أو النار أو أياً كانت التسمية، والتي يؤمن بوجودها الملايين من الناس، والذين يؤمنون بدورهم أنّ الله قد خلق النار "لعقابهم" على خطاياهم وذنوبهم التي ارتكبوها في هذه الدنيا. والسؤال هنا ليس: "هل الله موجود؟"... بل هو بالأحرى: "هل خلق الله ناراً ليعذّب فيها الخطاة المذنبين؟".
الحس السليم والمنطقي يخبرنا أنّ الله سيخلق النار أو الجحيم فقط إذا كان لديه سبب لتنفيذ عقابه، وهذا هو عين العقل والمنطق. بمعنى آخر، من غير المعقول أن يكون الله قد قرّر بشكل اعتباطي بأنّه سيستمتع بتعذيب البشر (الخطاة والعصاة والمذنبين والكفّار والهراطقة والشياطين وما إلى هنالك من فئات مرشّحة لدخول هذا الجحيم) ويخلق الجحيم على هذا الأساس، إذ أنّ هذا السيناريو يشير إلى أنّ الله قد تصرّف بطريقة سادية وخلق هذه البحيرة من النار ليرضي غروره وليوقع الألم والمعاناة وأن يسكر نفسه بصرخات الألم.
نحن لا نمتلك أدنى دليل يثبت أنّ الله قد تصرّف بهذه الطريقة السادية والمريضة. لكن يبدو أنّ هذه الفكرة غير منطقية أو عقلانية على الإطلاق. فمن غير المنطقي الإيمان بأنّ الله ذكي بما فيه الكفاية ليخلق الكون وكل ما فيه من عوالم ويخلق الأرض وجميع الكائنات الحية عليها لكنّه يمتلك عقلاً مشوّشاً ومضطرباً لدرجة أن يخلق ناراً ليستمتع بتعذيب مخلوقاته التي خلقها. ذلك إله قاسي وسادي ومتوحّش... أليس كذلك؟ لذلك من المنطقي التوصّل إلى نتيجة مفادها أنّ الله سيعاقب الأفراد في الجحيم فقط إذا كان يمتلك سبباً مقنعاً لذلك... سبب يأتي بنتيجة.
لذا فيما يتعلّق بالعقاب في النار، والمنفّذ بمشيئة الله وإرادته، نكون أمام الاحتمالات التالية:
1) الله لديه سبب مقنع لذلك خلق النار.
2) الله لم يكن لديه أي سبب ليخلق النار، لكنّه خلقها بأيّة حال، لأنّه سادي ويستمتع بتعذيب الآخرين.
3) الله ليس لديه أي سبب ليخلق النار ولذلك لم يخلقها.
ينبغي علينا الآن أن نفرّق بين العقاب المنزّل من دون سبب والعقاب المنزّل بسبب مقنع وجيّد. علينا أولاً وقبل كل شيء أن نناقش أشكال العقاب المختلفة والمألوفة في مجتمعاتنا، بالإضافة إلى الأسباب الكامنة وراء هذه العقوبات الاجتماعية. نحن لا نناقش هذه العقوبات الاجتماعية لأنّ لها علاقة مباشرة مع المذهب الديني للجحيم في الديانات الإبراهيمية الثلاث، بل لوضع أساس معياري نقيم عليه عملية تمييزنا بين ما هو عقلاني وماهو سطحي وسخيف.
إذن، ما هي الدوافع التي تدفع لإنزال العقاب؟ لماذا يُرْسَل منتهكو القانون إلى السجون؟ لماذا يتمّ طرد الطلاّب المشاغبين وغير الملتزمين من المدارس؟
بشكل عام، هناك ثلاثة أسباب رئيسية تعلّل سبب إنزال العقوبة بفرد من الأفراد:
1) لتأسيس استباق لمنع حصول التجاوزات والذي سيفيد المجتمع، إذا سيعمل عمل الهجوم الرادع.
2) لفصل المسيئين والمذنبين عن الأفراد الذين تمّ انتهاك حقوقهم.
3) لإصلاح المسيء وتأهيله وذلك لصالحه ولصالح الآخرين والمجتمع.
دعونا الآن نبحث في كل واحدةٍ من هذه النقاط الهامة وباختصار:
? الردع:
جميعنا نسعى لتحقيق حياة سعيدة وممتلئة لأنفسنا قدر الإمكان. نحن نعمل بجهد للحصول على حاجاتنا المادية والمعنوية والتي نعتبرها مرغوبةً بالنسبة إلينا، وتخليص أنفسنا من الأعباء غير الضرورية. عملياً كلّ منّا يعمل بهذا المنحى لكن بمنحى لا يتعارض أو يتداخل مع الحقوق الشخصية للأفراد الآخرين.
لسوء الحظ، بعض الناس لا يظهرون هذا الاعتبار لحقوق جيرانهم والناس الآخرين. فهناك أقلية من الناس تسعى وراء سعادتها بطرق وأساليب تنتهك حقوق الآخرين داخل المجتمع وبشكل صارخ. على سبيل المثال، قد يسرق أحدهم بعض المال من شخص آخر. ولأنّ هذا التصرف أو السلوك اللاأخلاقي مرفوض ومكروه من قبل الأكثرية ، فالقوانين موجودة لحماية "الصالح العام". وأحد القوانين ينصّ بأنّ سرقة المال يجرّ عقوبة محدّدة على مرتكبها. إنّ وجود السجون والزنزانات قد يردع أولئك الأفراد الذين ينتهكون حقوق الآخرين وبنحو متكرّر. وستعود الفائدة إلى المجتمع في أنّ هذا الرادع سيعمل على تخفيض نسبة الجرائم في المجتمع.
جميعنا نتذكّر كيف كان المعلم أو المعلّمة يخرجان العصا ويهدّدان بها مشاغبي الصف. ومن فورهم كان الصف (عقلاء ومشاغبين) يتحوّلون إلى ملائكة ومهذّبين. إن خوف المشاغبين من العصا يردعهم من المشاغبة وانتهاك حرمة الدرس أو التقليل من هيبة واحترام المدرسين. فإنزال العقاب على الأقلية المشاغبة ينتج عنها نظام في الصف، حيث يصبح بإمكان الجميع متابعة الدرس. إذن: منع المشاغبين أو منتهكي القانون العام من انتهاك القوانين وإلحاق الضرر بالصالح العام هو الهدف الأول والأساسي من إنزال العقوبة.
? الفصل:
في أيّ مجتمع، دائماً تبقى هناك أقلية من الناس الذين سيضيّعون حياة كثيرين من الأفراد إن أعطوا الحرية للتصرّف كما يشاؤون. محمد بن عبد الله (قثم بن عبد اللات) على سبيل المثال عندما أمر أتباعه بارتكاب جرائم القتل والاغتيالات، فهو بذلك يقوم بانتهاك حقوق وحريات الآخرين. وعندما يفتي رجل دين ما كالخميني مثلاً بقتل أحد الأشخاص، أو يفتون بقتل طائفة مخالفة لمذهبهم فإنّهم بذلك ينتهكون حقوق الآخرين وحرياتهم. في الحقيقة، أي من أمثال هؤلاء يجب اعتباره من قبل السلطات بأنّه فرد بمنتهى الخطورة ويهدّد امن وسلامة المجتمع، حيث أنّه يطلق قتلته وبلطجيته في المجتمع ليقتلوا كل من يحكم هو بقتله وحسب معاييره الشخصية. وتركه يسرح ويمرح في المجتمع على هواه لن يؤدّي إلا لقتل المزيد من الأشخاص.
ولأنّ غالبية الأفراد في المجتمع ليست لديهم الرغبة ليتمّ قتلهم بالطبع، فيتمّ "إقصاء" وإبعاد الجاني أو الجناة. ربما لم يقتل ذلك الشخص أحداً بيده، لكن أي فرد في المجتمع عرضةً لأن يقع تحت رحمة خنجره أو سكّينه الغاضبة لو أنّ السلطات تركته حراً طليقاً.
يستخدم العقاب _لتحقيق عملية الفصل_ أيضاً في المدارس العامة. إذا يتمّ فصل واستبعاد الأولاد المشاغبين الذين يحطّمون أثاث المدرسة أو يعتدون على رفاقهم ويسيئون التصرف مع معلّميهم. فالمدرسة تريد استمرار العملية التعليمية، ومعاقبة المشاغبين ومثيري المشاكل في هذا السياق يهدف إلى منعهم من إعاقة الطلاب الآخرين أو حماية ممتلكات المدرسة. الفصل هنا إذن يهدف إلى الحؤول دون انتهاك حقوق الآخرين في المستقبل، وينطوي على أسباب أخرى للعقوبة.
? التأهيل
الأفراد المذنبون بجرائم مسيئة غالباً ما يجدون أنفسهم خلف القضبان. ويأمل المجتمع أنّ هؤلاء المسيئين سيُردَعون عن الإساءة مرةً أخرى، أو أنّ الذين يفكّرون مجرّد التفكير بالإساءة، سيُمنّعون من تنفيذها في المستقبل خوفاً من السجن والعقوبة غير السارة.
علاوةً على ذلك، أغلب السجون تميل إلى تأهيل هؤلاء المجرمين المسيئين عن طريق تعليمهم مهارة ما أو صنعة معينة. مع أنّ معظم المؤسسات الجزائية تفتقر إلى الهيئات الضرورية لذلك، فإنّ بعضاً منها تقدّم صفوفاً ودروساً تعليمية للسجناء في مجالات معيّنة كالإلكترونيات، النجارة، السباكة، أو الزراعة. بعض المؤسسات التصحيحية تعقد جلسات علاج نفسي. إذ أنّ المجتمع يأمل أن يتعلّم المسيء أشكالاً متنوّعة من الأفكار والتصرفات والتي ستحول دون قيامهم بنشاطهم الإجرامي أو العودة إلى حياتهم الإجرامية السابقة بعد خروجهم من السجن، وبذلك تعود الفائدة إلى المجتمع وإلى الصالح العام.
إذن أنّ سبب العقوبة أو إنزال العقاب على المسيئين أو المذنبين هو من أجل إصلاحهم وتأهيلهم.
بحثنا سابقاً في الأسباب الرئيسية الثلاث التي توجب إنزال العقوبة على المسيء أو المذنب: الردع، الفصل، والتأهيل. فهذه الأسباب تبرّر إنزال العقوبة الفردية. وعلينا أن ندرك بأنّ هذه الأسباب الثلاث للعقاب لأنّها تقدّم لنا نتائج مفيدة وتفيد الصالح العام. من هنا، إنّ إنزال العقوبة بفرد _أو الترويج لهكذا احتمال (أي، الردع)_ ينتج بيئة اجتماعية أفضل بكثير من البيئة التي تنتج عن حالة غياب العقوبة لذلك فهناك سبب منطقي لإنزالها وتطبيقها.
لكنّ ينبغي علينا الآن التمييز بين تطبيق العقوبة لسبب معقول وجيّد وإنزال العقوبة فقط من أجل الثأر والانتقام أو بغية إرضاء رغبة سادية. والآن لنقرأ القصة القصيرة التالية:
((تستيقظ أم حسن صباحاً على صوت طرقات على بابها. تقوم مسرعةً وتذهب لترى ذلك الزائر الغريب عند الباب. "أهلا بجارنا العزيز، ماذا يمكنني أن أخدمك". تسأل مستغربة ما الذي يريده جارها في الحارة. يجيب الجار بعصبية "لنتجاوز الإطراءات حالياً... ولدك، حسن، رمى حجراً على نافذتي منذ دقائق وحطّمها. لقد رأيته بأمّ عيني!"...
تقوم أم حسن بالاعتذار بشدّة عن تصرّف ابنها وتعده بأنّها ستدفع ثمن نافذته. وتخبره أيضاً بأنّها ستعاقب حسن عندما يعود إلى المنزل.))
السؤال الآن: ما السبب الذي يدفع أم حسن لإنزال العقوبة بابنها حسن؟ أياً من التصريحات التالية سيمثّل السبب الحقيقي؟
1) حسن سيعاقب لأنّه حطّم نافذة جاره بتعمّد.
2) سيعاقب حسن على أمل أن يتمّ ردعه من إعادته لهذا السلوك التخريبي في المستقبل.
التصريح الثاني الذي يمثّل غاية مصلحية من العقاب يقدّم لنا التبرير على العقوبة على النحو التالي: لن يقدر حسن على معاودة سلوكه التخريبي. أمّا التصريح الأول فإنّه بالكاد ينصّ على الحقيقة القائلة بأنّ حسن حطّم نافذة جاره. فالتصريح الأول لا يقدّم لنا مبرّراً (أو دافعاً) لإنزال العقوبة على حسن.
إنّ القول بأنّ تحطيم النافذة هو "السبب" لمعاقبة حسن يعني القول بأنّنا نستطيع العودة بالزمن إلى الوراء ومنع حدوث تحطّم النافذة، أو أنّنا بطريقة ما نستطيع إصلاح النافذة المحطّمة من خلال معاقبة حسن. لكن هل معاقبة حسن ستحقّق هذا الهدف؟... بالطبع: لا.
في حين يبدو أنّه من الممكن تغيير وجهة الأحداث المستقبلية _في أنّ معاقبة حسن ستردعه من تكرار تصرفّه المخرّب_ فإنّ معاقبة حسن لا ولن تغيّر من حقيقة أنّ النافذة قد تحطّمت في الماضي. النقطة الأساسية التي ينبغي علينا تذكّرها هنا هي أنّ "تلقين حسن درساً" يعتبر سبباً مبرّراً وكافياً لإنزال العقوبة به. لكنّ العقوبة الثأرية-الانتقامية _والموجّهة فقط نحو الأحداث الماضية التي يستحيل تعديلها أو تغييرها_ بحدّ ذاتها، ليست سبباً مقنعاً للعقاب، لأنّه لم تنتج عنها أي فائدة تذكر، للفرد أو للصالح العام.
المؤمنون من مختلف الديانات السماوية يتوعّدون ويبشّرون بأنّ الله لديه سبب لمعاقبة "المذنبين أو الخطّاة أو الضالّين وما إلى هنالك من صفات"... ولذلك فقد خلق النار من أجلهم لتلك الغاية. وسنبحث الآن في منطق وصلاحية وأخلاقية هذه التعاليم.
الردع: ولأنّ الغاية المنفعية من خلق رادع للحؤول دون حدوث الحوادث غير المرغوب بها، المضرّة بالمجتمع والصالح العام، ولأنّ هذه الحوادث غير مرغوبة بالنسبة لأكثرية من الأشخاص (أو مجموعة) ولكي يكون للرادع أي قيمة تذكر، فإنّنا نقسّم هذا القسم إلى احتمالين: (1) خلق الله الجحيم كرادع للخطيئة المضرّة والمؤذية، وذلك لصالح البشرية ككل ومنفعتها، (2) خلق الله الجحيم ليمنع الخطيئة، لمصلحته هو وحده.
السؤال الأول إذن هو على الشكل التالي: هل خلق الله الجحيم لصالح البشرية ونفعها، وذلك من خلال اللجوء إلى التهديد والوعيد بالعقاب بالنار للحؤول دون وقوع الخطيئة؟
للتحقيق في الوجود المفترض للجحيم _والذي يزعم أنّه لصالح البشرية ومنفعتها_ ينبغي علينا فهم التعاليم التي تبشّر بها الديانات من أجل البشرية: تزعم الديانات _وبالتحديد الديانتين المسيحية والإسلام_ أنّ غالبية البشر على الأرض سيعانون عذاباً أبدياً في النار، وعندما نطالبهم بدليل يدعم زعمهم هذا، نلاحظ أنّهم _المسيحيون والمسلمون_ يقتبسون من كتبهم المقدّسة الآيات التالية:
((ادخلوا من الباب الضيّق، لأنّه واسعٌ الباب ورَحْبٌ الطريق الذي يؤدي إلى الهلاك، وكثيرون هم الذين يدخلون منه! ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤدّي إلى الحياة، وقليلون هم الذين يجدونه!)) [متّى 7: 13-15]
{يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [سورة ق: 30] والقرآن مليء بالإشارات الصريحة والواضحة لجهنّم والفئات التي ستردها... لا بل نجد أنّه يشير في موضع محدّد أن جميع البشر سيردونها ولو لفترات مختلفة {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [سورة مريم: 71]
المهم، أنّ الأديان السماوية تؤمن بهذه النبوءات والتهديدات الإلهية، والتي تصرّح بأنّ غالبية الجنس البشري ستحيد عن جادة الصواب وتسلك طريق الضلال في الحياة، وسينتهي بها المطاف في الجحيم نتيجة لذلك. هنا لا يمكننا قبول فكرة أنّ الله قد خلق النار من أجل صالح البشرية ونفعها، حيث أنّه _بحكمته المطلقة_ سيعلم مسبقاً أنّ غالبية البشر سيقعون ضحايا غرف التعذيب الأبدي الشنيع، والتي من المفترض أنّها أقيمت من أجل البشر وخيرهم. إذا افترضنا أنّ الخوف من الجحيم سيفيد الجنس البشري إذ سيعمل عمل الرادع للجريمة أو "الخطيئة"، عندئذٍ فإننا نقف عند السؤال التالي: هل سيُستثنى الأخيار والصالحون من الرادع الذي يفوق ثمنّه دخول النار إلى أبد الآبدين؟ الجواب وبكل وضوح: طبعاً لا.
لنشبّه الأمر بالقصّة التالية: دعونا نفترض أنّ أحداً ما دعاك _أخي القارئ_ إلى العشاء في أفخم مطعم بالمدينة. ويعدك بأنّه سيقلّك من أمام منزلك بسيارته الفخمة، ويسقيك ويطعمك أفخم المأكولات والمشروبات على حسابه، ثم يعود بك إلى منزلك. لكن بالمقابل، مقابل كرمه وضيافته لك، فإنّه يصرّ على إرضاء نزعته الجنونية بإحراق منزلك. خياراتك هي: (1) قبول دعوة العشاء، وكنتيجة لذلك تستمتع بمظهر منزلك وهو يشتعل، أو (2) رفض الدعوة في سبيل إنقاذ منزلك من الدمار.
طبعاً سيرفض الجميع الدعوة لتجنّب احتراق منازلهم. لكن إذا اكتفى هذا الشخص فقط بدعوتك إلى العشاء وأخفى نواياه الحقيقية عنك، عندها ستقول أنّ هذه الدعوة إلى العشاء هي في صالحك، ومن الغباء رفضها. لكن عند الاطلاع على كلّ الموقف سوف تدرك أنّ قبولك للدعوة لن يكون في صالحك على الإطلاق لأنّ الخسائر (منزلك) ستكون أكبر من تلك الوجبة المجّانية.
طبعاً البشرية، كما في مثالنا التشبيهي، ستفضّل الخيار رقم (2) متنازلةً عن الرادع الذي يحول دون وقوع الخطيئة الضارة بالمجتمع، على الخيار (1) الذي ينطوي على إنزال رادع الخطيئة، وتلقّي صنوف العذاب المصاحب والأبدي داخل زنازين جحيمية في النار. هل ينبغي الشعور بعدم الراحة تجاه العذاب في الجحيم، بالتأكيد، وخصوصاً لأنّ فترة العذاب تمتدّ إلى الأبد، وهذا من شأنه أن ينفي حتى فكرة الخير والصالح العام اللذان سينجمان عنه (بوصفه رادعاً للسلوك المسيء) بالمقارنة مع فترة قصيرة نسبياً والتي تخدم الجنس البشري في هذا المسعى. بمعنى أوضح و أكثر بساطةً، إنّ فائدة وجود جحيم والخير الناجم عنه سيطغى عليهما الشر الناجم عنهما. لذلك فخلق الجحيم سيكون خسارة فادحة للإنسانية.
هناك دليل إضافي بأنّ عملية خلق الجحيم لم تكن من أجل صالح البشرية ونفعها في سياق الحؤول دون حدوث الخطيئة. أولاً، فالأشخاص الذين يخافون الجحيم غالباً ما يمتنعون عن الكثير من النشاطات السارّة التي حكم عليها رجالات الدين بصفتها خطايا. لسوء الحظ، هؤلاء الأشخاص المتديّنين والمعذّبين كانوا يخافون الانغماس في العديد من النشاطات السارة التي لا تنتهك حرمة أو حقوق أي أحد. ومثل هذه النزعة المازوشية التي يفرضها هؤلاء على أنفسهم ضارّة وغير مفيدة لهم، ولا تعمل لمصلحتهم.
ثانياً، وحتى عندما "يخاطر" الأفراد المتديّنون وينغمسون في إحدى تلك النشاطات "الدنسة" و"اللاإلهية"، كممارسة الجنس ما قبل الزواج، فإنّهم يعتقدون في دواخلهم بأنّهم سيعذّبون في النار إلى أبد الآبدين عقوبةً لهم على "خطيئتهم". لذلك نراهم يعانون بلا ضرورة من قلق مبرّح وعقدة ذنب لا جدوى منهما.
ثالثاً، لابد أن يكون الله _ذلك أنّه مطلق العلم والمعرفة_ قد عرف مسبقاً أنّ البشر سيؤسّسون نظامهم الجزائي الخاص بهم ويستخدمونه كرادع يمنعون من خلاله وقوع حوادث تنتهك حقوق بعضهم البعض.
رابعاً، لابدّ أنّ الله قد أدرك أيضاً أنّ العديد من الأفراد لن يؤمنوا بوجود النار أو الجحيم _ناهيك أنّهم لن يؤمنوا بوجوده هو حتى_ وبذلك فإنّ تهديده ووعيده بالنار لن يشكّلا رادعاً لهم.
إذا السؤال الأساسي هو: هل خلق الله النار من أجل فائدة البشرية ومنفعتها، من خلال لجوءه إلى أسلوب الوعيد والترهيب منها فإنّه يمنع الناس من الوقوع في الخطيئة أو الذنب؟... سيكون جوابنا على الشكل التالي: كلا.
عند هذه النقطة، يخطر ببالنا سؤال آخر: هل يخلق الله الجحيم لمنفعة البشر، ليس بالضرورة من خلال من الجرائم أو الذنوب، بل عن طريق تحفيز البشر وحثّهم على التوبة والاستغفار وطلب الغفران من الله؟
سابقاً توقّفنا عند السؤال التالي، وهو: هل خلق الله وكان غرضه منع الجريمة والذنوب، أم أنّه خلقها ليخيف البشر ويحثّهم على طلب الرحمة والمغفرة منه؟
عند النظر إلى هذا السؤال عن قرب، علينا أن نتذكّر أنّ الغرض الأساسي والنتيجة الأساسية من التوبة هو الهروب من النار والنجاة منها ودخول الجنة. ولأنّه لن يتعذّب فيها أحد لو لم تخلق منذ البداية، ولأنّ أغلب البشر سيرتكبون الذنوب والمعاصي وسيقعون ضحية نار الجحيم بدلاً من التوبة بسبب وجود الجحيم، يمكننا القول بأنّ الهدف منها لم يكن لفائدة البشرية ومصلحتها. لذلك، سيكون جوابنا على هذا السؤال هو: كلا.
إذا كان خلق الجحيم لا يفيد البشر، فهل تعود فائدة خلقها إلى الله، عن طريق جعل البشر، بالخوف منها، يمتنعون عن القيام بنشاطات وأعمال يرفضها؟ بمعنى آخر، هل كان الله يحاول بمعنى حرفي أن يخيف الناس عن طريق تهديدهم بالجحيم ويضغط عليهم ليعبدوه؟
إنّ قبول هذه الفرضية كتصوير دقيق للطبيعة الإلهية سينجم عنه _برأيي_ توكيداً كفرياً شديداً _ينطوي هذا السيناريو على حقيقة أنّ الله يتصرّف بطريقة شريرة أكثر من ستالين وهتلر مجتمعين في قمّة فظاعات الحرب العالمية الثانية، حيث أنّ ستالين وهتلر كانت لديهما أهداف وغايات محدّدة كانا يريدان تحقيقها أيضاً. وبغية الحصول على ما يريدانه، اعتقد كل من ستالين وهتلر أنّه كان من الضروري تعذيب وقتل الملايين من البشر. وبصفة كل منهما القائد الأعلى في بلده كان كل منهما يمتلك قوّة الخيار لقتل وتعذيب تلك الملايين من الكائنات البشرية أو تركهم أحياءً ببساطة. إلا أنّ ستالين وهتلر اختارا الأعمال الوحشية والبربرية لأنّ رغباتهما بالتصرّف بشكل إنساني كانت تطغى عليها أجندتهما الخاصة.
تماماً كما كان لستالين أو هتلر الخيار لقتل، أو عدم قتل، مواطني بلديهما والبلدان المجاورة، فالله أيضاً، إذا كان موجوداً، سيكون لديه الخيار لإرسال، أو عدم إرسال، المليارات من البشر إلى الجحيم. يعتبر التاريخ بشكل تبريري أنّ كلاً من ستالين وهتلر مجرّد رجل مجنون سادي وشرير لأنّ جبروتهما وطغيانهما اللا-إنسانيين ضدّ الأمم والأشخاص الذين يُزْعَم أنّهم وقفوا في طريق أهدافهما وغاياتهما. إذا قلنا عندئذٍ أنّ الله سيخلق النار ليمنع البشر من التصرّف بطريقة لا يحبّها _وهو يعلم مسبقاً أنّ غالبية البشر سيعانون عذاباً أبدياً نتيجةً لذلك_ عندها سنكون مجبرين لوصف هذا الإله على أنّه إله شرير وسادي أيضاً، لأنّه بذلك يكون قد عذّب بطريقة غير إنسانيةً أفراداً لمجرّد تحقيق أهدافه وإرضاء غاياته الخاصة.
لا حاجة للقول أنّ رجال الدين على اختلاف دياناتهم غالباً ما يصيبهم الغضب الشديد أخلاقياً بهذا التمثيل غير المرغوب "لإلههم المحبّ". وهم غالباً ما يجيبون بسرعة أنّ الله أعطى لكل واحدٍ منا "حرية الإرادة" وأنّه "مخيّر" لتقرير مصيره النهائي من خلال قبوله أو رفضه شريعة الله أو يسوع أو يهوه أو أياً كان ذلك الإله.
إلا أنّ هؤلاء المتديّنون يبطلون حجّتهم الخاصة هذه من خلال تأكيدهم بأنّ الله عليم ومطلق العلم والمعرفة: فهو يمتلك معرفة كاملة بالماضي، الحاضر والمستقبل. من هنا، إنّ حقيقة أنّ غالبية البشر "ستحيد عن جادة الصواب" أو "تضلّ سواء السبيل" أو طريق الحق (ولذلك ستعاني عذاباً أبدياً) لابد وأنّ الله قد أدركها وعرفها قبل أن يختار خلق الجحيم، قبل أن يختار خلق البشر، قبل أن يختار منح الإنسان روحاً خالدة، قبل أن يختار تقسيم الأرزاق والعقول بين البشر، قبل أن يختار إعطاء أقدار أبدية للأرواح البشرية، وقبل أن يسطّر كل شيء في كتابه المسطور حول الإيمان والضلال، وحتى قبل أن يخلق الشيطان ليضلّ الإنسان عن طريق الحق. بمعنى آخر، إذا كان الله عليماً بحق، كما يعتقد المؤمنون به، عندها لا بدّ وأنّه قد رأى مسبقاً كيف أنّ "خطّته الكبرى" ستكون لها نتائج كارثية على البشرية. ومع ذلك، حسب المذهب الإيماني عند الديانات، فقد أحكم خطّته في الخلاص المشروط، لذا فإنّ مليارات الأفراد، الذين خلقهم وأوجدهم على هذه الأرض، سيودَعون داخل زنزانات جهنمية من العذاب الأبدي. لذلك فإنّه سيتحمّل مسؤولية مباشرة على أي معاناة تقع على الجنس البشري.
تصرّ جميع الأديان ومعها رجالاتها كالإسلام مثلاً أنّ الله محبّة ورحمة واسعة وأنّ محمداً أرسل رحمةً للعالمين وهدايةً لهم من الضلال لينجيهم من عذاب الله وغضبه، ويصرّ المسيحيون أنّ يسوع المسيح إله محبّة وأنّه المخلّص الرحيم الذي مات على الصليب من أجل خطايانا ولينقذ الجنس البشري من العذاب الأبدي. لكن سؤالي هنا هو: من ذا الذي يهدّد بفرض هذا العذاب الأبدي؟ والجواب هو أنّ الله نفسه. لذلك نرى أنّ يسوع قد وقع ضحية حكمه الخاص عندما مات تطوّعياً مصلوباً على الصليب بصفته تضحية بديلة _طقس دموي حيث قدّم فيه يسوع نفسه لنفسه ليمحو الخطيئة.
لنفترض على سبيل المثال أنّ أحداً ما جاء ووضع مسدّساً في رأسك وأمرك أن تعطه ما معك من المال، وإلا فإنّه سينهي حياتك. أنت ترفض الاستسلام وإعطاءه مالك، فيقتلك السارق. هل تعتقد أنّ المحكمة ستبرّئ القاتل لأنّه أعطاك "خيارين" أو "حرية الاختيار"؟
هل يستحقّ هذا القاتل المدح والثناء والعبادة إذا أعفاك وتركك حياً بعد أن وضع مسدّسه في رأسك؟ بالطبع كلا، لأنّه بذلك لا يكون سوى أنّه يلغي خطراً فرضه عليك هو نفسه بالدرجة الأولى ومن دون إرادة منك. إلا أنّ الإله الإبراهيمي يظهر كإله "رحيم" لأنّه "ينقذ" مجمع صغيرة من البشر من عذاب أليم فرضه هو نفسه عليهم بلا إرادة أو رغبة منهم.
يقول المؤمن ((لكن من دون إراقة دماء، لن تغفر خطايانا. ولا يطلب منا الرب شيئاً سوى أن نقبل التضحية التي قدّمها يسوع على الصليب)).
هنا أريد أن أسأل ذلك المؤمن: من الذي أسّس لهذه القاعدة ((من دون إراقة دماء، لن يكون هناك مغفرة للخطايا))؟ والجواب مرةً أخرى "الله". إذا كان الله قديراً فعلاً، لكان قد أعلن أنّه ((من دون شرب شراب التفاح، فلا يمكن غفران الخطايا)) أو ((لا مغفرة من دون أكل النمل مثلاً)). فلو كان الله قديراً ، ويقدر على كل شيء، لفعل أي شيء يحلو له، ومن ضمنها مسامحة جميع "الخطاة" هكذا وبإشارة من يده وبدون أي قيدٍ أو شرط. إنّ حقيقة أنّ الله يطالب بإراقة الدماء قبل أن يمنح الغفران هي مؤشّر على العقلية البهيمية والفكر البدائي الموجودان عند الحضارات عندما كُتِب الكتاب المقدس. الإله الإبراهيمي مخلوق دموي، انتقامي ومتعطّش للدماء، لقد خلقه الإنسان على صورته.
إذا أساء إلي أحد أصدقائي أو أحد أفراد أسرتي، فأنا أسامحهم على الفور، وأحاول جاهداً ألا أحمل أي حقد أو غلّ تجاههم في داخلي. وأنا واثق أنّك أنت كذلك عزيزي القارئ. إذ أنّه ليس هناك أي سبب عقلاني أو معقول للتخبّط في حالة من الغضب الصبياني الأعمى والسعي خلف انتقام جائر ومتوحّش لا جدوى منه. علاوةً على ذلك، أنا حتماً لا أطالب بإراقة للدماء من أجل الصفح عن تصرّف صديقي _أو أخي أو أختي_ غير الملائم. مثل هذا "الثمن الدموي" لا يطالب بدفعه سوى زعماء المافيا، الذين تخلو قلوبهم من أيّة رحمة أو رأفة، وليس كائناً رحيماً يعرف عنه أنّه "مطلق الرحمة والمغفرة".
حتى نحن البشر العاديين نرى أنّه من المكروه أخلاقياً معاقبة الأفراد على معتقداتهم الدينية التي يحملونها، بغضّ النظر إذا كنّا نعتبرها خاطئة أو مغلوطة. بل إنّنا نعتقد أنّ رفض توظيف شخص ما أو سجنه أو اضطهاده بسبب معتقداته الدينية هو أمر مخالف للقانون وللعقل. لذلك بالتأكيد إذا كان هناك إله "مطلق الرحمة والمغفرة" فإنّه سيكون أكثر رحمةً و أكثر مغفرةً منّا نحن البشر العاديين، وليس أقل رحمة أو مغفرة. ومع ذلك يصرّ رجال الدين على القول أنّ الله هو الطاغية الأكثر تشدّداً وتعصّباً على مرّ التاريخ، بل إنّه يخطّط وبتعمّد مسبق بأن يعذّب بشكل بشع ومريع البشر الذين يحملون أفكاراً ومعتقدات دينية مختلفة عن أفكاره.
في النهاية يصرّ المؤمنون على أنّ الله مجبر على تعذيب المذنبين لأنّه إله مقدّس. ناهيك عن السؤال: كيف يمكن لإله قدير ومطلق الصفات أن يكون مجبراً على القيام بشيء، وناهيك عن التناقض الذي يكمن في صلب وطبيعة "العقاب الإلهي"، فإنّ فكرة "قدسية الله" بحد ذاتها هي فكرة فارغة فلسفياً، وهي أشبه بالقول أنّ "عمر ابن الخطاب" أو "علي بن أبي طالب" مسلمان حقيقيان، أو القول أن البابا هو رجل كاثوليكي صالح، حيث أنّ كلاً منهما يتحكّم بتعريف المفهوم الذي يحقّقه.
البابا، إلى حدٍ ما، لديه السلطة الكافية ليؤسّس مذهباً كاثوليكياً ويضع له التعاليم الكاثوليكية المناسبة. أمّا أن يفرض نفسه "ككاثوليكي صالح" حسب مذهبه الخاص فهو أمر لا معنى له _مع أنّ عبارة "كاثوليكي صالح" قد تحمل بعض المعنى التاريخي والتقليدي إذا أسّسناها على أساس مذهب الآباء الأوائل، وليس مذهب البابا الخاص. والحال أنّ القول عن الله نفسه بأنّه "مقدّس، أو قدوس" هو أمر عبثي وغير مجدي وخالي من المعنى، بما أنّه يفترض أنّ الله لديه السلطة الكاملة على تعريف "قدّوس"، وأنّ هذا الدين هو دينه الخاص وهو الذي وضع أسسه وشروطه ومعاييره الخاصة بنفسه. إنّ التصريح بأنّ الله "مقدّس أو قدّوس" هو مثال آخر عن الأخطاء المنطقية. إلا أنّ المسيحيون يوردون هذا الخطأ من دون تردّد "كتبرير" للخطّة الإلهية التي تقتضي معاقبة مليارات البشر في النار. لذلك نرى أنّ الله وهتلر يشتركان في معتقد مكروه مشترك بينهما مفاده أنّه من الجائز أخلاقياً تعذيب البشر إذا كانوا ينتمون إلى الدين غير الصحيح.
دعونا الآن نرجع إلى سؤالنا الأساسي: ((هل يمكننا إرجاع خلق الجحيم لمصلحة الله من خلال منع السلوك الإنساني غير المرغوب فيه؟))
يبدو أنّ هناك جوابين محتملين لهذا السؤال:
(1) نعم، إذا أدركنا أيضاً أنّ هذا الإله الستاليني-الهتلري إمّا أنّه يفضّل تحقيق وإرضاء نزواته الخاصة، أي أنّه يستمتع بإخافة الآخرين وإرهابهم ليؤمنوا بمعتقداته، على أن يتصرّفوا بطريقة إنسانية وفق طبيعتهم... وإمّا أنّه لا يأبه إطلاقاً لكي يخلق ناراً ليعذّب بها مخلوقات خلقها هو نفسه وبحسب مشيئته... أو إمّا أنّه يتصرّف بطريقة لا تخلو من نفاق عندما يحذّر الآخرين لكي "يسامحوا ويغفروا"، في حين أنّه هو نفسه يمارس مغفرته الانتقائية فقط... أو أنّه يتصرّف كأحمق تماماً.
(2) لا، إذا أدركنا أنّ الله لا يعذّب خلقه بتعمّد وبهذه الوحشية والقساوة.
* الفصل: هل حلق الله الجحيم ليفصل بها "الأرواح الضالّة" عن "المؤمنة"؟... هناك معتقد أساسي في الديانتين الإبراهيميتين –المسيحية والإسلام_ يقول أنّ الفرد إذا لم يكن يؤمن بالله وملائكته ورسله ونبيّه محمد وكتاب واليوم الآخر فقد ضّل وكفر، كما في حالة الإسلام. وفي المسيحية أيضاً، فمن لم يؤمن بيسوع ولم يقبله كمخلّص له فهو روح ضالّة ولن يرقى إلى رؤية أبواب السماء. بل يعتقد اتباع هاتين الديانتين أنّ من يرفض مثل هذه هذين المعتقدين الرئيسيين فإنّه "كافر ومخطئ" في عيني الله أو الرب. لذلك يرى المؤمنون أنّ الذي يرفض هذه المعتقدات لا يجب أن يدخل الجنّة أو الفردوس، بل يجب أن يدخل الجحيم أو جهنّم. يخبرنا رجال الدين أنّ الله لا يريد أن يحكم على هذه الأرواح بالعذاب الأبدي في النار، ولكن _وبسبب "قدسيّته وألوهيته" المثالية والكاملة_ فهو مجبر بأن يضع المذنبين في النار ويبقيهم فيها بعيداً عن فردوسه.
إذا افترضنا جدلاً أنّ الله موجود وأنّه يتسيّد على مدينة سماوية خاصّة به لا يمكن للخطاة والمذنبين ولوجها، عندئذٍ علينا أن ندرك أنّ هناك بديلان اثنان عقلانيين وغير جهنّميين يمكن من خلالها الفصل بين الأرواح الضالّة والمؤمنة.
(1) أنّ الله _بعد موت المذنب أو الكافر_ بإمكانه أن يعيد روحه إلى حالة اللاوجود أو العدم، كما كان قبل ولادته.
(2) أنّ الله _بعد موت المذنب أو الكافر_ يمكن أن ينقل الروح الضالّة إلى موقع بعيد عن الجنة أو الفردوس، لكنه مكان لا تعاني فيه هذه الروح أو تخضع لعقاب وعذاب شديدين لا جدوى منهما.
وحتى بالرغم من أنّ إلهاً قديراً مجبرٌ على منع الخطاة والمذنبين من دخول الجنّة، فإنّ البديلين السابقين سيحقّقان هدفه. فالتعذيب السادي والبربري ليس حلاً للفصل بين الأرواح الصالحة والكافرة، كما أنّه ليس من سمات الإله المطلق الرحمة والمغفرة.
لنقل على سبيل المثال أنّك جالسٌ في البيت وتتحدّث مع أصدقائك عن الهدية التي اشتريتها لابنك في عيد ميلاده الخامس. وفي منتصف حديثك يدخل ولدك الغرفة. وبما أنّك لا تريد لابنك أن يسمع عن موضوع النقاش، فتطلب من ابنتك الكبر سناً منه أن تلاعب أخاها في هذه الأثناء. من الممكن أن يذهبا إلى أي قسم آخر من المنزل ليشاهدا التلفاز، أو ربما يذهبان إلى منزل صديقة ابنتك المجاور لمنزلك. طبعاً سيكون من قبيل المبالغة أن تأخذ ابنتك أخاها إلى خلف المنزل وتلقي به في البرميل حيث يتمّ حرق النفايات، بغية فصله عن موضوع الحديث. إنّ حجّة "الفصل" التي يقدّمها رجال الدين دائماً ليست أفضل من هذا المثال الذي أوردناه، على الأقل من الناحية الأخلاقية.
إذن لنا عودة إلى السؤال: ((هل خلق الله النار للفصل بين الأرواح الصالحة والضاّلة؟)). هنا ينبغي علينا الإجابة بـ "لا"، لأنّه يمكن تحقيق هدفه هذا من خلال العديد من الطرق الإنسانية البديلة.
* إعادة التأهيل: هل خلق الله الجحيم ليعيد تأهيل هؤلاء الأفراد الذين فشلوا خلال حياتهم في إطاعة الأوامر الإلهية وإصلاحهم؟... إنّ مجرّد فكرة أنّ الهدف من خلق الجحيم من أجل إصلاح الخطّائين والمذنبين بحدّ ذاتها يمكن صرفها على الفور لأنّ رجال الدين والمؤسسات الدينية جميعهم يخبروننا أنّ عذاب الجحيم يستمرّ إلى أبد الآبدين. لن يطلق سراح أحد. وحتى إذا افترضنا على سبيل الفكاهة أنّ الجحيم قد يحوّل الخطاة إلى قدّيسين وأولياء، فإنّ غرف التعذيب هذه لا معنى لها، إذ أنّ المذنبين المؤهّلين لن يعودوا إلى المجتمع ليفيدوه من خلال إصلاحهم وعودتهم إلى جادة الحق. ومن الواضح أيضاً أنّه لا المجتمع نفسه سيستفيد _ولا أي كائن طبيعي أو فوق طبيعي سيستفيد_ من هذا العذاب اللانهائي الأبدي للكائنات البشرية.
لقد بيّنّا سابقاً وأثبتنا بأنّ العقوبة يكون لها سبب أو مبرّر لتطبيقها فقط عندما ينتج عنها فائدة محتملة أو حقيقية لشخص ما أو لمجموعة من الأشخاص. ما عدا ذلك، إنّ فعل إنزال العقوبة من دون سبب أو مبرّر سينحدر إلى نوع من الأفعال الثأرية أو الانتقامية، الغرض الوحيد والسادي منها هو إنزال المعاناة بالبشر. علاوةً على ذلك، كنّا قد خمّنّا السبب الذي دفع الله لخلق الجحيم، إذا كانوا موجودون بالفعل _السبب أولاً، ثمّ الله، فالجحيم. لكنّنا لم نجد سبباً كافياً ومقنعاً لذلك.
يمكننا القول، وبإنصاف، أنّ رجال الدين من الأديان الثلاثة لم يسبق لهم أن قالوا أنّ الجحيم قد خُلِق لإصلاح "ارواح" البشر الخطاة والمذنبين. ويمكنني أن أقول وبثقة شديدة أنّ الكتب المقدّسة لم تتطرّق إلى هذا الموضوع أبداً. ومع أنّ رجال الدين يزعمون أنّ هذا التهديد أو الوعيد بالعذاب بالنار سيخيف الناس ويمنعهم من ارتكاب المعاصي أو الذنوب، إلا أنّ هذه الحجج الفاسدة لم تتطرّق إلى السبب الذي يدفع الله لخلق النار أو الجحيم.
وكحجّة أخيرة للدفاع عن أنفسهم ومعتقداتهم، يزعم رجال الدين أنّ البشر أغبى وأبسط من أن يستطيعوا إدراك أو معرفة خطّة الله الكبرى أو التشكيك فيها. ((هذا الكتاب لا ريب فيه هدىً للناس))، ((الأحمق هو الذي قال بقلبه: ليس هناك إله)). فهذه الكتب هي كلمة الله المطلقة والمعصومة والكاملة التي لا يجوز التشكيك فيها، وبالرغم من أننا لا نفهم أو ندرك خطّة الله أو حكمته، إلا أننا نعلم علم اليقين أنّ الله عادل وليس بظلاّمٍ للعبيد. فإذا خلق الله الجحيم لمعاقبة الخطاة والمذنبين والضالين من البشر فهذا معناه أنّ لديه حكمة إلهية من وراء ذلك.
المشكلة في هذا المنطق هي على الشكل التالي: إذا ضربت ولدك ثم سألك عن سبب ضربك له، فأجبته بأنّ لك غاية في ذلك وأنّ حكمتك أوسع من فهمه، ومن وراء ضربك لك حكمة قد لا يفهمها هو، فما هو الدرس الذي تعلّمه من ذلك؟ إنّه أمر عبثي وغير مجدي. أمّا إذا قلت له عن سبب ضربك له، وبأنّه أخطأ بكذا وكذا، ولذلك توجّب عليك ضربه لتأديبه، ولكي لا يعيد الكرّة مرة أخرى، فهنا سيتعلّم درسه ولن يقدم على فعل مسيء عوقب عليه.
إذن ما هي النتيجة التي نتوصّل إليها بعد هذه السلسلة؟
إذا قلنا أنّ الجحيم موجود: فهذا معناه أنّ الله يحب ويرغب ويريد تعذيب البشر بدلاً من مسامحتهم والغفران لهم. وهذا يشير إلى أنّ ليس هناك أي سبب يدفع الله لخلق الجحيم ما عدا إنزال المعاناة والآلام بالبشر. من هناك نستطيع إضفاء تسمية اختارها توماس باين على الكتاب المقدّس، ونعمّمها على باقي الكتب المقدّسة الأخرى: فهي ليست كلمة الله، إنّها كلمة الشيطان. وإذا استمرّينا في افتراضنا بأنّ الله موجود، فأنا أعتقد أنّ الذين يؤمنون بأنّه هو الذي خلق الجحيم سيكونون هم أكفر عباده وأكثرهم إساءةً له ولسمعته.
أمّا إذا قلنا أنّ الجحيم غير موجود: وهذا معناه أنّ الله _إذا كان موجوداً أصلاً_ لا يريد ولا يرغب ولا يحب إنزال الألم والمعاناة بخلقه، وأنّه منزّه عن السادية وحبّ العذاب اللامجدي. وهذه النتيجة تشير إلى أنّ الإنسان _وليس الله_ هو الذي خلق جحيمه الخاص. حسب رأيي الخاص، أنا أعتقد أنّ هذه النتيجة هي الأكثر احتمالاً ومنطقيةَ. وكما قال روبرت إنغرسول: إنّ اسطورة الجحيم تمثّل "كامل حقارة، دناءة، انتقامية، انانية، وحشية، قسوة، كره، بغض، والحقد الكامن في قلب الإنسان".
من هنا، أجزم أنّ الإنسان خلق الله على صورته.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - البراق
بلبل عبد النهد ( 2013 / 9 / 13 - 05:52 )
عندما صعد محمد الى السماء غلى بغله المسمى البراق حضي برؤية الجنة والنار وهذا يعني انهما موجودان مند الازل في السماء لكن الانسان لما يبعثه الله سيكون فير الارض كما تدل على ذلك النصوص فهل سيصعد بنا هذا الله الى السماء ليدخل كل منا الى جنته اوناره وماهي وساءل النقل التي سيسخرها لذلك هل هي ابرقة جمع براق ام ماذا

اخر الافلام

.. 102-Al-Baqarah


.. 103-Al-Baqarah




.. 104-Al-Baqarah


.. وحدة 8200 الإسرائيلية تجند العملاء وتزرع الفتنة الطائفية في




.. رفع علم حركة -حباد- اليهودية أثناء الهجوم على المعتصمين في ج