الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نقض مفهوم العقل لدى هيراقليطس

هيبت بافي حلبجة

2013 / 9 / 11
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع



هيراقليطس ، الذي عاش في منتصف القرن السادس قبل الميلاد حتى الهزيع الأول من القرن الخامس قبل الميلاد ، لم يترك لنا ، كما بارمنيدس ، سوى مؤلف واحد على شكل شذرات ( في الكون ) ، وأنطلق من قاعدة رائعة ، قاعدة أخاذة ، قاعدة ترتجف لها الفلسفة عند النطق بها ، أو تتفتق حين السماع بها ، قاعدة إن الكون ، العالم ، الطبيعة ( الوجود والموجودات والأشياء ) هي في سيلان مستمر ، في جريان ذا ديمومة لاأنفصال ولا فصل ولاحد ولاحدود يلتزم بها ، فالسيلان يلج في بنية الأشياء ، الموجودات ، الكون ، الزمن .
ولقد أسيء فهم هيراقليطس ، كما بارمنيدس ، من قبل معظم الشخصيات الفكرية والفلسفية ( أفلاطون وغيره ) ، ولم تنتبه تلك الشخصيات إلى إن المقولة إذا ما أستبدلت بغيرها تعرضت لأنفكاك وشرخ وشيء من التصدع وفقدت ، على أثر ذلك ، شيئاً من دورها في بنيوية المنظومة الفكرية لصاحبها ، لذلك حرصنا في هذا المقال ، والمقال السابق ( نقض أنطولوجية بارمنيدس ) على تثبيت القاعدة الأولى التي أنطلق منها هيراقليطس ( وكذلك بارمنيدس ) ، وألتزمنا حصرا بما أؤتي في مؤلف كل منهما ، وأبتعدنا عن المصطلاحات التي قد تفضي إلى تصورات لم يردها صاحبها ، وللتوضيح مثلاً ، إن هيراقليطس لم يذكر كلمة لوغوس ولامرة واحدة ، ولم يذكر كلمة الأضداد ولامرة ، وبالرغم عن ذلك نجد في كل مكان عبارة ( اللوغوس والأضداد ) لدى هيراقليطس .
علاوة على ذلك إن محتوى التغير لديه ليس مبدأ ، وليس حتى حالة ذاتية ، إنما هو سيرورة وليس صيرورة ، أي أنه تنقل وليس تحول حقيقي ، أنظروا إلى ما يقوله في مؤلفه في الكون ( لايمكن للإنسان أن يستحم في مياه نهر واحد مرتين ، ففي المرة القادمة تكون المياه القديمة قد تغيرت وحلت محلها مياه جديدة ) أي أن المياه الأولى لاتتحول إلى مياه الثانية ، كما هي الحال لدى المقولات لدى هيجل وبعكس التشكيلات الإقتصادية التاريخية لدى ماركس ، إنما هي ، لإنها تسير ، تترك محلها للمياه القادمة لإن هذه الأخيرة هي الآخرى لاتكف عن السيران ( السيلان ) ، وكلتاهما لاتستطيعان الوقوف أو التوقف ( كل شيء في سيلان دائم ) .
والسيلان ( أو الدفق أو ربما من الأصح أستخدام التدفق أو ربما من الأفضل الدمج ما بين هذه المعاني الثلاثة ) لاينحصر أبداُ في أي مستوى كان ، سواء من حيث طبيعة المكان ، أو من حيث طبيعة الزمن ، أو من حيث طبيعة الموجودات ، لأنه سيلان الوجود من خلال موجوداته أو سيلان في الوجود إذا ما حذفنا معنى الثبات في هذا الأخير ، أوهو الموجودات التي تسير وتسيل ، أو هو الوجود الذي يسيل ، أو هو كل تلك المعاني مجتمعة .
وفي الفعل ، هو لم يميز في مؤلفه ( في الكون ) ما بين الوجود ومابين الأشياء ( فالخالدون زائلون ، والزائلون خالدون ، وحياة البعض موت للآخرين ) وكأننا إزاء حالة لاثبات فيها إلا كونها حالة ، فثمة حياة فموت ، فولادة فموت ، حياة لشيء ما ، فموت لشيء آخر ، ولادة في كل مكان وزمان وعلى كل صعيد وموت لأشياء أخرى في نفس تلك المجالات ، وذلك دون كلل أو توقف أو إيقاف ، أو كأننا إزاء سباق جري يولد الأول فيركض عدة كيلومترات ليسلم(ها) للثاني الذي يسلم(ها) للثالث ، وهكذا دواليك ، لكن لماذا هي كذلك ، لاندري ، ومتى بدأت ، لاندري ، ومتى ستنتهي ، لاندري ( نحن ننزل ولاننزل في نفس النهر ، نحن موجودون ولسنا موجودين ) .
ورغم هذا السيلان ، ورغم هذه الدورة التاريخية التي لاتكتمل ، والتي لاتستطيع أن تكتمل ، توجد حالة من الأنسجام ( التناغم الخفي أقوى من التناغم الداخلي ) ، حالة من نتاج المتقابلات ( من الأشياء التي تختلف يظهر أجمل تناغم ) ، حالة تمنح المعنى للسيلان وتثبته ، فإذا ما أنتفى الأنسجام ضاع السيلان وضاع الكون ، لإن الإنسجام هو قوة التماسك في السيلان ( الرب هو نهار وليل ، شتاء وصيف ،عاصفة وهدوء ، حرب وسلم ، شبع وجوع ) .
وهذه العلاقة مابين السيلان وما بين الأنسجام خاضعة في أساسها ، حسب هيراقليطس ، لمحتوى الصراع وليس لحالة الصراع ، لذلك يجدر بنا أستعمال كلمة ( الكفاح أو النضال) ( إن الحقيقة الجوهرية في العالم الطبيعي هي الصراع ) وهو يقصد حقيقة مضمون الكفاح أو دعوني أستعمل مقولة الصراع السلمي لإن ذلك يتطابق مع أولاً : لم يستخدم أبداُ فحوى الألغاء أو الأقصاء أو التناحر في كل شذراته ، ثانياُ : السيلان لديه ليست نتيجة ، كما أعتقد أفلاطون وهيجل وماركس ، إنما هو واقع يتضمن ما يترتب عليه ( وسوف نرى بعد قليل أنه من الصعب التمايز ما بين السيلان والنظام والنار ) ، ثالثاُ : هو من أنصار الكليات ويمقت الجزئيات ، سيما تلك المحدودة منها ، وهو يرى الكليات في السيلان ، في الرب ، في النار ، في نظام الكون .
وهذا الصراع السلمي للموجودات ( ولادة وموت ) هو جزء من حقيقة السيلان ، وجزء من حقيقة النظام في الكون ، هذا النظام هو هكذا ، لاجدال ولانقاش فيه ، لاريب ولاأرتياب فيه ، لا خالق ولامخلوق له ( فكل شيء في سيلان دائم ) ولادة وموت ( ولاتستطيع أن تنزل في نفس النهر مرتين ) .
وهذا النظام هو فوق الجميع ، فوق الناس ، فوق الرب ( إن نظام الكون واحد للجميع ، لم يصنعه أحد ، لم تصنعه الآلهة ، لم يصنعه الناس ، لإنه هو دائماُ كذلك وسيكون كذلك أبداُ نار حية دائمة البقاء أشعلت بمقاييس وأطفأت بمقاييس ) ويستطرد فيما بعد ( هذا الكون ، الذي هو نفسه بالنسبة لكل موجود ، كان ويكون وسيبقى أبداُ ناراً حية ، تستمر بمقدار وتنطفىء بمقدار ) ويردف لاحقاُ ( النظام واحد في الكون ، وهو النار التي هي سبب كل الموجودات ) .
إذن النار ( إن النار تدير الكون وتوجه الكل وتخلق النظام ) هي الناموس الأول والأخير في الكون ( الوجود ) ، السبب الأول والأخير له ، وليس منها نشأ الكون ونشأت الموجودات ، إنما هي التي تتحول إلى كافة الأشياء والموجودات ، هي التي تلد هذه الأشياء بطبعها ، فالنار هي أصل الوجود ، قانون الوجود ، نظام الوجود ، حقيقة الرب ، النار هي الوجود ، النار هي الثابت والمتحرك بطبعها ( النار لاتشبع أبداُ ولاتجوع مطلقاُ ) .
وهذه النار ما أن تتحول إلى الأشياء ( ولادة وموت ) حتى تسعى بطبيعتها إلى التفرد بذاتها الحقيقية النارية مرة ثانية ، وما أن تبلغ هذه المرحلة ، وهذه النقطة ، نكون قد طوينا صفحة كاملة من تاريخ السيلان ، أي دورة كاملة من دوراته ، عندها تبدأ النار بولادة مرحلة ثانية ، وتتحول إلى أشياء وموجودات ( ولادة وموت ) ، وليولد الأختلاف من جديد ( لن يتسنى معرفة معنى الأشياء لو كانت الأختلافات غير موجودة ) ، ولينشيء التحول من جديد ( إن كل ماهو مختلف يتجمع ، ومن المختلف يولد أجمل أنسجام ، وكل شيء يتحول بالتنافر ) .
وهكذا إلى ما لانهاية ، وهذا هو النظام العام الذي يسير عليه الكون ، وهذا هو السيلان ، وهذا هو المعيار الفعلي لكافة الأشياء ، وهذا هو التغير المستمر اللامنقطع لعامة الظواهر ، وهذا هو العقل ، العقل الذي يحكم الكون ، لا العقل الذي يحكم التاريخ كما أراده هيجل ( عندما ينصتون للعقل ، فإن من الحكمة الأتفاق على إن الأشياء جميعها واحدة ) ، ويؤكد مرة ثانية ( ينبغي أن يدافع الناس عن القانون العقلي كما لو كانوا يدافعون عن أسوار مدينتهم ) .
وفي الحقيقة ، إن العقل ، لدى هيراقليطس ، لايحكم الكون ولايدير العالم فقط ، بل هو يحدد كل شيء ويحدد ذاته لإنه يتصف بثلاثة صفات جوهرية ، الأولى : إنه قانون ذاتي وموضوعي لنفسه وللعالم ، الثانية : إنه لايلد السيرورة فقط بل يمنحها معناها وطبيعتها ، الثالثة : أنه لايلد السيرورة فقط إنما يدل دلالة قطعية وأكيدة على محتوى الصيرورة لكن ضمن خاصيات ثلاثة ، الأولى : الدلالة هنا جزئية بخلافها عند السيرورة ، الثانية : النار تسير بالمطلق و تصير بالنتيجة والتبعية ، لإنها وإن فقدت شكلها وتحولت إلى ( الأشياء والموجودات ) فهي تبقى ناراُ ، ودليلنا على ذلك أسترجاعها لذاتها في نهاية كل مرحلة ، الثالثة : هو قوله إن العقل ( يسود كل من يريد ، ويكفي للكل ، ويسيطر على الكل ) .
هذا هو العقل ، أو العقل الكلي ، لدى هيراقليطس ، ولدينا عليه المآخذ التالية :
أولاً : وددت لو إن الفيزياء الحديثة أستوعبت محتوى أن يكون الكون في سيلان دائم ، ووددت بنفس الدرجة لو إن هيراقليطس لم يقيد هذا التصور بأي قيد ، لإن هذا هو أهم وأخطر وأدق وأروع تصور عن الكون والطبيعة ، ومن المستحيل وضعه في قوانين فيزيائية دقيقة وفي أطر فلسفية على المدى المنظور ، إلا أللهم حدوث ثورة حقيقية في هذين الميدانين ، أو في أحدهما .
فالسيلان هو أرقى من السيرورة ( جريان التهر ) ومن الصيرورة الجزئية ( تحولات النار) ، وأرقى من النار نفسه ، لإنه لايلتزم بالمحتوى ، كما توهم هيراقليطس ، ولا بالمشخص ولا بالأشياء عامة ولا بالموجودات كافة ، أنه يلتزم بالتحول والتغيير والأنتقال النوعي في الكون والوجود .
السيلان ليس مروراُ في الشكل ولا حتى في المضمون ، ولو كان كذلك لما كان سيلاناُ ، لكان أقرب إلى المنطق الصوري الشكلي لدى أرسطو وأقرب إلى التحولات ( مفهوم النقلة ) في الفلسفة الإسلامية ، وأقرب إلى تعاقب الليل والنهار بصورته الجافة .
ولإنه لم يدرك هذا المعنى الحقيقي للسيلان ، لم يضفي على المتقابلات ( الرب هو ليل ونها ، شتاء وصيف ،عاصفة وهدوء ، حرب وسلم ، شبع وجوع ) إلا المعنى المرئي التعاقبي .
ثانياً : العقل الذي يحكم الكون ( هيراقليطس ) كما العقل الذي يحكم التاريخ ( هيجل ) ، لايحكم إلا عن طريقين ، أو لايستطيع أن يتصرف إلا عبر سبيلين ، إما من الداخل أو من الخارج ، ولا يوجد سبيل آخر كالمزج ما بينهما لأننا نتحدث ، هنا ، عن العقل عن العقل الكلي .
وإذا كان يحكم من الخارج ، ولجنا في متاهة لاحد ولاحدود لها ، كيف يحكم من الخارج ؟ لماذا يحكم من الخارج ؟ لماذا خلق هذا الداخل ( الكون ) ؟ وما هي الغاية ؟ وهل الغاية تخص الخارج أم تخص الداخل ؟ وفي الحالتين متاهات أخرى . أضف إلى ذلك إنه هنا يفقد السيلان كل محتواه وأي قيمة كانت له ، حتى لو أكتفت قيمته بالسيرورة التعاقبية البليدة بالنسبة لهيراقليطس ، ويفقد التاريخ كل قيمه الموضوعية بالنسبة لهيجل ، وحينها لاوزن للديالكتيك ومبادئه .
وإذا كان يحكم من الداخل ، وهذا هو المفروض المنطقي ، فلامندوحة من وجود علاقة بنيوية ما بين العقل والكون ( هيراقليطس ) أو بين العقل والتاريخ ( هيجل ) ، وهذه العلاقة لاتقبل أن تكون مجرد علاقة ، أي لابد أن يكون العقل جزءاُ من الكون ( هيراقليطس ) أو من التاريخ ( هيجل ) ، وحينها لايمكن أن يكون عقلاً ( عقلاُ مطلقاً ) .
ثالثاً : كما إن السيلان لايعتد بالمحتوى ، هو لايصبو إلى محتوى معين ، لأنه لو كان يصبو إلى أي شيء كان من خلال جريانه ، فإنه إما أن يبلغه في ( النهاية ) أو أنه يفشل في ( مهمته ) ، فإذا ما فشل في هذه المهمة فإنه لايفشل لوحده إنما يفشل العقل معه ، وفشل العقل ينزع عنه صفة الأطلاقية على الأقل ، ويقوض حقيقة أمره لدى هيراقليطس .
وإذا بلغ ما يصبو إليه ، فهذا دليل على أنه كافح ، خارج العقل ، ووصل إلى مبتغاه ، وهذا ما يجعلنا أن نطرح السؤال التالي : ما قيمة العقل الذي يحكم الكون ، إذا كان السيلان يبلغ إلى ما يصبو إليه بكفاحه وأدراكه الخاصين !!
وإذا هو لايصبو إلى محتوى معين ، وهذا هو المنطقي المفروض ، فإن العقل لايستطيع أن يحكم الكون ، وبالتالي يفقد شروط وجوده ، ويصبح كائناُ جافاُ مائتاُ ، تمام مثل الوجود العام لدى هيجل ، وهكذا يغدو أفتراض وجوده نوعاُ من الترف الفكري ، وزائدة في المنظومة الفلسفية ، فالكون يمقت العقل الكلي المطلق وكل تداعيات وجوده ، ويعشق ، بنفس الدرجة ، عن أي ذات له ( أي للكون ) في المستقبل . وإلى اللقاء في الحلقة الثالثة والثلاثين .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - شكرا لجهدك
سيمون خوري ( 2013 / 9 / 12 - 15:53 )
اخي الكاتب المحترم هيبت تحية لك ولجهدك في اعداد هذه المادة القيمة مع التقدير


2 - تصنيفات
محمد فيصل يغان ( 2013 / 9 / 13 - 05:02 )
هل يجوز ان نطرح التصنيف التالي أرسطو و العقل السكوني, هيراقليطس و العقل الحركي, ماركس و العقل الديناميكي

اخر الافلام

.. السيسي يحذر من خطورة عمليات إسرائيل في رفح| #مراسلو_سكاي


.. حزب الله يسقط أكبر وأغلى مسيرة إسرائيلية جنوبي لبنان




.. أمير الكويت يعيّن وليا للعهد


.. وزير الدفاع التركي: لن نسحب قواتنا من شمال سوريا إلا بعد ضما




.. كيف ستتعامل حماس مع المقترح الذي أعلن عنه بايدن في خطابه؟