الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نقض النوس ( العقل) لدى أناكساغوراس

هيبت بافي حلبجة

2013 / 9 / 16
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


نقض النوس ( العقل ) لدى أناكساغوراس
هيبت بافي حلبجة
لقد أضفى أنطوان لافوازييه ، العالم الكيميائي الفيزيائي الفرنسي المعروف ، قيمة حقيقية على بعض آراء أناكساغوراس حينما أكد عبر قانونه حفظ المادة : إن لاشيء يفنى في الكون ولاشيء يخلق من العدم لأننا إزاء تحول دائم للمادة في أشكالها وفي كتلها .
أناكساغوراس ( 500 – 438 قبل الميلاد ) أبدع أبداعاً منقطع النظير عندما أدلى بمقولتين جوهريتين ، الأولى إن البشر من شأنهم أن يعيشوا بهدوء إذا ما نزعت هاتين الكلمتين بعيداً ملكي وملكك ، والثانية إن لكل شيء تفسير طبيعي ، فالقمر ليس إلهاُ ، إنما صخرة كبيرة ، والشمس هي صخرة ساخنة . وبسبب هذا القول الأخير أتهم أناكساغوراس بالألحاد وأدين من قبل ثلة من المناوئين له ولباركليس ، القائد السياسي الشهير ، فأضطر على أثر الإدانة ترك أثينا إلى الأبد .
إن هذا الأتجاه الطبيعي ، وليس المادي الجدلي بامفهوم الحديث ، شكل في ذلك العصر من الفلسفة الأغريقية ، خطوة تاريخية متقدمة ، أكثر تقدماُ وعظمة من الفكر الحالي في منطقة الشرق الأوسط ، وفي رأينا من العار والبشاعة المضاهاة أصلاً ما بين العصرين ، لصدق الشخصية ولصدق المعتقد ولصدق الغاية والهدف في ذلك العصر ، بعكس منطقة الشرق الأوسط حيث زيف الشخصية وزيف المعتقد وبهتان الهدف والغاية .
وأناكساغوراس ، بما كان لديه من نظرة ثاقبة حادة ، أستطاع أن يؤثر في ثلاثة فلاسفة كبار ، أرسطو ، وديمقريطس ، وأفلاطون ، الأول من خلال محتوى النوس ، والثاني عبر مفهوم الرؤيا الذرية للوجود المادي المحسوس ، والثالث من خلال فحوى ، أقول جيداُ من خلال فحوى من يحكم الكون ، أو يتدخل في شؤونه ، فأناكساغوراس يؤكد إن النوس يتدخل في أمر الكون ، بينما يزعم أفلاطون إن الروح والمثل هي التي تتدخل في شأنه .
ولقد كتب بعضهم ، والأسماء لاتهم كثيراُ ، إن النوس يحكم العالم ( أناكساغوراس ) والروح تحكم العالم ( أفلاطون ) ، ونعتقد بكل قوة إن الجملتين هما في غاية الخطأ ، فلا النوس يحكم العالم لدى الأول ، ولا الروح تحكم لدى الثاني ، إنما هو نوع من العلاقة والتدخل والإدارة .
ولقد أستند أناكساغوراس إلى مفهوم آمن به طوال حياته ، وهو إن الكون يتألف من موجودات وأشياء غير قابلة للفناء بالمفهوم العدمي له ، فلا شيء يفنى من الوجود كما لو أنها ما كانت ولتذوي في العدم ، ولاشيء يخلق من العدم كما لو أنها لم تكن .
فلاعكس ذلك ولا ضد ذاك ، لإن الكون هو على شكل أجسام تتغير وتتحول دون أن تتبدل ماهيتها وبالتالي لاتتغير طبيعتها ، ولإنه هكذا ، فكل شيء فيه يتغير ويتبدل دون أن يفنى إلى العدم ، وكل شيء فيه يتولد ويستمر دون أن يكون مخلوقاُ من العدم . هذا هو أناكساغوراس ينفي العدم ، وينفي الفراغ والخلاء ، فالكون هو تلك الأجسام والدقائق حصراً ، لاجدال ولاريب ولا تماري في ذلك .
والتحول لدى أناكساغوراس ليس تغيراُ أعتباطياُ ، وليس تبدلاُ آلياُ أجرائياً ، إنما هو تحول فيه شيء من الفهم ، فيه شيء من النوس ، لذلك يقول أناكساغوراس : عندما سأله أحدهم ، لماذا أنت موجود في الكون يا أناكساغوراس ، رد بكل ثقة ودون تلعثم : لآرى الشمس والقمر ولآشاهد السماء .
وهو هنا لايعني المشاهدة الحسية أو الرؤيا الأولية أو التمتع والأبتهاج ولا سعادة المهجة ، إنما قصد شيئاُ من الكمال والتكامل ، شيئاً من الدور الحقيقي للأشياء والموجودات ، بل قصد أيضاً أننا نخص هذا الكون كما أنه يخصنا فرادى وجماعات ، فلا أنفصال ولا أستقلال ولاتبعية .
لذلك هو يؤكد ( كل شيء له تفسير طبيعي ، فالقمر ليس إلهاُ ، إنما هو صخرة كبيرة ، والشمس هي صخرة ساخنة ) وهو لايرمي فقط إلى نفي الألوهية عنهما وعن كل الموجودات ، بل ليؤكد : أنا أناكساغوراس ، وأنت ، والآخرون ، والشمس والقمر والسماء ، كلنا نؤلف البعد الحقيقي والمحتوى الفعلي لهذا العالم .
وهذا شيء طبيعي ومنطقي ومنسجم مع تصوره العام ، طالما أنه ( لاشيء يخلق من العدم ، ولاشيء يفنى إلى الزوال العدمي ) وبالتالي فلافراغ ولاخلاء ، إنما تحول في الأجسام ، ونظام في ثناياها ، وتكامل في حدودها . وثمة تشابه رهيب بين مايذهب إليه أناكساغوراس وبين ما ذهب إليه زرادشت الذي يؤكد في خطابه للإله ( يا إلهي ، ما قيمة شمسك وقمرك ووديانك وسهوبك وخمائلك وبساتينك ، ومافائدتها إذا لم أنظر إليها أنا وأحدج فيها ملياً ، وإذا لم تتمتع بها مهجتي ) فهذا التثليث الأفتراضي المضمر ( الإله ، الكون ، الشيء ) خاضع لمحتوى أمر يعود في أسسه إلى مسألة بقاء الوجود وديمومته ، وذلك بغض النظر عن ذلك الشيء الذي في التثليث ، سواء أكان أناكساغوراس ، أم زرادشت ، أم شجرة ، أم نسمة ربيعية ، أم وردة حمراء .
وطالما إن لاشيء يخلق ولايفنى ، وطالما لايوجد شيء أسمه الفراغ أو الخلاء ، فلامناص من وجود فكرة جوهرية مفادها إن الأجسام تنقسم إلى عدد لامنتهي ولامتناهي من الدقائق ومن الذرات ، فكافة الأجسام هي مجرد تجمع عظيم وهائل من ذرات من نفس الطبيعة وذات المكون ، فالذهب والحديد والفوسفات ، مثلاُ ، ليست إلا دقائق أو جزيئات من نفس النوع ، فالذهب مؤتلف من عدد هائلة من شذرات الذهب ، وكذلك الحديد والفوسفات ( إن كل العناصر موجودة على شكل دقائق وأقسام ، وإن هذه الأقسام والجزيئات لانهائية العدد ، لامتناهية في الصغر ، وكانت موجودة منذ الأزل ) .
وليته توقف عند هذا الحد ، لكان ذلك من أرقى الأفكار الفلسفية ، لكنه للأسف أضاف إلى ذلك شيئاُ من الخارج ، شيئاُ من فقدان الذاتية ، حينما أعلن إن النوس هو العقل الموجود في زاوية ما من ماوراء الكون ، يتدخل في شؤونه ، سيما في بنائه الأولي ( الحياة في الأرض حصلت على مساعدة من الفضاء ) كيف حصلت المساعدة ولماذا حصلت ؟ لاهو يعرف الأسباب ولا نحن !!
لكنه يعتقد إن الأجسام في الكون كانت في مرحلة من الفوضى ، في حالة من التبعثر ، حالة مرتبكة قلقة ، فأضطر النوس على أثرها أن يتدخل لكي يؤسس النظام ويبعث فيه التكامل ، ذلك التكامل الذي أشرنا إليه من خلال قول أناكساغوراس ، أنا في العالم ( لأرى الشمس والقمر ولأشاهد الفضاء ) .
وهذا النظام يشير إليه أناكساغوراس بقوله ( هذا النظام كان أول خروج له – أي للكون – من الفوضى ، من خلال تأثير العقل ، أي النوس ) . لكن من المهم والضروري في هذا المجال الإشارة إلى أن النوس لدى أناكساغوراس قد تدخل في بناء الكون وشيد النظام فيه ، إلا أنه لايبقيه من الناحية الأنطولوجية ، اي لايجعله اسيراً لسطوته على طول مدى بقائه ، ولايصادر ديمومته ، فالنوس بهذا المعنى يمايز ما بين وجود الأجسام وبقاءها ، وما بين بث النظام فيها والتدخل في شؤونه في البدايات . فالنوس ليس عقلاُ محضاُ وليس عقلاً كليا ، كما توهم البعض ، إنه قبل كل شيء قوة حقيقية .
وفي الحقيقة إن العلاقة مابين النوس والأجسام والأشياء هي مصدر أشكالية كبيرة ، لذلك أبدت مجموعة من علماء السوفييت رأيهم على نحو مغاير لطرحنا السابق ، وأعتقدت هذه المجموعة إن النوس ، حسب أناكساغوراس ، قد تدخل في أمر تلك الدقائق والذرات ، ووهبها الحركة لتشكل العالم الحالي الذي نراه ( في البدء لم يكن العالم متمايزاُ ، بل مزاجاُ أولياُ ، أختلطت فيه الجواهر – البذور – اشد الإختلاط ، بحيث لايتميز فيه شيء عن آخر ، ثم جاء العقل ، الذي كان موجودا بذاته وغير مختلط بشيء ، ليلامس المزيج في أحدى نقاطه ، وينفخ فيها أمكانية الحركة الدائرية ، التي بفعلها بدأت تنفصل بعضها عن بعض ) .
إن هذه الرؤيا لبعض علماء السوفييت لاتستقيم مع مجمل تصورات أناكساغوراس ، فأولاُ : حينما تحدث أناكساغوراس عن النظام والخلاص من الفوضى ، كان يرمي إلى علاقة الأشياء فيما بينها ، علاقة الذهب مع الحديد ، علاقة الذهب والحديد مع الشمس والقمر ، لذلك أكد أنني في هذا العالم ( لأرى الشمس والقمر ، ولأشاهد السماء ) ، ولم يقصد مطلقاُ إن البذور والدقائق كانت مختلطة ، ولم يرم أبداً إلى العلاقة مابين الذرات أو جمعها !!
ثانياُ : وعندما تحدث أناكساغوراس عن الذرات والدقائق ، لم يرم إليها تحديداُ ، أنما رمى إلى إن الأجسام تتألف من وحدات صغيرة للغاية ، وقصد تحديداُ أمكانية تقسيم الجسم إلى ما لانهاية .
ثالثاُ : إن التصور السابق يؤدي إلى نتيجة متناقضة تماماُ مع أطروحات أناكساغوراس ، لأنه يؤدي إن الأجسام مؤتلفة من ذرات محددة غير قابلة للقسمة إلى ما لا نهاية ، بينما هو يؤكد إن الجسم مؤتلف من بذور تنقسم إلى ما لانهاية .
وعلى هذا الأساس يمكننا أن ننتقد مفهوم النوس لدى أناكساغوراس على النحو التالي :
أولاً : في طرحه لمحتوى ( لاشيء يخلق من العدم ولاشيء يفنى ) يقر أناكساغوراس بهذا النوع من الوجود ، لكنه يؤكد إن النوس يتدخل في شؤون الأشياء ، فيقر بوجوده بالنتيجة ، وهكذا نكون إزاء وجودين ، لا الأول يخلق الثاني ، ولا الثاني يخلق الأول ، وكلاهما أزليان .
وأناكساغوراس لم يذكر جملة واحدة عن وجود وجودين ، ناهيكم عن أنفصالهما ، لأنه يدرك تماماُ إن قوله ( لاشيء يخلق ولاشيء يفنى ) يلغي أي أمكانية عن وجود آخر مستقل ، لكنه من الناحية العكسية ، كان فريسة لفكرة إن ألأشياء والأجسام لاتكفي ذاتها بذاتها ، وهذه كانت أشكالية كبرى لدى السواد الأعظم من الفلاسفة وكذلك لدى الديانات ، من هنا أضطر أناكساغوراس ، في بحثة عن حالة من التوازن ، إلى خلق وجود أفتراضي ، وجود يقوم بوظيفة محددة ويذوي أو ينساه أناكساغوراس إلى الأبد .
لكنه لم يدرك إن أفتراض هذا النوس لايلغي قاعدة أساسية ، سيما وإن له وجود ذاتي ، وهي ضرورة البحث عن خواصه ، كما فعل أفلاطون وهيجل فيما بعد .
وفي الحقيقة لم يلحظ أناكساغوراس التناقض الحاصل في مجرد طرح فكرة وجود وجودين أزليين منفصلين ، ولم يلحظ أهماله للوجود الثاني ، لإن الوجود الأول ، حسب أناكساغوراس وحسب قوله لاشيء يخلق ولاشيء يفنى ، هو الوجود الفعلي الحقيقي ، هو الوجود الكامل ، وما النوس إلا عابر سبيل ينير الضوء ويذوي في الظلام .
ثانياً : يقول أناكساغوراس قولاُ رائعاً ( إن المظاهر هي لمحة عن الباطن ) ، وهي بالفعل كذلك ، بل أكثر من ذلك ، لكن حتى يصح هذا القول لامناص من أن تكون الأجسام وألأشياء قادرة في الأساس على التعبير عن ذولتها ليس فيما بعد تدخل النوس في شأنها إنما قبل ذلك ، كما لو إن ثمة تآلف حقيقي ما بين الباطن والمظهر وليس فقط ( إن المظاهر هي لمحة عن الباطن ) ، لكن أناكساغوراس يصادر هذا المحتوى بأعلانه إن النوس هو الذي يخرج الأشياء من حالة الفوضى !!
إن هذا التناقض مابين وظيفة النوس وفكرة ( إن المظاهر هي لمحة عن الباطن) ينبغي أن يفسر عبر أقصاء الأولى وتثبيت الثانية لإن هذه الأخيرة تنسجم تماماُ مع مضمون إن ( لاشيء يخلق من العدم ولاشيء يفنى ) .
ثالثاُ : يركز أناكساغوراس على فكرة إن للنوس وجود ذاتي أزلي ، أنه مضطر إلى ذلك نظراً لطبيعة النوس ونظرا لوظيفته ، لكن هذا الوجود الذاتي لايتمتع بأي قيمة موضوعية لنفسه لأنه خارج التجربة الحقيقية للوجود الفعلي ، لأنه تابع لهذا الأخير ولايقرر شيئاُ مستقلاُ منفصلاً لذاته .
وطالما هو لايتمتع بأي قيمة لنفسه فلايحق له أن يتمتع بأي قيمة موضوعية خارج ذاته ، أي لايمكن أن يكون له تأثير معقول على الوجود الفعلي الذي هو ( لاشيء يخلق ولاشيء يفنى ) .
رابعاُ : كيف يمكن أن نقيم تصرف النوس ؟ هل نفسره ضمن محتوى الضرورة ؟ أم ضمن محتوى الإرادة والرغبة ؟ فإذا كان ضمن الفرضية الثانية فلاقيمة لهذا التصرف لإنه كان من الممكن ألا يتصرف النوس أبداً .
أما إذا كان ضمن الفرضية الأولى فهل الضرورة هنا مرتبطة بطبيعة النوس أم بوعيه ؟ ولايمكن أن تكون مرتبطة بطبيعة النوس لأختلاف الطبيعتين في الأساس ، وإذا كانت مرتبطة بالوعي ، فإنها تخلق حالة من التناقض ، لإن وعي الضرورة يوجد في وجود ( وجود النوس ) ، وفعله يكون في وجود آخر ( لاشيء يخلق ولاشيء يفنى ) . وإلى اللقاء في الحلقة الرابعة والثلاثين .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - النوس بمعنى الروح
محمد فيصل يغان ( 2013 / 9 / 17 - 09:47 )
هل يمكن تأويل نوس انكساغوراس بالروح التي ليست لها وجود ذاتي بل تتواجد من خلال حاملها الشيء أو الكون الحي؟ و هي حين دبت في الكون الميت الخالي من عمليات الانفصال و التحول و التبدل و التفاعل تجسدت من خلال كونها بالضبط هذه العمليات فكان الوجود وجودا واحدا؟

اخر الافلام

.. إسرائيل تخرج من قائمة أكثر 10 دول تفضيلاً لأصحاب الملايين |


.. قتلى فلسطينيون جراء قصف إسرائيلي على الطريق التجاري في رفح




.. كأس أمم أوروبا: فرنسا تفوز على النمسا بصعوبة وتخسر خدمات مبا


.. هوكستين يشدد على ضرورة إنهاء النزاع بين حزب الله وإسرائيل بط




.. ما الرسائل العسكرية من مشاهد حزب الله لمواقع عسكرية وبنى تحت