الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حوار أملاه الحاضر 18 عدالة الإسلام 2 العبودية

عبد المجيد حمدان

2013 / 9 / 25
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني



قلت لمحاوري : أظنك تعرف أن العبودية هي الظلم الأقسى ، الأعمق ، والجور الأشد ضراوة وعنفا ووحشية ، الذي تعرض له بنو البشر . قال : ذلك صحيح . قلت : فكيف تفسر إذن أن الديانات السماوية الثلاث ، وهي رسالات العدل والعدالة كما يردد أتباعها ، لم ترفض هذا الظلم فقط ، لم تواجه هذا الظلم فقط ، لم تعترض هذا الجور فقط ، وإنما قبلته وشرعته ، وعبأت أتباعها على الإيمان بأنه ضرورة ، وأنه نظام مجمتعي ثابت وغير قابل للتغيير ، ومن ثم فهو أبدي وسرمدي أيضا ؟ قال : هذا هو اللغو بعينه ، ولا أقول التخريف بعينه . هو افتئات على الدين ، وهو تجني وظلم بين ، غير موضوعي ومجافي للحقيقة . فالدين الإسلامي ، واعذرني لأني أعرف القليل جدا عن اليهودية والمسيحية ، ليس فقط لم يأت بالعبودية ، ولم يدعو لها ، وهو وقد وجدها قائمة ، فإنه ليس فقط لم يشرع لها ، وإنما وضع نظاما متدرجا للخلاص منها . ولو تم اتباع وتطبيق النظام الذي وضعه الإسلام ، لكانت البشرية قد تحررت من هذا الظلم الوحشي ، وغير الإنساني ، ومنذ زمن طويل . ومضى يسرد الآيات والأحاديث ، وابتسامتي تتسع ، وعلامات غيظه ، من ابتسامتي تزداد .
البدايات :

ولما انتهى من السرد قلت : ما رأيك في أن نعود إلى البدايات ؟ قال : وأي بدايات تقصد ؟ قلت : أظنك ما زلت تتذكر حديثنا في حلقة حد الخمر عن نوح . ونوح ، ليس مجرد نبي ورسول كما نعرف جميعا . هو أبو البشرية الثاني . ليس لأنه أنقذ الجنس البشري ، المنحدر من أبيه آدم ، من الانقراض بسبب الطوفان ، بل لأن من نسله عاد البشر الحاليون . نوح كما تذكر شرب الخمر وسكر ، ودخل ابنه الصغير عليه خباءه فرأى انكشاف عورته . أبناؤه سام ويافث عرفوا كيف يتصرفون ، وداروا سوأة أبيهم . ولما أفاق ، وقصوا عليه ما حدث . غضب ولعن كنعان ، ابن حام ، وحكم عليه ونسله بالعبودية ، لأبناء يافث وسام . " ملعون كنعان ، عبيد العبيد يكون لأخوته " . كانت هذه هي اللعنة وكان هذا هو الحكم . ولم يكن هذا بالأمر العابر . أقره الرب ، ما دام نزل على لسانه وفي كتاب مقدس . وأيضا هو حكم بعبودية ثلث البشرية آنذاك ، لثلثيها الأخريين ، بسبب خطأ ، أو خطيئة ، هناك جدل حول المسؤولية عنها . ما يعنينا هنا أن الحكم ، ومن الرب ، بعبودية بشر لبشر ، بدا وكأنه واكب نشأة البشرية . والأهم أنه ، بحكم الرب أيضا ، سيواكبها حتى يوم فنائها . قال : دعني من هذا فأنا لا أعرف شيئا عن التوراة ، ولا أرغب في جدال حولها . قلت : لننتقل إذن لخروج بني إسرائيل من مصر . قال : وماذا عن هذه ؟ قلت : تعرف أن يعقوب وأبناءه لحقوا بيوسف في مصر بعد قحط أصاب فلسطين . و تقول التوراة أن نسلهم وقع في عبودية المصريين . واستمر هذا الحال قرابة خمسة قرون ، إلى أن كان موسى . فجأة تذكرهم إلههم . نظر مذلتهم ، سمع صراخهم من ظلم مسخريهم ، وقرر إنقاذهم بإخراجهم من مصر ، وإصعادهم إلى فلسطين ، أرض ميعادهم التي تفيض لبنا وعسلا . إذن ، والكلام حسب التوراة وسفر خروج ، قرر الإله إنقاذ شعب من العبودية . لكنه ،وفي ذات الوقت ، قرر استعبادهم لشعب آخر ، هم الكنعانيون ، أجدادنا نحن أهل فلسطين . ولأنني رأيته متحفزا للكلام ، ذكرته باتفاقنا بأن يكون هذا الموضوع ، موضوع حوارنا ، في حلقة قادمة ، وواصلت : إنقاذ بني إسرائيل من العبودية ، رافقته تعليمات واضحة وقاطعة ، وأوامر صارمة و حاسمة ، ليس فقط بالاستيلاء على أرض الكنعانيين ، وطردهم منها ، بل وبإبادتهم ، كلما استطاع بنو إسرائيل إلى ذلك سبيلا . وأما الناجون من أهل البلاد فقد حكم عليهم إله إسرائيل بالعبودية أيامهم كلها . حطابين وسقائي ماء وعبيدا لبيت الرب ، حسبما ورد في التوراة . نخرج من هذا إلى أن فرض العبودية على بني البشر ، هذا الظلم الوحشي ، الذي لا تدانيه في قساوته وجوره أية وحشية ، صدر عن إله . ولأنكم لا تعترفون بأن إله إسرائيل ذاك ، لم يكن هو الله ، إله البشر كلهم ، بل تؤكدون بأنه هو الله ، يكون الله هو من فرض العبودية على شعب بأكمله . لماذا ؟ حتى يتسنى لشعب اختاره أن يستولي على أرضه ، وأن يطرده منها . وبهذا المعنى كانت عبودية البشر للبشر فريضة وحكما من الله تعالى . قال : أرفض كل ما تقول ، لأنني في الأصل لا أعترف بأي من التوراة أو إله بني إسرائيل ، الذي ليس هو الله الواحد الأحد ، الذي خلق العدل وشرعه لسائر بني البشر أجمعين .

سبارتكوس وثورته :

قلت : لننتقل إلى المسيحية إذن . قال : ولك هذه ، ولو أنك تعرف ضعف معلوماتي في هذا المجال . قلت : أظنك مع ذلك تعرف ، من مقررات التاريخ في المدرسة ، أن الامبراطورية الرومانية التي حكمت شعوب وأمم حوض البحر المتوسط ، ونصف أوروبا ، عرفت وعايشت أقسى عهود العبودية في التاريخ كله . وفي عهدها ، كما في أجزاء عديدة من العالم ، الصين مثلا ، قام العبيد ، وهم من مختلف الأجناس والألوان ، بثورات عدة ، سعيا لخلع نير العبودية عن كواهلهم . وفي روما ، وفضلا عن تسخير العبيد في أقسى الأعمال ، المناجم مثلا ، ابتكر الحكام نوعا من استغلال العبيد بغرض الترفيه والترويح عنهم وعن الناس . ظهر متعهدون يدربون هؤلاء العبيد على القتال – عرف هؤلاء العبيد بالمصارعين وبالمجالدين - ، وليستعرضوا بعد ذلك مهاراتهم أمام نظارة مسرح – شبيه بالمدرج الروماني في عمان - ، ولينتهي الاستعراض بقتل الفائز للمهزوم ، وصراخ النظارة لمرأى الدم .

وتابعت القول : كان سبارتاكوس أحد هؤلاء العبيد المصارعين . وكان قدره أن يقود ثورة زملائه ، أملا في الخلاص من هذا الظلم . وانضم لثورته سائر العبيد في إيطاليا كلها . وتركز أملهم في الخروج من إيطاليا والانتقال إلى أحد ولاياتها الإفريقية ، فنيل الحرية . والملفت للنظر أن مسعى سبارتاكوس هذا ، جاء تكرارا لمسعى بني إسرائيل في الانعتاق من ربقة عبوديتهم للمصريين ، وبدون معرفة من سبارتاكوس بسبق هذا المسعى ربما . المهم أن الامبراطور الروماني أفشل خطة سبارتاكوس ، وواجهه في معركة حاسمة ، قتل فيها آلاف العبيد ، وتم أسر سبارتكوس وآلاف أخرين ، تم رفعهم على الصليب . أقام الامبراطور آلاف الصلبان على جانبي شارع يشكل أحد مداخل روما ، وعلى امتداد عدة كيلومترات ، ورفع هؤلاء العبيد الأسرى على الصلبان ، ليموتوا عليها جوعا وعطشا ، وبعد عذاب جسدي وروحي ممتد وشديد الفظاعة ، ولتنهش لحومهم الطيور الجارحة بعد ذلك ، وقبل ذلك .

قال : في الحقيقة سمعت شيئا من هذا ، ولكن ليس بهذا التفصيل . قلت : هذا إيجاز ، شديد في إيجازه . وربما جاء سماعك بها من واقع أن السينما تناولت هذه الثورة من زوايا مختلفة ، وفي أفلام عدة . وأضفت : وتظل الحقيقة الأهم في هذه الواقعة ، من وجهة نظري ، أن هذه الثورة حدثت قبل أقل من قرن على قدوم المسيحية . ورغم أن الامبراطورية الرومانية ، ونتيجة لهزيمة ثورة سبارتاكوس ربما ، شددت من إجراءات ظلم العبيد ، إلا أن المسيح ، فيما يبدو ، لم يسمع صراخهم ، ولم يستجب لنداء خلاصهم . المسيحية أبقت على هذا الظلم ، ربما لأنها ظنت بأن نظام العبودية هذا ، هو النظام الأفضل للبشرية ، وأنه رافقها من الأزل ، وسيظل قائما بلا تغيير إلى الأبد . ولأن محاوري اكتفى بهزات من رأسه ، تراوح بين الرفض وعدم الفهم ، تابعت قائلا : والمثير للدهشة أن أتباع المسيحية ، ومنذ القرن السادس عشر ، قرن الاكتشافات الجغرافية ، شنوا أعنف حملات الاستعباد ، وأكثرها ضراوة ووحشية على مر التاريخ . أقصد رحلات صيد المساكين الأفارقة ، وشحنهم في عنابر السفن ، وبيع من يصل منهم حيا في الأسواق الأمريكية ، ولتبدأ مرحلة ، هي الأقسى والأكثر وحشية في التاريخ الإنساني كله . وجاءت مرافقة القساوسة لهذه الحملات ، وبينها الاستعمارية ، بدعوى هداية هؤلاء المساكين إلى دين الرحمة والعدل ، لتلفت انتباه أي مهتم بموضوعات الرحمة والعدالة . وأضفت : وأظنك تعرف أن العبودية في أمريكا كانت قاسية بصورة تفوق أي وصف ، وأن العبيد عملوا في حقول القطن بالأساس ، وأن الرئيس الأمريكي أبراهام لينكولن ، حين حاول تخليص أمريكا ، الدولة الفتية الصاعدة ، والمنارة الجاذبة لذوي الطموحات في العالم ، حين حاول تخليصها من هذا العار ، قامت الحرب الأهلية الأمريكية ، إحدى أكثر الحروب الأهلية ضراوة في التاريخ المعاصر ، وربما من أكثرها تكلفة بشرية واقتصادية . انتصر لينكولن وصدر قانون إلغاء العبودية ، والذي كلفه حياته ، ليطبق لا على أمريكا وحدها ، ولكن على العالم أجمع . لكن عهد العبودية لم ينته بصدور هذا القانون ، بل استمر أمريكيون ، منظمة الكلوكس كلان مثلا ، وبمؤازرة قسس وكنائس ، في مقاومته ، وحتى ستينيات القرن الماضي ، وظهور حركة مارتن لوثر كنج ،المقاومة للتمييز العنصري ، ولاستكمال تحرير العبيد ، وإلى ما بعد اغتياله .

الإسلام والعبودية :

بادر محاوري بالقول : ولكن الإسلام بريء من كل ذلك . لم يدع لها ، ولم يوجدها ، كما لم يحبذها . قلت : هذا صحيح . جاء الإسلام فوجد العبودية نظاما قائما ، تماما كما حدث مع اليهودية والمسيحية . ومثلهما لم يدنها ، ولم يستنكرها ، كما لم يرفضها . قال : ولكنه حض على تحرير العبيد ، ووضع من التشريعات ما يضمن ، لو التزم المسلمون بتطبيقها ، الخلاص من هذا العار ، حسب وصفك ، وبصورة تدريجية ، لا تلحق أضرارا بالمجتمع وقدراته الانتاجية الاقتصادية . قلت : وهل تعتقد يا عزيزي أن الديانتين اللتين سبقتا الإسلام – اليهودية والمسيحية – خلتا من حض المؤمنين ، من أتباعها ، على كسب رضى الرب بتحرير عبيدهم ؟ والأهم من ذلك هل كان مجتمع الحجاز ما قبل الإسلام كارها ، وبالتالي غير مطبق ، أو متبع ، للتعليمات التي أتى بها الإسلام ، في مسألة التحرير التي تشير إليها ؟ وهل تعتقد فعلا وحقيقة أن تلك التعليمات ، أو التشريعات ، كان الالتزام بتطبيقها سينقذ البشرية بالفعل من عار هذه الجريمة المروعة ؟ قال : أكيد كان سيحدث ذلك لو تم تطبيق الشرع تطبيقا صحيحا ؟ قلت منحيا أية علائم لدهشة تعتريني : هل أنت واع لما تقول ؟ قال : بالطبع أنا أعي ما أقول ، ومصر عليه . قلت : أنت لا شك قرأت السيرة النبوية ، وقرأت أيضا تاريخ الهجرة ، أو ما يعرف بالعهد النبوي في حكم المدينة والدولة الحديثة . كما ولا بد أنك قرأت تاريخ الخلافة الراشدية . قال : نعم قرأتها فماذا تعني ؟ قلت : إذن أنت تعرف أنه ورغم تطبيق النبي للشريعة فقد ازداد عدد العبيد ، ومن الجنسين ، زيادة كبيرة ، ولدرجة أنه لم يعد بيت من بيوت المسلمين يخلو من هؤلاء العبيد . وفي العهد الراشدي تضاعف هذا الحال مرات ومرات . وغير ذلك توفي النبي ولديه عبيد من الجنسين . وكذلك كان الحال مع الخلفاء الراشدين ، وحيث كان عبيد عثمان بالعشرات . وفيما بعد وصل عبيد من بقي من المبشرين بالجنة إلى المئات . فكيف نفهم ما تقوله عن التطبيق الصحيح للشريعة ؟ قال : المسألة هنا أن ظرفا خاصا حكم المسلمين ، وأعني به تواصل الغزوات والحروب ، وما ينتج عنها من أسر وسبي ، وبالتالي هذه الزيادة ، التي لا يحد منها تطبيق التشريعات الخاصة بتحرير العبيد . قلت : ولكن الحروب ، وتدفق السبي والأسرى ، تواصل على مدى التاريخ الإسلامي كله ، وكان ذلك التضخم في طبقة العبيد ، ومن ثم نقض صحة الزعم بأن الإسلام بتشريعاته كان السباق لتحرير البشرية من هذا الظلم المريع .

فك رقبة :

ولأن محاوري سكت مفكرا أضفت قائلا : تعال هنا ، ألم تكن التشريعات الإسلامية ، بتحرير العبيد ، أعرافا وتقاليد لأهل الحجاز قبل ذلك ؟ قال : هذا غير صحيح . قلت : إذن تعال نحتكم إلى الآيات . ولنبدأ من سورة البلد ، وهي مكية كما تعلم . قال : لك ذلك . قلت : جاء في السورة ، وآياتها جميعا تخاطب المرء مذكرة إياه بقدرة الله ، التالي : { وما أدراك ما العقبة * فك رقبة } . ولأن فك رقبة تعني إعتاق العبيد ، فمعنى الآية أن القرآن خاطب أهل مكة بما يعرفونه ويعتادونه . وصيغة الآية بعيدة عن المطالبة بالإعتاق ، من أناس هم أصلا لا يؤمنون لا بالرسالة ولا بالقرآن . قال : هذا غير صحيح لأن الآية تحض المؤمنين على الإعتاق ، وتشرح لهم مكارم ونبل هذا العمل . قلت : سأسايرك ، ولكن أعود للتأكيد بأن ذلك فعل – الإعتاق - كان أهل مكة ، وغيرهم من أهل الحجاز ، يعرفونه لأنهم يمارسونه ، في النذور مثلا ، ولدي أكثر من دليل . قال ساخرا : أتحفنا بأدلتك يا رعاك الله . قلت : حين أخذ كبراء مكة في تعذيب عبيدهم لردهم عن الدين الجديد ، ورأى المسلمون الذين كانوا قلة وقتها ، ما وقع لبلال ولآل ياسر من بلاء ، بادر أبو بكر لشراء بلال من مالكه أمية بن خلف ، أحد عتاة كفار مكة ، وأعتقه . ثم كررالأمر مع زملاء آخرين في الدين ، ليبلغ من اشتراهم وأعتقهم سبعا ، خمس نساء ورجلين . هنا يلاحظ المدقق أن المكيين لم يمانعوا في بيع عبيدهم ، رغم معرفتهم بغرض الشاري . كما لم يمانعوا في إعتاقهم . ويلفت النظر هنا أن أحدا لم يعارض ، ولا حتى عاتب ، أبا بكر على أفعاله هذه . أبوه فقط هو من لامه ، ومن زاوية أنه يهدر ماله فيما لا نفع فيه . والآن ألا يدل ذلك ، في رأيك ، على أن أبا بكر في فعله هذا ، لم يأت بما يخالف أعراف الناس ؟ ألم يدر بخلدك أن فعلا مستحدثا كهذا ، كان يمكن أن يحدث هزة اجتماعية ، لو كان مخالفا لأعرافهم ، ومن ثم كان عليهم أن يعارضوه ، وبكل قوة ؟ سكت مفكرا ثم قال : ربما كان الأمر كذلك . قلت : وحادثة أخرى : تعرف أن أبا لهب ، وهو عم الرسول ، كان من أشد الناس عداوة للدعوة . وأبو لهب كان يملك عبدة اسمها ثويبة ، وهي للمصادفة أول مرضعة للنبي . خديجة ، زوجة النبي ، وإكراما لزوجها ، وقبل النبوة ، حاولت شراء ثويبة وإعتاقها . ورفض أبو لهب . ولكن وبعد هجرة النبي ، وانتهاء الاحتكاك المباشر مع النبي ، قام أبو لهب بإعتاق ثويبة . والتراث يورد لنا الكثير من الأمثلة على نذور بإعتاق عبيد . فعلى ماذا يدلل ذلك في رأيك ؟ قال : أعترف لك أنك أفحمتني ، فماذا بعد ذلك ؟

تحرير رقبة مؤمنة :

قلت : في المدينة نزلت الآيات الحاضة على تحرير العبيد ، وبتأكيد أحيانا على أن تكون الرقبة المحررة رقبة مؤمنة . وأيضا على حق المكاتبين من العبيد في حصة تساعدهم من أموال الصدقات . قال : نعم ذلك صحيح . قلت : ويلاحظ في هذه الآيات أن الآية 3 من سورة المجادلة ، والآية 89 من سورة المائدة ، ذكرت تحرير رقبة دون إشارة لصفة مؤمنة أو غير مؤمنة ، بينما في الآية 92 من سورة النساء ورد توصيف الرقبة بالمؤمنة وثلاث مرات متتاليات . وفي المرات الخمس جاء أمر تحرير الرقبة كفارة عن ذنب ، أو خطأ ارتكبه المؤمن . ولكي نفهم الفرق نعود إلى الآيات ، فنوع الخطأ ، والعقوبة . الآية 3 من سورة المجادلة أشارت إلى وجوب كفارة الظهار . والظهار هو أن الرجل كان يقول لزوجته " أنت علي كظهر أمي " . فتبقى عنده معلقة ، لا هي مطلقة ولا هي زوجة . والآية فرضت كفارة تحرير الرقبة قبل العودة لعلاقات الزوجية . وأضفت : أنت تعرف أن الشرع حرم الظهار ، ولم يعد موجودا ، وبالتالي انتفى باب تحرير العبيد هنا . أما الآية 89 من سورة المائدة فتشرع كفارة اللغو في الأيمان ، وحيث تحرير الرقبة واحد من بين عدة خيارات ، من بينها إطعام عشرة مساكين ، من نفس طعام الأسرة ، أو كسوتهم ، أو صيام ثلاثة أيام . وقلت : وأظنك تعرف أن الحل الأخير – الصيام – هو الحل الأقرب للقبول . ونأتي إلى الآية 92 من سورة النساء ، والتي تشترط صفة الإيمان – الإسلام – للرقبة المنوي تحريرها . وهي كفارة للقتل الخطأ ، وحين يكون المقتول مؤمنا ، ومن نفس الجماعة ، أو مؤمنا ومن جماعة معادية ، أومؤمنا ومن جماعة بينها وبين جماعة القاتل ميثاق معاهدة . قال : نعم هذا صحيح . وهناك مسألة الإيمان والرغبة في التقرب إلى الله ، والنذور ...الخ ، فضلا عن المكاتبة ، وحصة المكاتب من بيت مال المسلمين ، تعينه على بلوغ غايته في تحرير نفسه . وهي كما ترى أبواب واسعة للتخلص من العبودية ، والأهم أنها تدريجية وسلسة ، لا تحدث هزات اجتماعية ، ولا تلحق ضررا بالعملية الانتاجية الاقتصادية ، التي كان العبيد يقومون بالعبء الأكبر منها . قلت : ولكن ، وكما ترى فالتحرير هنا فعل فردي ، ومرتهن بالخطأ الإنساني ، ومن ثم توقيع عقوبة الكفارة . وبالتالي ولو افترضنا دقة التقيد بتنفيذه فإنه لا يوصل إلى التخلض من جرم وظلم وعار العبودية . ولتوضيح فكرتي أشير إلى واحد من عوامل زيادة العبودية ، وأعني الزيادة الطبيعية للعبيد ، وأقصد مواليدهم الذين يتحولون إلى عبيد مع أول صيحة لهم في الدنيا ، تلك التي تعقب خروجهم من بطون أمهاتهم . وأسأل : ألا تظل هذه الزيادة الطبيعية أكبر عدديا من أولئك الذين تحررهم الكفارات ؟. قال : يحتمل أن تكون كذلك . قلت : وأيضا أنت تعرف أن فعل الاستعباد فعل جمعي ، بمعنى أن أسرى معركة واحدة ظلوا يتعدون الآلاف . وإذا أضفنا لهم موارد العبودية الأخرى ، ومنها استيرادهم من أسواق العبودية المختلفة ، يتضح لنا تماما ، أن مسألة تصاعد حدة عار العبودية في الإسلام ، ليس مرده عدم الالتزام بتطبيق الشرع كما تقول ، ويقول غيرك .

المكاتبة :

قال : وماذا عن باب المكاتبة الواسع الذي تتعمد إهماله ؟ المكاتبة ، بمعنى توقيع عقد بين المالك والعبد ، يتعهد العبد فيه بدفع مبلغ متفق عليه ، وبعد أجل محدد ، للمالك ، فيحصل بذلك على حريته . قلت :المكاتبة وردت ضمن الآية 33 من سورة النور ونصها التالي :{ والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا ...} . وأضفت : أنت تعلم أن خلافا وقع بين العلماء يتعلق بإلزامية المكاتبة من عدمها . وتعرف أن المشرعين انقسموا بين قائل بإلزامية المكاتبة ، في حال طلب العبد ذلك ، وآخرون قالوا بعدم إلزاميتها ، أي باختياريتها . وهذا اللبس استند إلى نص الجزء الأخير من الآية { إن علمتم فيهم خيرا }، الذي ترك الحكم للمالك على مقدرة العبد على الوفاء بالعقد من عدمه . أما الأولون فاستندوا إلى فعل الأمر { فكاتبوهم } للاستلال على الإلزامية ، فيما استند الآخرون إلى منح المالك حق اشتراط علم ، معرفة الخير في طالب المكاتبة . وقطعا للطريق على محاولة اعتراضه أضفت : لنسلم بالزامية المكاتبة وأنها فريضة ، ولنستطلع أثرها على عملية تخليص البشرية من لعنة وعار وظلم العبودية . أولا وكي نساعد القارئ على المتابعة ، دعنا نوضح له بنود هذه العملية وفي نقاط : 1 ) يطلب العبد المكاتبة ، ويوافق المالك 2) تعقب الموافقة مفاوضات على المبلغ الواجب دفعه ، وفي العادة يحدده المالك ، مع بعض التراجعات هنا وهناك . 3 ) يتم الاتفاق على المدة اللازمة لتوريد وإكمال المبلغ المتفق عليه .4) يخرج المكاتب إلى العمل الحر ويبدأ في توريد ما يتوفر لديه ، أسبوعا بعد اسبوع ، أوشهرا بعد شهر ، حسبما ينص عليه الاتفاق . 5 ) إذا نجح العبد في تسديد كامل المبلغ المتفق عليه حصل على حريته ، وفي حال انتهاء مدة العقد قبل استكمال المبلغ المتفق عليه ، ينفسخ العقد ، ويؤول كل ما توفر من مال العبد لمالكه ، وحيث تفشل مهمة التحرير .
قال : ذلك صحيح وفي الغالب ينجح العبد في الحصول على حريته . وهي ، كما ترى ، ولو تمت حسبما سنها الشرع ، آلية ناجعة وفعالة لتخليص البشرية من عار وظلم العبودية . وهي تبين كيف أن الإسلام كان السباق لمعالجة هذا الظلم التاريخي ، وتخليص البشرية من توابعه . قلت : ولكن نظرة مدققة ، في واقع العبودية ، تبين أن هذه الآلية ، كما آلية الكفارات ، محدودة الفعالية ، وحتى غير فاعلة . زمجر معترضا : كيف ؟ قلت : أولا لا ينصاع المالك في العادة لطلب العبد في المكاتبة . ولعلك تذكر موقف أنس ، أحد أقرب المقربين للنبي ، وخادمه الذي ظل يرافقه كظله ، من طلب سيرين ، والد ابن سيرين ، مفسر الأحلام المشهور من طلب المكاتبة . قال : نعم أذكر ذلك . قلت : أنس رفض الاستجابة لطلب سيرين ، كما رفض الاستماع للوساطات التي لجأ إليها سيرين . واضطر سيرين إلى اللجوء لطلب مساعدة أمير المؤمنين ، عمربن الخطاب الذي استهول موقف أنس واستنكره . ووحاول عمر ، وفي البداية رفض أنس الاستجابة ، ليفرضها عليه عمر فرضا . قال : نعم ذلك صحيح . ويمكن أخذ موقف أنس كمؤشر على أن كثيرين كانوا يرفضون الاستجابة لطلبات عبيدهم في المكاتبة . ومع ذلك ظل هذا الباب بابا هاما لكسب الحرية . قلت : وثانيا كان العبيد يشكلون مجموعات بشرية كاملة . بمعنى أن فيهم أصحاب أسر ، ومن لا أسر لهم . وفيهم الأطفال والفتيان ، وفيهم الشيوخ المسنون . وفيهم الأصحاء وغير الأصحاء . الأقوياء والضعفاء . المهنيون وغير المهنيين . وفيهم الذكور وفيهم الإناث . ومن الإناث من تصلح لمنح المتعة ، ومنهن من تنحصر فائدتها في الخدمة . والمكاتبة لا تنطبق إلا على الذكور الأصحاء والمهنيين منهم بالأساس ، أي من يضمن أن يجد عملا مستمرا ، وبأجر يزيد عن متطلبات عيش يوفر له القدرة على الاستمرارية . وكانت المكاتبة بدون أي نفع لكل جنس النساء ، وحيث لا تنفعهن الحرية ذاتها ، في بلد ليس لهن فيه أهل أو حتى معارف . فما الذي ستفعله صبية من الري – طهران – مثلا بالحرية في دمشق ، أو في المدينة ؟ أو من طنجة في بغداد ؟ فعلى الأقل يوفر لها تمتع المالك بجسدها مأوى ومأكلا وملبسا ، فيما تلقي الحرية بها إلى الشارع ، وتحرمها حتى من سقف يظللها . وأضفت : وأظنك تعرف أن المكاتبة تستثنى منها الأسر ، والأطفال والمسنون ، والمرضى ...الخ . ولأن محاوري صمت كمن أصابته الصدمة ، مضيت قائلا : وكل ما سبق يفسر لنا ما جرى على أرض الواقع . فرغم حداثة عهد الإسلام ، وقوة الإيمان ما زالت تعمر النفوس ، والرغبة في التقرب من الله بالإعتاق غامرة ، شهدت المدينة تدفقات للعبيد كبيرة . وقرب نهاية العهد الراشدي ، تفوقت أعداد العبيد على أعداد أهل المدينة الأصليين . والأمر ذاته حصل في كل الحواضر . وكان مشهدا عاديا أن يحوي البيت الواحد عددا من العبيد ، ومن الجنسين ، يفوق عدد أفراد الأسرة بكثير . وأيضا يفسر الأرقام غير القابلة للتصديق عن أعداد ملك اليمن ، من النساء ، لدى كبار الصحابة ، وحيث تقول كتب التراث أن بعضهم ، مثل عبد الرحمن بن عوف ، ملك ألف أمة ، من مختلف الجنسيات ، ومن ذوات البشرات السمراء ، والشقراء والسوداء ....الخ . وقاربه الزبير وطلحة وغيرهم . وحتى أن علي بن أبي طالب ، وهو المؤمن الزاهد ترك أربع عشرة أمة ، أوصى أولاده برعايتهن . وقبل لفظ عثمان للروح أوصى بإعتاق 29 عبدا من عبيده ، امتشقوا السلاح للدفاع عنه .

عمر والعبودية :

قال : بكل تأكيد لا أوافقك في أي شيء مما أسلفت . وأكثر من ذلك ، ورغم اعترافي بقوة منطقك ، إلا أن كل ما قدمته تأويل أرفضه جملة وتفصيلا . يا أخي لماذا تنكر علينا سبقنا للعالم كله في موضوع تخليص البشرية من لعنة العبودية ؟ ألم تصلك صرخة خليفة المسلمين ، عمر بن الخطاب ، في وجه والي مصر عمرو بن العاص وابنه : " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا " ؟ قلت : بلى وصلتني . ولكن كتابنا المحدثون ، الذين يستشهدون بها ، ينطبق عليهم القول " يحرفون الكلم عن مواضعه " . فهم وهم يشعرون بالضعة أمام الغرب ، وهم يعانون من عقد النقص ، من الشعور بالدونية ، أخذوا في اختراع وتلفيق انجازات ، بكل أسف لم تحدث مطلقا . كما أنطقوا عبارات ومواقف ، بإخراجها من سياقها ، بما لم تنطق . وتعال نستقرئ ذلك الحدث معا . الحدث تمثل في وقوع خلاف بين شابين ، مصري وابن الوالي ، على فرس فازت في السباق . ابن الوالي ضرب الشاب المصري بالسوط . هذه حادثة لا علاقة للعبودية بها . هي تقع في خانة الاستقواء بالموقع ، بالمركز ، بنفوذ الأب . والد الشاب المصري سار من الاسكندرية إلى المدينة ليشكو تجاوز ابن الوالي والاعتداء على ولده . هذا أمر لا يفعله إلا شخص صاحب مكانة مرموقة . والخليفة ، وهو يستدعي الوالي من مصر إلى المدينة ، يفعل ذلك لأنه يعرف عواقب مثل هذا الاستقواء بالمكانة وبالنفوذ ، كمقدمة لظهور وتعمق ونمو الفساد السياسي . وبعد هذا وذاك لم يكن أطراف الحدث مشتبكين في حرب ، الوضع المؤهل قانونا لحدوث الاستعباد . وإذن فإن عبارة عمر " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا " ، عنت تجاوز الوالي لصلاحيات موقعه والتعدي على خلق الله ، ولم تعن أبدا أي معنى من معاني العبودية ، والتي كانت غير واردة كلية في هذه الحادثة . قال : لا أدري ما أقول . يا أخي من أين تأتي بتأويلاتك هذه التي تتنافى مع كل ما اعتدناه ، وبنينا إيماننا عليه ؟ قلت : هو استخدام العقل ، هذه الهبة الثمينة التي وُهبناها ، ويصر البعض على إهمالها ، في استقراء وتحليل الرواية التي تصلنا عن الحدث ، أيا كان هذا الحدث . فالتصديق والإيمان واستبعاد تفعيل العقل ، هي آفات حياتنا كلها يا صديقي .

إكرام العبيد :

قال : وماذا عن حض المؤمنين عن إكرام العبيد ومعاملتهم المعاملة الحسنة ؟ فأظنك تعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى المسلمين بعبيدهم . أوصاهم بعدم إيذائهم سواء باليد أو باللسان . أوصاهم بحفظ كرامتهم ، وبإطعامهم من طعامهم ، وإلباسهم من لباسهم . قلت : ذلك صحيح . لكن ظل بين مالكي العبيد من هو صالح ، فيأخذ بوصية النبي ، كما فعل أبو ذر الغفاري ، ومن هو طالح وفاجر ، يقسو عليهم ، يعاملهم كالحيوان ، يدمر آدميتهم ، ويذبح إنسانيتهم ، ومن هو بين بين . ومع ذلك فإن المعاملة الحسنة قد تخفف من قسوة العبودية ، ولكنها لا تلغيها . وأكثر فإن التشريع قنن العبودية بكل وحشيتها . قاطعني صارخا : هذا تجني على الشرع . وما تقوله عاري تماما عن الصحة . قلت مهدئا : عندك حق . لكن تعال نستحضر بعض التشريعات لنقطع الشك باليقين . ففضلا عن أن العبودية تصادر اسم العبد أول ما تصادر . تحرمه من مجرد ذكر نسبه ، وتنسبه إلى مالكه ، فقد قرر الشرع اعتباره مجرد متاع ، عقار ، بضاعة ، مال . قال : هذا غير صحيح . من أتيت بكل هذا الافتراء ؟ قلت : لنفتح موطأ مالك ، وهو كتاب فقه قبل أن يكون كتاب حديث ، وأي كتاب فقه من مقررات التدريس في كليات الشريعة ونقرأ . سنجد في قوانين الأسرة مثلا ، ومقارنة بحقوق الأحرار ، أن الشرع حدد للعبد الجمع بين امرأتين ، وهن أربع للحر . الطلاق البائن للعبد طلقتان ، وللحر ثلاث . عدة الحرة أربعة أشهر وعشرة أيام ، وعدة الأمة نصفها ، شهران وخمسة أيام . وعدة طلاق الأمة شهر ونصف ، وهي ضعفها للحرة . وحد العبد والأمة في الزنا ، خمسون جلدة وهي الرجم للثيب الحر ، ومائة جلدة وتغريب سنة للبكر . والقتل حد الزنا مع الحرة . وحدهما في قذف المحصنات أربعون جلدة وهي الضعف للحر . وليس على قذف الأمة حد . والعبد إن طلق امرأته لا يجوز له إرجاعها إلا بعد أن يطأها رجل غيره . قلت : هل أمضي في السرد ؟ قال : لا هذا يكفي وهو صحيح لا أنكره . قلت : وتعال إلى الفروض . فأنت تعرف أن العبد لا يشارك الحر إلا في فروض الشهادتين ، الصلاة والصوم . فليس على العبد زكاة لأنه لا يملك أي مال . كما ليس عليه حج ، لأنه لا يستطيع إليه سبيلا . وهو إن رافق مالكه إلى الحج ، لايعتبر حجه أداء للفريضة . إذ يتوجب عليه بعد إعتاقه أداءها . وليس على العبد جهاد ، وإن شارك فيه فليس له نصيب من الغنيمة . قال : كل ذلك صحيح فإلام ترمي من سردك هذا ؟ قلت : في أمريكا العبودية كان المالك يعاقب العبد الذي يحاول الهروب بأشد ألوان التعذيب . ويعقب ذلك كله بقطع مشط قدمه ، ليحرمه من إمكانية محاولة الهروب مجددا . أما الشرع الإسلامي فقرن الإخلاص للمالك بالإيمان . ووصم محاولة الهروب بالكفر ، ووصف العبد الهارب بالعبد الآبق ، ووضع على عاتق الدولة مسؤولية إعادته من أقصى مكان في الأرض إلى مالكه . قال : وماذا أيضا ؟ قلت : أنت تعرف نص الآية :{ ولا تزر وازرة وزر أخرى } ، كما وتعلم ، ولا شك ، الحكمة منها . قال : ذلك أكيد . وماذا بعد ؟ قلت : ولكن هذه الآية استثنت العبيد من حكمها . صرخ قائلا : ما هذا الافتراء ؟ كيف يهيؤ لك عقلك أن تقول ما قلت ؟ . قلت : حنانيك ياصديقي . فأنت تعرف أن العبودية تسري من الآباء إلى الأبناء والأحفاد ، وإلى ما شاء الله . ابن العبد يولد عبدا . فما الوزر الذي ارتكبه طفل العبد حتى يولد عبدا ؟ وأنت تعرف أن الوالد العبد لا ولاية له على أولاده . هو مثلا لا يزوج ابنته . يزوجها المالك . والولد الذي هو ملك لمالك الأب ، يمكن تفريقه عن أسرته ، بالبيع متى شاء المالك . وأكثر ليس للزوج العبد ولاية على زوجته . والمالك يملك تفريقهما ، وتشتيت الأسرة ، بالبيع ، عند أول خاطر يعن له . وكله تطبيقا للشرع . والقائمة تطول وتطول يا صديقي . قال : وهل تريدني أن أصدق وأن أتقبل كل هذا النسف لعدالة الإسلام ؟

الفرص الضائعة :

قلت : أليس الأجدر بعلماء المسلمين ، خصوصا كتابهم المحدثون ، التخلص من عقدة النقص تجاه الآخرين ، والغرب على وجه الخصوص، والتعامل مع حقائق الشرع وحقائق التاريخ ؟ قال : ماذا تقصد بقولك هذا ؟ قلت : يعترف الكتاب في دخائلهم بسبق الغرب للإسلام في قضايا كبرى ، كقضية تحرير العبيد . وتتلبسهم حالة من الشعور بالنقص ، تلجئهم إلى التبرير ، بديلا للإقرار بالحقيقة . ويقودهم منحى التبرير هذا إلى تقمص دور الماشطة ، لتجميل ما لا يمكن تجميله . في حالتنا هذه يلجأون إلى الزعم بسبق الإسلام في مسألة تحرير العبيد ، ويعيدون الفشل إلى ما يصفونه بعدم الالتزام بتطبيق الشرع . ويلجأ آخرون إلى القول بأنه ما كان بمقدور المسلمين إطلاق سراح أسرى الأعداء ، في وقت يحول هؤلاء الأعداء أسرى المسلمين إلى عبيد ، الأمر الذي يفضي إلى اختلال في ميازين الصراع . ويقول غيرهم أن التدرج في حل مسألة العبيد ، كما أقرها الشرع ، تجنب المجتمعات الإسلامية خطر الهزات الإقتصادية ، وحيث يقوم العبيد بالقسط الأوفر في عملية الانتاج . ويتجاهل كل هؤلاء حقائق عدة منها : 1 ) ان الخلافات الإسلامية ، وعلى مدى قرون عدة ، لم تكن فقط المبادرة إلى الحروب – الفتوحات - ، بل وصاحبة اليد العليا فيها . 2 ) وأن النتيجة المباشرة لهذه الحروب تمثلت في استعباد ملايين البشر . 3) وأن أسواق النخاسة ، ومن غير موارد الحرب ، لم تبق فقط على نشاطها ، بل وشهدت توسعا غير مسبوق . 4 ) وأن حروب المسلمين مع المسلمين شهدت تضخما غير مسبوق لأسواق العبيد ، ولكن هذه المرة للعبيد المسلمين . 5 ) وأن المسلمين تخلوا عن تجارب ناجحة لهم ، كان تثبيتها ، والبناء عليها ، يعطي الإسلام قصب السبق في هذا المجال ، ويضع عدالة الإسلام في مكانة لا يحتمل أن تدانيها أية مكانة أخرى . قال : أقر معك بكل ما قلت . لكن ما الذي تعنيه بالنقطة الأخيرة ؟ قلت : نحن حين نقرأ التاريخ الإسلامي عموما ، والسيرة النبوية خصوصا ، يفوتنا دائما الوقوف عند ما يستحق الوقوف عنده ، لاستخلاص العبر . قال : ماذا تعني بقولك هذا ؟ قلت : أنت بلا شك قرأت فتح مكة ، من كتب السيرة ، ومن كتب التاريخ . وأظنك مثل غيرك لم تنتبه إلى واقعة مفصلية في ذلك الفتح . قال : أنت تثير فضولي بأشد ما تكون الإثارة ، فإلى أية واقعة تشير ؟ قلت : كان العرف الحجازي ، الذي صار عرفا إسلاميا ، يقضي بتحول مكة ، أهلا وناسا ، وأرضا ومالا وممتلكات ، إلى غنائم للمسلمين . وكان الفاتحون يتحرقون إلى هذا ، خصوصا وأن للبعض منهم ، أنصار الأوس والخزرج ، تارات قديمة عند قريش ، رأوا أن الأوان قد آن لتسدديها . رأى النبي ، وبأم عينيه ، وسمع بأذنيه ، تحرق الأنصار هذا . كما رأى بأم عينيه استسلام بنات ونساء مكة للمصير المفجع الذي ينتظرهن . رآهن وقد خرجن ، وبعد الإعلان بأمان من يلتجئ للكعبة ، ولبيت أبي سفيان ، ولمن يغلق عليه باب بيته ، ناشرات شعورهن – الصفة الأساس للأمة السبية - ، يحملن خمرهن ويمسحن بها عرق خيل المسلمين . بمعنى آخر خرجن عارضات أنفسهن للسبي . بادر النبي لوقف الكارثة ، بإعلان تحريم مكة على الفاتحين . وعادت النساء لبيوتهن . وعلى عكس كل الغزوات ، لم يحصل الفاتحون في مكة على اية غنيمة . إذن كانت تجربة باهرة النجاح ، أكدت انصياع المسلمين لأمر منع السبي والاستعباد ، ومصادرة الممتلكات ، واقتسام الغنائم . لكن وبدل أن يثبت النبي ما حصل في مكة ، كقاعدة ينطلق منها المسلمون لإقرار عدالة جديدة ، وتخليص البشرية من لعنة العبودية ، فقد تراجع النبي عنها وبمجرد تخطيه لحدود مكة . قال : لا أفهم . ماذا حدث بعد ذلك ؟ قلت : خرج من مكة لغزوة حنين ، وأنت تعرف ما حدث فيها من سبي ، ومن غنائم . قال : وهل شهد الإسلام مبادرة مماثلة ؟ قلت : نعم . حدث ذلك في عهد عمر بن الخطاب . عمر وبعد الفتوحات الواسعة ، وسيادة العنصر العربي على جزء واسع من العالم القديم ، وبعد ذلك التدفق الهائل من سبايا البلدان المفتوحة على الحواضر العربية ، رأى أن من غير اللائق أن يكون العربي عبدا . إذن وقد قال قولته الشهيرة :" إنه ليقبح بالعرب أن يملك بعضهم بعضا وقد وسع الله عليهم فتح الأعاجم " ، فقد أمر ببدء عصر جديد ، يتم فيه تحرير كل عبد عربي . وتنفيذا لأمره هذا انطلق العرب يفتشون عن أبنائهم العبيد ، ويفدون كل عبد عربي بعبدين من الأعاجم . ونجحت الفكرة نجاحا مذهلا . ولم يبق في أسر العبودية إلا تلك النساء اللواتي كن قد ولدن لأسيادهن . وكان مقدرا لخطوة عمر هذه أن تتواصل ، وبالتالي تحدث هذه العدالة الجزئية ، بتخليص جنس من الأجناس البشرية ، وهم العرب هنا ، من لعنة وعار العبودية . لكن ما حدث أن الصراع العربي العربي ، خصوصا في العهد الأموي ، عاد بمبادرة عمر القهقرى . وعاد العربي المسلم يستعبد أخاه العربي المسلم ، وتعرض العربية المسلمة مثل غيرها في سوق النخاسة ، يتفحصها الشاري ، كأي بضاعة ، قبل اقتيادها إلى بيت المتعة . قال : أصدقك القول أنني رغم معرفتي بهذه الوقائع إلا أنني لم أرها أبدا من زاوية النظر هذه.

خاتمة :

قلت : وإذن دعنا نختم حوارنا اليوم بالإشارة للتالي : في حواضر الإسلام ، وبعد الحرب الأهلية الأمريكية الضروس ، وبعد اعتلاء أبراهام لينكولن لعرش تشريع حظر العبودية ، ظل بإمكان المسلم ، وحتى نهاية الثلث الأول من القرن العشرين ، أن ينزل إلى السوق ، ويعود معلقا صبية بذراعه ، مثل أي سبت للخضار ، ويسكنها شقة ليستمتع بجسدها كما يشاء ، وليلفظها في أية لحظة يبدو له فيها أن قدرتها على إمتاعه قد تراجعت . وختمت الحوار قائلا : والآن يا صديقي تم استئصال هذه اللعنة ، حتى من بلاد المسلمين ، وبعد أن تأخرت كثيرا عن أمم أخرى كثيرة ، بفعل القوانين الدولية التي قضت بتحريم العبودية . قال : ولكن عهد العبودية لم ينته . ألم تسمع عن الرقيق الأبيض ؟ قلت : بلى سمعت . ولكن يا صديقي هذه غير تلك . فالرقيق الأبيض تجارة سرية محرمة ومجرمة ، مثلها مثل تجارات كثيرة ، كتجارة المخدرات ، وتجارة السلاح ، وتجارة الأعضاء البشرية ...الخ . هي تجارة لا تحطى بتغطية قانونية ، ولا بحماية دينية ، ولا حتى برعاية دولة . هي تجارة ملاحقة من أجهزة ومؤسسات القانون ، وعقوباتها مشددة . ولكنها ، مثل تجارة الممنوعات كلها ، موجودة ، وتحدث بكل أسف . لكنها لا تعني أبدا استمرارا لعهد العبودية . هذه اللعنة التي أطبقت على عنق البشرية آلافا عديدة من السنين ، ذهبت ، انتهت إلى غير رجعة . وأخيرا دعني أذكرك أن أمما كثيرة ، خصوصا أهالي بلدان العالم الجديد الأصليين ، لم يعرفوا عهد العبودية أبدا . ربما كان حظهم أن الأديان السماوية لم تكن قد وصلتهم بعد . اعترض محاوري مجددا ، ولكننا أغلقنا هذه الجولة من حوارنا ، وافترقنا على أمل بلقاء جديد .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تعليق
عبد الله خلف ( 2013 / 9 / 26 - 17:53 )
1- أعتقد أن الكاتب حاول إهمال (المكاتبة) , الآيه واضحه و لا تحتاج إلى إنقسام .
2- الإسلام , شريعته ساوت بين الحر و العبد , عندما نسخت آية : (النفس بالنفس) آية (الحر بالحر) , و هذا من أدلة محاولة القضاء على العبوديّه .
3- يستشهد الكاتب بكتب التراث , و لا ننسى أن كتب التراث فيها الغث و السمين , و قد تكون هنالك روايات موضوعه فضلاً عن كثرة الضعيفه .


2 - رد من الكاتب
عبد المجيد حمدان ( 2013 / 9 / 27 - 11:40 )
كيف كان إهمالي للمكاتبة ، وقد أفردت لها أكثر من صفحة كاملة . كان بودي أن توضح أين أخطأت أو بالغت ، أو قصرت في الطرح . ثم قل لي : كيف لطفل في العاشرة ، وحتى في الخامسة عشرة ، أن تفيده المكاتبة ؟ كيف لمسن أن يلجأ إليها . وأظنك تعرف قصة المماليك والقاضي العز بن عبد السلام . هذا القاضي رفض اعتلاءهم للسلطة ، إلا بعد إعتاقهم . لم ينفعهم جبروتهم . أجبرهم واحدا واحدا على الصعود إلى منصة النخاسة ، وقام بعض الأغنياء بشرائهم ، ومن ثم إعتاقهم . إذن خطوة الإذلال سبقت وصول كل سلاطينهم لكرسي السلطنة .
الأمر المهم الثاني أنك يا عزيزي ، ومخالفا لجمهور كبير من العلماء ، تطرح موضوع النسخ . وعلى فرض قبول ذلك أذكرك بأن آية النفس بالنفس وردت في سورة المائدة ، فيما وردت آية الحر بالحر في سورة البقر ة . أنا لا أعرف أي منهما سبقت الأخرى . وإذا جاز النسخ أي منهما نسخت الأخرى .وموضوع النسخ كبير أتعلم أن آية السيف تنسخ 127 آية ، وينسف نسخها كل قول عن التسامح في الدين . و الأهم أن تقنع الفقهاء بقولك ، لأن قبول النسخ يوجب تغيير الكثير مما جاء في أبواب الفقه . وعن التراث أقول : بئست أمة ترفض وتحتقر تراثها.


3 - تعليق
عبد الله خلف ( 2013 / 9 / 27 - 12:13 )
1- القرآن الكريم يدعم العتق , و أعتقد أن المكاتبه خير شاهد .
2- آية (النفس بالنفس) نسخت آية (الحر بالحر) , و عليك أن تعمل بحث عبر محركات البحث في النت ؛ كي تتأكد .
3- نحن لا ننرك التراث , و لكن التراث يخضع لعلم (الأسانيد) و (الجرح و التعديل) و (التخريجات) , فليس كل ما ذُكر بالتراث صحيح , و إلا لما ظهر علم (الجرح و التعديل) .


4 - رد من الكاتب
عبد المجيد حمدان ( 2013 / 9 / 27 - 17:36 )
صحيح أن القرآن ، وكذلك الحديث يدعم العتق ، وليس المكاتبة وحدها هي الشاهد . ولكن ليس هذا هو جوهر الأمر هنا . فكما دللت بالشواهد كانت الأعراف الحجازية تقول بالعتق وتمارسه . جوهر الأمر هنا أن القرآن نزل من رب هذا الكون ، ونظام العبودية ، بوحشيته وظلمه العصي على الوصف ، قائم ، ويكبس على أنفاس البشرية . كانت العدالة الإلهية تقضي بتخليص البشرية من هذا الظلم الوحشي ، ولكنها لم تفعل. فقط حسنت بعض العادات الحجازية في العتق . كان هذا من جانب ومن الجانب الآخر حولت الأعراف والعادات إلى شرائع ، تبقي على هذا الظلم كنظام اجتماعي أبدي لا فكاك للبشرية منه . أما عن النسخ فأعيد أن قبوله يلزم الفقهاء بمراجعة كل ما كتبوه .وبالتالي يلزمهم بالتراجع عن سلسلة كبيرة مما يوصف الآن بمبادئ الشريعة ، لأنها مبنية على أحكام آيات تم نسخها . وقد ضربت مثالا أن آية السيف نسخت 137 آية ، كلها ترتبت عليها أحكام شرعية . وعن التراث أوافق أن فيه الكثير من الغث والموضوع والضعيف وهذا ينطبق أيضا على الحديث .والعلوم التي ذكرتها لم تنجح حتى الآن في تنقية الحديث حتى من المنافي لكل منطق والكاذب بكل وقاحةعلى النبي


5 - أطباء التجميل يخترعون فرانكنشتاين
أمل مشـرق ( 2013 / 9 / 28 - 16:45 )
أعجبتني عبارة (ويقودهم منحى التبرير هذا إلى تقمص دور الماشطة ، لتجميل ما لا يمكن تجميله) فعلا هذا هو لب القضية والمحبط الأكبر لأي محاولة نهضة، الإرتكاس إلى الوراء ومحاولة تجميل البشع.. انه الشعور بالعجز المغلف بالعَظَمة الزائفة والرِسالة العالمية الفاشلة يجعل من جميع المهزومين أطباء تجميل فاشلين ومتآمرين من غير إرادة على محاولات النهوض من التخلف الأزلي.. ولا عجب ان تكون نتيجة عمليات التجميل هذه دائماً هي وحوش فرانكنشتاين من الإنتحاريين وآكلة الأكباد... إلى متى؟؟؟؟

هناك بحث قيم من 28 حلقة لسردار أحمد عن العبودية في الإسلام يضاف إلى هذا المقال الجدلي الرائع
http://www.ahewar.org/m.asp?i=2379


6 - رد من الكاتب
عبد المجيد حمدان ( 2013 / 9 / 28 - 18:11 )
أشكرك وأعقدك بقراءة البحث الذي أشرت إليه .

اخر الافلام

.. حديث السوشال | فتوى فتح هاتف الميت تثير جدلاً بالكويت.. وحشر


.. حديث السوشال | فتوى تثير الجدل في الكويت حول استخدام إصبع أو




.. عادات وشعوب | مجرية في عقدها التاسع تحفاظ على تقليد قرع أجرا


.. القبض على شاب حاول إطلاق النار على قس أثناء بث مباشر بالكنيس




.. عمليات نوعية للمقاومة الإسلامية في لبنان ضد مواقع الاحتلال ر