الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أمم تبني وأمم تهدم

آلان كيكاني

2013 / 10 / 2
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


أتيح لي أن أكون في باريس الصيف الماضي لأقضي فيها إجازتي السنوية كسائح، وكانت زيارتي الأولى لهذه المدينة الجميلة التي كنا قد سمعنا الكثير عن عظمتها وجلالها وجمالها وبهائها منذ الطفولة، وقد درت أركانها ومعالمها السياحية والتاريخية بصحبة بعض الأقرباء والأصدقاء. ولم أترك متحف لوفر وكنيسة نوتردام وباستيل وشانزيليزيه وأوبرا باريس وقصر وجنان فيرساي وبرج إيفيل إلا وزرتها مرات ومرات دون أن تقول لي عينايَ كفى غير آبهة بقدميَّ التي باتت تؤلمني بل وتتورم أحياناً، ولم يكن ذهني ليصدق أن ما تراه عيني من بناء قديم وجميل هو من فعل المهندسين والبنائين بل كان يخال له أن الأمر تم بأزاميل النحاتين أو رِيَش الرسامين. وفي كل مرة كنت أعود من مشواري إلى البيت مساءً وأرقب التلفاز وأرى البراميل المتفجرة تهبط من السماء على المباني الهزيلة أصلاً في سوريا كان ينتابني الغثيان والشعور بالقرف والاشمئزاز والحنق من هول الدمار ومن حالة الوحشية والهمجية التي يعيشها شرقنا منذ أمد بعيد. وما كنت آوي إلى فراشي ليلاً حتى يطير النوم عن مقلتي ويبدأ ذهني بالشرود حول سؤال ملح وهو: لماذا تفتقر بلداننا إلى مثل هذه الصروح التاريخية الجميلة؟ ألم تكن الدولة العثمانية في العصر الذي بنيت فيه هذه التحف في باريس إحدى أقطاب العالم من حيث القوة والاتساع، فلماذا لم تبن هذه الدولة مثل هذه الدرر واللآلئ؟
وليس هذا فحسب، فكنيسة آياصوفيا هي جوهرة اسطنبول المعمارية على الإطلاق رغم أن بناءها سبق الاحتلال العثماني للمدينة بحوالي ألف سنة، أي أن عمرها يقترب من خمسة عشر قرناً، وخلال الستة القرون الماضية لم يستطع الأتراك الإتيان ببناء يحاكي آيا صوفيا رغم أن عين الزائر لا تخطئ في كشف محاولات الأتراك لبناء مساجد على هيئة هذه الكاتدرائية العظيمة، مثل مسجد سلطان أحمد ومسجد السلطان سليمان، ولكن أين هذه المساجد من آياصوفيا؟ فرغم الفاصل الزمني الكبير بين بناء آياصوفيا وبناء المساجد العثمانية إلا أن آياصوفيا هي الأبهى والأروع والأعظم والأجمل.
يقال أن الحضارة أينما وُجِدت احاطت بها الهمجية وحاولت النيل منها، والبناء أينما حل كان المخربون له بالمرصاد، فالرومان وخلفاؤهم البيزنطيون كانوا مراكز إشعاع حضاري من القرن الثالث قبل الميلاد حتى السادس عشر بعده. والحضارة التي بنوها امتازت بالتشييد والبناء، ولعل الجسور والقلاع والمسارح التي شيدتها في بلداننا هي نموذج للدقة والجمال والروعة والمتانة منذ نشأتها حتى أيامنا هذه، حتى أن العوامل الطبيعة والبشرية من زلازل وأمطار وأيادي المخربين لم تستطع القضاء عليها، فهي لا تزال قائمة إلى الآن، بل وصالحة للاستعمل أيضاً. ولكن هذه الحضارة على اتساع زمنها لم تسلم من الغزو الهمجي القادم من ألمانيا عبر قبائل القوط والوندال ومن الدول الاسكندنافية عبر القراصنة وقطاع الطرق ومن المشرق عبر غزو الهون والآفار والمغول وأخيراً الأتراك.
وكنت قد زرت مرة مدينة سان بطرسبورغ الروسية قبل بضع سنوات، وعندما وقعت عيني على أرث القياصرة الروس لم تكن دهشتي أقل من تلك التي انتابتني بعدها في باريس، ووقفت حينها مذهولاً من جمال المدينة القديمة بشوارعها الأنيقة ومبانيها وكنائسها الرائعة البنيان حتى تمنيت لو كان لي عيون في قفا رأسي وصدغيه كي لا يذهب عليّ منظر من دون أن أراه. إلا أن دهشتي الكبرى كانت عندما زرت بيتركوف، مصيف القياصرة الروس ، وكان أول شعور لي وأنا أتجول في حدائقه وقصوره هو إحساسي أننا نحن الشرقيون كنا بارعين في خيالنا عندما وصفنا الجنة وأنهارها وأشجارها وفاكهتها وحواريها وغلمانها إلا أن غيرنا كان الأدهى عندما قام بترجمة خيالنا إلى حقيقة، وتحويل أحلامنا إلى واقع. وللأسف فإن العين ما إن تقع على الجزء الذي بناه الشيوعيون من المدينة حتى يدرك المرء أن خطأً ما قد حصل في مسار تاريخ هذه المدينة العريقة والجميلة. فما بناه الشيوعيون منها يعتبر نشازاً ودخيلاً وفي أحسن الأحوال ليس بأجمل من ضواحي دمشق وحلب.
ليس بناء الأمبراطوريات هو معيار عظمة أمةٍ في التاريخ، وإنما العظمة تأتي مما تركته هذه الأمة من آثار تدل على قوتها وما وصلت إليه من علم في الهندسة والبناء ومن ذوق رفيع في اختلاق الجمال فناً وأدباً وعمارةً، وإلا فإن المغول يستحقون أن يصنفوا على أنهم أعظم أمم الأرض لأنهم بنوا أمبراطورية مترامية الأطراف تعد الأكثر اتساعاً في التاريخ البشري، فقد امتدت امبراطوريتهم من الصين إلى الهند إلى أواسط أوروبا. ولا يخفى على أحد أن المغول عُرفوا عبر التاريخ على أنهم أكثر شعوب العالم همجية فهم لم يتركوا بناء في طريق غزواتهم إلا وهدموه ولا جسراً إلا وردموه ولا امرأة إلا واغتصبوها ولا طفلاً أو شيخاً إلا وقتلوه، وكانوا بذلك إحدى أبشع الآفات التي حلت بالبشرية عبر تاريخها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف يتصرف الألمان عندما يمرضون؟ | يوروماكس


.. لمى الدوري: -العراق يذخر بالمواقع الأثرية، وما تم اكتشافه حت




.. الهدنة في غزة على نار حامية؟ • فرانس 24 / FRANCE 24


.. مسلسل المانغا - بون- : وحدة تسافر عبر الزمن وتحي الموتى




.. -طبيب العطور- بدبي.. رجل يُعيد رائحة الأحبة الغائبين في قارو