الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تمثيل ُالوحي داخل الحواس – رحلة الله و الناس

نضال الربضي

2013 / 10 / 5
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


تمثيل ُالوحي داخل الحواس – رحلة الله و الناس

درسنا في سنواتنا الأولى عملية التمثيل الضوئي في النباتات و هي العملية التي يُطلق عليها في اللغة الإنجليزية Photo Synthesis و التمثيل هنا هو استقبال النبتة لضوء الشمس ثم ترجمته و تحويله بواسطة عملية كيميائية إلى غذاء للنبتة. فيكون الشكل الأول و هو شعاع الشمس مُختلفا ً تمام الاختلاف عن شكل الغذاء الناتج و عن طبيعته، على الرغم أن شكل الغذاء الأخير مختلف لكنه ناتج عن الشعاع الأصلي و ترجمة منظورة للشعاع غير المنظور.

المقدمة السابقة ضرورية جدا ً لفهم الوحي كما تراه المسيحية. و لهذا نقول أن المسيحية لا تعتقد أن الله "قال بالحرف الواحد" للأنبياء الكلمات المكتوبة في الإنجيل و في العهد القديم. الملائكة لم تأت ِ الأنبياء بكلمات تُنطق فتُسمع فتُكتب كما هي، مع أن هذا صحيح في بعض الأحيان التي فيها ظهور بشري للكينونة الإلهية: الله، الملاك و حديث مُتبادل مع الشخص الذي أُرسل له الملاك أو ظهر له الله.

حسنا ً ما الذي كان يحدث و كيف كُتب العهد القديم و الإنجيل. الجواب هو كُتب بالوحي الإلهي، أي بتأثير مباشر وواضح للروح القدس على الكاتب. و قد مر هذا الوحي أو التأثير داخل عقل الكاتب ففهمه و استوعبه و ترجمه إلى كلام و نبوءات و كتابات و سلوك منظور تم تسجيله في أسفار الكتاب المُختلفة. و هذا يعني أن كلمات الكتاب المقدس الإلهية تتأثر ببيئة الكاتب البدوية أو الحضرية أو الزراعية و تتأثر بأسلوبه الكتابي الشخصي و فهمه للحياة و قوانينها الاجتماعية و العلمية، و تتأثر أيضا ً باستعداد الكاتب لقبول الوحي و مدى استسلامه للروح القدس الموحي.

و يُحتم القبول الإلهي بطبيعة البشر و استخدامه لطبيعتهم الضعيفة لتبيان إرادته و مشيئته أن يكون الوحي المُعطى خادما ً و مُحققا ً للرغبة الإلهية لضمان أن الرسالة مهما اختلف مُترجمو الوحي في طُرقهم و بيئاتهم و فهمهم هي رسالة واحدة و رسالة صحيحة كما قصد الله إيصالها بروحه.

لهذا كان لزاما ً أو يستخدم الله بروحه كُتابا ً كثيرين لأسفار كثيرة من ضمنهم أنباء عاصروا بعضهم البعض، لكي تُشكل كُل قطعة في الوحي الإلهي و أسفاره جُزءا ً من الحقيقة التي يريد الله أن يُظهرها للعالم، فيكون أن ما يكتبه نبي يتم توضيحه أكثر بكتابات نبي آخر، خصوصا ً مع وجود الأربعة الكبار: أشعيا، أرميا، حزقيا و دانيال، و الإثني عشر الصغار (الصغر هنا يعود على طول السفر و كبره و ليس على المكانة الدينية).

لنفس السبب بالضبط كان لا بد أن يمتد الوحي على مدى آلاف السنين حتى يمشي مع الطبيعة البشرية ليقودها في فترات ضعفها دون أن يكسرها أو يفرض عليها مثاليات أخلاقية أو حتى مجرد حقوق إنسانية مثل تحرير العبيد بشكل مُطلق و المساواة بين الذكر و الأنثى بشكل مُطلق و الترفع عن الغزو و السبي بشكل كامل و تشريع الزوجة الواحدة و منع التعددية، كل هذه الأخلاقيات نؤمن كمسيحين أن الله تعالى بعلمه المُسبق كان يُعد الإنسان لها و يمشي معه في التاريخ إلى حين ولادة السيد المسيح ليرتقي بالشريعة إلى كمالها التام و المُستمر مع البشر حتى نهاية التاريخ. و هذا هو معنى قول السيد المسيح "ما جئت لأنقض بل لأكمل".

إكمال السيد المسيح للشريعة يعني أنه يعترف بالمسيرة التي مشاها الله في الماضي مع البشر من خلال الشعب اليهودي، و اعتراف السيد المسيح و تنبيهه للناس أن المؤقت من القوانين و التشريعات و العقائد الطقسية كالذبائح و رش الدم و الأعياد المختلفة و الطقوس هي مجرد صورة للحقيقة و ليست الحقيقة و هي مجرد مرحلة إعدادية انتقالية إلى النهائي و الحقيقي، و أن ما كان قد تم التنبيه بإشارات على ضرورة تغيره مثل إشارات معاملة العبيد الحسنة و إعطاء موسى للنساء ميراثا ً بين إخوتهن و تنبيه الرب إلى خطورة الانحدار الجسدي مع الزوجات الكُثر و السبايا، هو مقدمة لزوال كل هذا و استبداله بالكامل المسيحي حين يحين الوقت الذي هو نعبر عنه كمسيحين في لفظ "ملئ الزمان"

في إنجيل يوحنا و قبل المُحاكمة والصلب يتحدث يسوع الفادي عن مجئ الروح القدس المُعزي ليُكمل رسالته مع التلاميذ بعد صعوده، و يقول عن الروح القدس أنه: 1. يشهد له أي ليسوع و لرسالته كما شهد يسوع للرسالات السابقة التي أتى لإكمالها مما يؤكد هنا أيضا ً على وحده الوحي الإلهي و جوهر قصده الذي يتم إعلانه باتصال و دون انقطاع بين التاريخ البشري و المؤسسة الإلهية، 2. سيذكِّـر الرسل بكل ما قاله يسوع فيضمن استمرارية الرسالة بكمالها اليسوعي المسيحاني 3. سيُرشدهم إلى الحق كله، و هذه النقطة جوهرية بشكل كبير جدا ً لأن معناها أن الله يتعهد باستكمال مسيرة الإنجيل (أي بُشرى الخلاص السارة) مع البشر دون انقطاع، و أن الله يقول لنا أنه يعلم ن التاريخ يتغير و أن البشر يتطورون في فكرهم و أساليبهم الاجتماعية و أخلاقياتهم، و أن الروح القدس سيكون معنا لمواكبة كل هذه التغيرات و إسباغ البركة عليها و قيادتها نحو الكمال.

الكنيسة تعتمد اليوم بشكل كامل على الروح القدس و هي كمؤسسة مرت بكل ظروفها التاريخية القديمة و الحديثة استطاعت أن تنتفض بقداسة الروح القدس لتنهض في تاريخها من الفهم البشري القاصر و الحوادث التاريخية المؤلمة إلى الفهم الذي يسعى للكمال و يحتضن الأخلاقيات الإنسانية العظيمة، فأصبحت كمؤسسة دينية إلهية بشرية ساعية ً للكمال بطريقة أفضل من الماضي، لأن هذا النمو الطبيعي لها هو فعل إلهي بالدرجة الأولى يتماشى مع الضعف البشري و يعينه.

اليوم تقف الكنيسة بحزم و قداسة مع الإنسان لترفض العبودية و الاتجار بالبشر و امتهان حقوق النساء و استعبادهن و لترفض الحروب لأي سبب كان و انتهاكات حقوق الإنسان و الظلم و الغزو و القتل و السبي و احتقار الآخر و تشريع الإجهاض و النموذج الاستهلاكي الرأسمالي الذي يسحق العامل و يُنمي رؤوس الأموال على حساب الفُفراء.

تعقد الكنيسة المجامع المسكونية و تُرسل برسائلها إلى الإكليروس و المؤمنين، و تعمل على تقارب الأديان و تُشجع الحوار و تقف إلى صف الاعتدال و احترام حق الإنسان في الوجود و الحياة، و القارئ لنصوص المجمعات المسكونية و رسائلها يرى بوضوح صورة المسيح المخلص التي رسمتها الأناجيل و يسمع صوته و هو يتحدث عن إتمام الرسالة، و يلمس بحق الروح القدس و هو "يرشد إلى الحق كله"، في عملية نمو و إكمال و تكميل تواكب التاريخ البشري و لا تتوقف.

سيستمر الوحي الإلهي في العمل و سيستمر المُوحى إليهم في ترجمة الوحي حسب التمثيل الإدراك الحسي البشري، و سيستمر الروح القدس في الاهتمام بهذا التمثيل و بتكميله و قيادته نحو الكمال، لكي تصبح في النهاية أو الأصح أن أقول لكي تستمر عملية الوحي كحوار بين الله و البشر لا يتوقف بشكله الفعال عن تبيان إرادة الله في حياة البشر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - أخي نضال
سامي الذيب ( 2013 / 11 / 4 - 07:45 )

انت تنطلق من منطق مسيحي وهذا حقك

انا ارى الوحي بمعنى آخر. رجل جالس امام بحيرة - وانا فعلا اعيش على بعد عدة امتار من أكبر بحيرة في اوروبا الغربية http://en.wikipedia.org/wiki/Lake_Geneva.

فتخالجه الخواطر يستلهم منها شعرا أو قصة وفقا للجو وانعكاس الغيوم على وجهها وتلاطم الأمواج وما يحيطها من أشجار وما يطير عليها من طيور وما يسبح في اعماقها من سمك.

البحيرة لا تتكلم ولكن هو الإنسان الذي يتكلم

الإنسان يعكس في كتبه المقدسة (المكدسة) مشاعره وانفعالاته ومخاوفه ومعارفه وينسبها الى الله إما جهلا أو زورا ... فيقتل ويدمر باسم الإله ويحب ويبني بإسم الإله
وبما أن الإله لا يمكن الوصول له لمحاورته أو التحقق مما ينسب إليه من كلام، يكون امامنا طريقان: أما أن نرفض مقولة الوحي بالمعنى التقليدي، أو ان نتعصب لما ينسب اليه ونتسمر في القتل والتدمير ونحن نصيح -الله أكبر- كما يفعل الإرهابيون في سوريا والعراق ومصر وافغانستان وغيرها من بلادنا تعيسة الحظ... أو كما كانت تفعل محاكم التفتيش عند مسيحي العصور الوسطى

وسوف اعود اليك في مقال مستقل في صفحتي للرد على أسئلتك
http://www.ahewar.org/m.asp?i=5388


2 - شكرا جزيلا على هذه الوقفة
محمد بن عبدالله ( 2013 / 11 / 4 - 10:05 )
منذ فترة وأنا أحاول الرد على بعض كتاب الحوار الذين يهاجمون ديانة وهمية اعتبروها دين النصارى وافهامهم بأن نظرة المسيحية إلى النبوات والكتب والتطور الانساني مختلفة تماما عن الرؤية التي املتها عليهم خلفيتهم الاسلامية

كي يبنى حوارنا مع هؤلاء الاخوة على أسس سليمة علينا

أولا: اعادة تعريف مصطلحات أساسية (الدين...الصلاة..الخطيئة..الشهادة..وغيرها) فهي وإن بدت واحدة تختلف جذريا بين المسيحي والمسلم

يأتي ثانيا توضيح نظرة المسيحيين إلى مفهوم الكتب والنبوآت والتطور الانساني وغيرها كما فعلت في مقالك المتميـّز

مقالك وقفة تنبيه واجبة قبل البدء في أي حوار حتى يبنى على الفهم الصحيح للموقف المسيحي ولا يتحول إلى حوار طرشان

مقالك رائع لأنه واضح ومكتمل لمن يريد حقا الفهم



رغم هذا فانني أجد نفسي أقرب عقلا وعقيدة من الأستاذ سامي الذيب


3 - شكرا ثانيا
محمد بن عبدالله ( 2013 / 11 / 4 - 10:59 )
بعد تعليقي الأول قررت أن أقرأ ما كتب اليوم السيد حسن محسن رمضان وقد كنت أتجاهل تماما كل افتكاساته منذ حوالي العام فبعض ردودي السابقة عليه حاولت فيها ايصال مفهوم الكتب والنبوات والوحي عند المسيحيين لكنني وجدت أنني أكتب لمن لا يقرأ أو لا يفهم

أقلعت فترة عن القراءة له فمطالعة كتاباته كانت تصيبني بالقرف من قصور منطقه، مع الاحباط أمام من أغلق ذهنه عن الفهم واستحلى السطحية التي تريحه وتطمئنه إلى قناعاته السابقة

تصورت أن احيله على مقالك السهل الممتنع عله يفهم ويعلم

ذهبت إذن لقراءة مقاله اليوم بعد انقطاع طويل فوجدته جامدا في مكانه كالمشلول لم يتغيّر يمتلئ كبرا وزهوا في قلبه فيكتب كثيرا ولا يقرأ الردود بتمعن أو لنقل لا يتكبد مشقة القراءة بقصد الفهم فيعود ليكرر نفس الترهات
رغم أن مثل هذا الطاووس لايجدي معه النقاش المنطقي فتعليقاتك الثمينة قد تفيد كثير من المترددين على صفحته فتتسع أفقهم ليقوم الحوار على أسس سليمة بين كل الأطراف
شكرا

اخر الافلام

.. قوات الاحتلال تمنع أطفالا من الدخول إلى المسجد الأقصى


.. رئاسيات إيران 2024 | مسعود بزشكيان رئيساً للجمهورية الإسلامي




.. 164-An-Nisa


.. العراقيّ يتبغدد حين يكون بابلياً .. ويكون جبّاراً حين يصبح آ




.. بالحبر الجديد | مسعود بزشكيان رئيساً للجمهورية الإسلامية الإ