الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الناقد الفكري قامعا

كريم محمد السيد

2013 / 10 / 6
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


الناقد الفكري قامعا (1)
في السابع عشر من فبراير سنة 1600 م, وفي رومية تحديدا, جُمع كدس كبير من الحطب, وأخرج من السجن رجل كان قضى فيه ست سنوات, وكان الرجل شاحب الوجه نحيل الجسم مضت عليه عليه ايام وهو يؤخذ من سجنه الى محكمة التفتيش فيطلب منه كهنة المحكمة ان يجحد مقالاته وما قاله من فكر مدسوس بعقول أهل عصرة, فيرفض, فيعاد الى السجن, ثم تعاد الكرّة فيرفض ايضا, فتحكم عليه المحكمة أخيرا بالأحراق وهو هادئ مطمئن ويقول: " لعلكم ايها القضاة وانتم تنطقون بهذا الحكم تحسون من الفزع والرعب اكثر مما احس انا عند سماعي له"...(2)
بهذه المقدمة المقتضبة من نهاية حياة شهيد الفكر (برونو) والذي كانت تهمته الوحيدة إجهاره بتأييد آراء كوبرنيكوس بدوران الارض حول الشمس, نستطيع استهلال المقال عن محاكم الفكر التي أطاحت بمن يجرؤ على البحث ويحاول التجديد والخروج عن المألوف.
فلا تجد السلطة من بد في سبيل قمع كل كافر بفكرها, إنها سيف عدالة الفكر المضاد تجاه أي فكر أو رؤية جديدة تطفو فوق سطح الوضع السائد. ولهذا كانت عقوبة برونو "كافر رومية" حرقا-;- لأنه جاء بما لا يستقرئ حيادا للموجود, بل وربما تقديسا وتسليما.
وقد تجد السلطة - أي سلطة كانت- شرعيتها بتسليط الضوء وإخفاته عمّن تشاء وفق ما يتسق والرؤى السائدة في الزمان والمكان, ولكنها لا تستطيع ان تجهض ما يدور بأفكار الناس من كفر مبطن لما هو سائد, في عملية قيصرية مؤرقة, قد تكلف صاحب الفكر حياته, أو تهميشه ونفيه على أقل تقدير. حتى نجد أن محمدا (ص) كفر بآلهة قريش ودينهم, فخشي القوم كفره, فأنقلب كفره دينا بعد انقلاب دينهم كفرا.
كثيرة هي الأمثلة التي تساق لقمع من يفكّر بخلاف السائد والموجود, من تلك المحاولات, ولحسن حظي أن يقع بيدي كتاب عن محاكمة فكرية جرت بعصرنا مع عميد الادب العربي الدكتور طه حسين, التهمة التي وجهت اليه كانت بسبب الآراء الجديدة التي طرحها كتابه (في الشعر الجاهلي) سنة 1926 , على إثرة تقدمت عدة جهات بدعاوى ضد المؤلف ابرز تلك الجهات الازهر ونواب من المجلس المصري من ذوي النزعة الدينية, اذ كانوا يطالبون فيه بالمرافعة أمام المدعي العام نتيجة ما جاء به الكتاب من أفكار تسيء للدين الاسلامي والقرآن الكريم والنبي محمد (ص) وعلى نسبه الشريف, وهذا ما خلق ردة فعل للرأي العام جرّاء الاعتداء والازدراء والتعرض لدين الدولة الرسمي (الاسلام), وقد تضمن الكتاب محضر النيابة العامة المقدم بإسم رئيسة آنذاك (محمد نور) والذي وجدته أقرب منه للنقد الى محاضر التحقيق المتعارفة في المحاكم والدوائر الحكومية, اذ نجد ان المدعي العام يسهب باستفاضة في النص, متناولا التهم التي وجهت للكتاب محللا ومنقحا ومتسائلا ومقيما كأي ناقد أدبي يؤدي صنعته بإتقان.
كانت هناك أربعة اشكالات طرحت في المحكمة عن ذلك الكتاب أولها إنكار طه حسين لقصة انتقال النبي ابراهيم الخليل وولده اسماعيل ووجودهما التاريخي والارتباط المكاني باللغة, وزعمه ان القراءات السبع هي فرض من اهل الارض ولا شان للسماء منه, وهي قراءة لألسن العرب لا كما جاء بها القرآن, وتناوله نسب النبي محمد (ص) بشيء من التجرد الذي بدا فيه تجرده من أي تقديس لهذه الشخصية الإسلامية لدى كل المسلمين, وآخرها انكاره ان للإسلام أوليه عند العرب بكونه الامتداد الديني لدين إبراهيم الخليل. ولا يهمنا من المحاكمة ما ثبت وما نفي, انما العبرة في أنها ربما تعد من أولى المحاكم الفكرية في القرن العشرين بطابع ثقافي فكري, كلّف طه حسين المثول أمام المحكمة متهما عن آراءه بالشعر الجاهلي كما كلفه من قبل "في تجديد ذكرى أبي العلاء"...(3)
ويبدو جليا أن ما أثارة حفيظة الناقد الديني والفكري هو تناول المؤلف البحث بغير ذلك الاسلوب السائد وقتئذ, اذ أنه انتهج المنهج (الديكارتي) المبني على الشك الموصل لليقين وهو منهج لم يكن بالمالوف عربيا, وربما كان طه حسين من اوائل المتأثرين به بحكم طبيعة تواصله بأوروبا طالبا في فرنسا, وتناوله لقضية أدبية تتعلق بالمعتقد والمقدس, وهو مالم يكن سائدا وقتئذ بخلاف تأثر طه حسين بالأسلوب التجريدي في البحث ولهذا قامت قيامته, فيما نجد أن طغيان المذهب الديكارتي شائع ورائج اليوم لدى مختلف الابحاث, وربما استحسن ناقد اليوم انتهاج التجريد بالبحث وعدّه موضوعيا ومتجردا وهو من اهم عوامل توفيقات البحث ومظاهر التجديد فيه.
وهكذا نجد أن الناقد الفكري يمارس سلطة التوقيف الثقافي حينا, والحارس حينا آخر, فمرة نجده قامعا, وأخرى مشجعا ومثمنا, و الناقد الذي ساق (برونو) لمحرقته الشهيرة هو ذاته من سيثمن اكتشاف كوبرنيكوس لدوران الأرض, وهو ذاته من سيثمن أسلوب طه حسين بالبحث والجرأة بتناوله للشعر الجاهلي بتجرد وطرح رؤى جديدة بشأن العلاقة بين اللغة والدين والتاريخ.
أن احكام اقفال حرية التفكير أمام الباحث تجعل منه مجرد آلة ناطقة بالتكرار, وتجعل البحث منحسرا بما هو مألوف ورائج وتضعف من شهوة الابتكار, وأعتقد أن للحقيقة قوة اشدّ من القمع والتضييق, فهي الشمس التي تشرق على كل العصور, مهما تبدّلت الممالك والسلاطين والدول.
..............................................................................................
(1)عنوان المقال مستعار من العنوان الاساس للناقد والشاعر حسين القاصد من كتابه الموسوم (الناقد الديني قامعا) وهو قراءة في شعر ابن الشبل البغدادي.
(2) حرية الفكر....سلامة موسى.
(3) محاكمة طه حسين...تحقيق وتعليق خيري شبلي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مسيحيو السودان.. فصول من انتهاكات الحرب المنسية


.. الخلود بين الدين والعلم




.. شاهد: طائفة السامريين اليهودية تقيم شعائر عيد الفصح على جبل


.. الاحتجاجات الأميركية على حرب غزة تثير -انقسامات وتساؤلات- بي




.. - الطلاب يحاصرونني ويهددونني-..أميركية من أصول يهودية تتصل ب