الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نظرة للإعلانات التسويقية المتلفزة و علاقتها بالنمط الاستهلاكي.

نضال الربضي

2013 / 10 / 7
المجتمع المدني


نظرة للإعلانات التسويقية المتلفزة و علاقتها بالنمط الاستهلاكي.

صوت ُجرس الباب و تفتح الأم، الإبن مُبتسم ببراءة بينما تتغير صفحة وجهها و تسأله باستنكار "كاين تمشي على إيديك؟"، تركز الكاميرا على يدي ثوب الإبن الأبيض و الذي هو الآن بني طيني و ينتقل المشهد بسرعة ليعرض مجموعة أطفال بينهم الإبن يتسابقون و هم يمشون على إيديهم بدل أرجلهم، وسط حقل طيني مُسرف في الطينية و القرف، وبعدها ينتقل المشهد ليعرض اسم مسحوق الغسيل و شكل الثوب بعد خروجه من الغسالة أبيض َ ناصعا ً.

دعاية ٌ أخرى، سيدتان جالستان في صالون إحداهما، الجو ودي للغاية و المخرج حرص على أن نشتم َّ الإثارة في تلقائية الموقف و عفويته الجاريتين و سؤال أحدهما و هي الأقل ابتساما ً للأخرى المبتهجة المكتفية "هوا جوزك مبقاش يتزل الـئهوى زي الأول ليه؟" و هنا تجيب المبتهجة أن زوجها بدأ باستخدام اسم المنتج، و تتضاحك السيدتان، و تُنهي الدعاية بقولها "خذ (مش عارف اسمو إيه) و حتبقى جامد يا حامد".

هذا اللعب على وتر الحاجة مُقلق و مستفز، و دليل أن بشريتنا على هذا الكوكب قد تكاثرت جدا ً و مع تكاثر أعدادها تكاثرت حاجتها إلى المأكل و المشرب و الملبس و مساحيق التنظيف و مساحيق التجميل و ووسائل النقل و وسائل الحماية و الأمان و وسيطي الترفية و السياحة والسفر و العلاج و الدواء و تحديات إيجاد الوظائف للشباب و توفير الحد الأدنى من متطلبات الحياة الكافية للعيش بكرامة.

وسط هذا الخضم تبرز المؤسسات الحكومية و الشركات الخاصة و التي تقوم بعملية الإنتاج لكل مصادر الحياة السابق ذكرها، و يحتاج هذا الإنتاج إلى أن يلقى طريقه إلى قبول المستهلكين أولا ً فإلى بيوتهم كنتيجة نهائية لرحلة المُنتج. و هذا القبول يستدعي عملية تسويق تستفز الحاجة الكامنة في الكائن البشري للحصول على انتباهه أولا ً ثم عرض ميزات المنتج و قدراته و إمكانياته ثم الربط بين الحاجة عند الشخص و إمكانية المنتج التي ستتكفل بها.

إن ازدياد الأعداد البشرية و حاجتها للحياة و الاستهلاك مع ازدياد الخيارات والمنتجات يدفع بالعملية التسويقية إلى مستوى تنافسي أعلى من المستوى المعقول أو المُعتدل، إلى المبالغة في عرض الحاجة بما يضخمها و يعرضها بشكل أكبر بكثير مما هي عليه، ثم المبالغة بعرض المنفعة المردودة من المنتج و الدفع بالمستهلك عن قصد إلى الوصول إلى مرحلة إدمان هذا المنتج و احتلاله لمساحة عقلية حاضرة دوما ً في البال تستدعي إشباعها بالاستهلاك، بشكل يتجلى بجمل مثل "أطلب أكثر أكيد في أكثر" أو "سعادة دائمة ً أو "عيش حياتك" أو "لا توقف" أو "مين قدك" و ما إلى ذلك من شعارات مشروعة تكفي نظرة واقعية إليها لتعلم علم اليقين أن المنتج لا علاقة له من قريب أو بعيد بتحقيقها حسب ما يدعي أو حسب ما يُدغدع وعيك لتُصدقه.

يبرز تفوق الآلة التسويقية و سطوتها على الوعي و الشعور في قدرتها على تسويق منتجات لا يحتاجها المرء أصلا ً و يعيش بدونها بسعادة أكثر و صلة إنسانية أعظم، لكنه يختارها طوعا ً و يسعد بها و يغير نمط حياته على ضوئها، و يعيد تعريف علاقاته مع محيطه بواسطة تبعات استخدامها. و كمثال على هذا النوع من التسويق نجاح شركتي Apple و Samsung في تسويق هواتفها الذكية و التي هي في الحقيقة كماليات للكبار و الصغار لا يحتاجونها في شئ إلى أنها قد أصبحت المُسيطر الأول و الراسم الأول لشكل حياة من يقتنونها من مستهلكين.

إن بروز هذا المستوى من الاستهلاك و التسويق إلى واجهة الحياة البشرية هو بلا شك على حساب انسحاب العلاقات الإنسانية و شبكة الاعتمادية البشرية إلى الخلفية بحيث تفقد بريقها و قوتها و الإحساس بحاجتها أمام منتجات هي في الحقيقة تقدم استقلالية ميتة باردة لا طعم لها لكنها مريحة و تُعفي من عناء الاحتكاك بكائن بشري آخر تحتاج أن تتعامل مع عقله و جسده و كلماته و أنفاسه في عملية متكاملة تغنيك عنها تلك المنتجات و تبرع الآلة التسويقية في تخدير فطرتك البشرية و ضميرك عن تبيان حقيقية قتلك لكل فرصة رائعة للتفاعل مع نظيرك البشري مع ازدياد اعتماديتك على ما هو بين يديك.

في وقت يتجه فيه البشر نحو التطرف في الاستهلاك، التطرف في رفض الآخر، التطرف في الاستكانة إلى لذة القناعات التي يملكونها، التطرف في الانعزال عن المحيط، التطرف في النظرة إلى الآخر بالشك، تدعم الآلة التسويقية كل ما من شأنه تحقير إنسانيتنا.

الحقيقة نحن بحاجة إلى جرعات اعتدال لا نجدها، و دعوات تفاعل إنساني لا نحصل عليها، و مناسبات بشرية خالية-إلكترونيا ً و هي معدومة. نحن بحاجة إلى بعضنا البعض، و عندها سندرك أن حلقة الاستهلاك و التسويق ما هي إلا الخدعة الكبرى و الطامَّة العُظمى و الفخ المحبوك بعناية شديدة ليخنق كل ذرة من إنسانية بقيت لدينا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رئيس الحكومة البريطانية كير ستارمر ينهي خطة ترحيل اللاجئين ?


.. شاهد| نقل نساء وأطفال أصيبوا في قصف إحدى مدارس الأونروا وسط




.. صعود اليمين في الانتخابات العامة يثير قلق المهاجرين في فرنسا


.. عبور الصحراء أخطر على المهاجرين من عبور البحر




.. كير ستارمر ينهي خطة ترحيل اللاجئين من بريطانيا إلى رواندا