الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التأريخ الأنثروبولوجي الديني في روايات نجيب محفوظ – الثلاثية، ملحمة الحرافيش كنماذج (1 من 2)

نضال الربضي

2013 / 10 / 8
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


التأريخ الأنثروبولوجي الديني في روايات نجيب محفوظ – الثلاثية، ملحمة الحرافيش كنماذج (1 من 2)

أرى أن نجيب محفوظ هو عملاق الأدب العربي بدون منازع، قامة ٌ مصرية فريدة جدا ً يندر أن يجتمع في غيرها ما اجتمع فيها من عناصر الكتابة، فقد تميز بالقدرة على السرد المُرسل المُتشابك في آن ٍ معا ً ، بتصوير الحدث ووصفه مُستدعيا ً الكلمات الدقيقة المُعبرة و كأنه يصف وصفا ً علميا ً في نفس الوقت الذي تتميز الكلمات فيه بطابعها الأدبي الشعوري، يجمع العقل و القلب َ في ذات البوتقه، تترابط الأحداث لديه بدون انفصال، مع قدرته على تناول موضوعات مختلفة و شخصيات كثيرة في نفس الرواية و توحيدها في نفس المحتوى لتخدم هدفا ً أو أهدافا ً مُتعددة بطريقة فريدة تحس ُّ فيها بفردية كل شخصية أو موضوع و باتحادها جميعا ً في سياق ٍ جامع، و كأن لشخصياته طبيعتين متحدتين غير منفصلتين هما الطبيعة الفردية و الطبيعة الجامعة.

غير أني أنجذب إليه ِ بشكل خاص لقدرته ِ على فهم النفس البشرية فهما ً تاما ً و سبر ِ أغوارها و الإلمام الفريد ِ بتناقُضاتها و نقاط ِ ضعفها على اختلاف درجات الضعف، و مواطن القوة، و بواعث ِ الفعل و مُستثيراته و نوازع ردوده، و لـِلمـَلكة المُتقنة ِ التنفيذ في إخراج هذه القدرة إلى وصف ٍ دقيق ٍ لكل هذه العوامل البشرية و الإنسانية الداخلية و صياغتها بشكل أحداث و تبيان تأثيرات الشخصيات على الأحداث و تأثيرات الأحداث عليها و نتائج تفاعلاتها و استحقاقات هذه النتائج و سوقها جميعا ً نحو إظهار الغاية ِ منها بطريقة مُستترة داخل النص نفسه تنفتح ُ أمام مُراقبي علم النفس و التأريخ و الأنثروبولجيا الدينية بشكل أوسع من غيرهم و الذين يستطيعون أن يجدوا فيها اختصارا ً لتاريخ الإنسان على هذه الأرض و بفهم أعمق من فهم القارئ الذي يبحث عن مجرد رواية للقراءة.

في ثلاثيته الشهيرة: بين القصرين، السكرية، قصر الشوق، يتناول نجيب محفوظ المجتمع المصري في فترة الحكم الملكي و الانتداب الانجليزي و الحرب العالمية الثانية، و تنطلق الرواية في ثلاثيتها من السيد "أحمد عبد الجواد" و هو الاسم الذي يصف الشخصية وصفا ً تاما ً فهو الأحمد الجواد رجل الصلاة الذي لا يضيع الفرض و التاجر مبسوط الكف الساعي وراء اللهو، هذه الشخصية المُتناقضة في داخلها و المُختبئة وراء قناع الصرامة و التجهم في بيتها، هذا القناع الذي تخلعه بمجرد التحاقها بالناس و الأصحاب و العشيقات.

عائلة السيد أحمد عبد الجواد مليئة بالتناقضات هي الأخرى: "أمينة" الزوجة قوية العزيمة و الإرادة في تدبير أمور بيتها و تربيتها الطيبة لكن المحافظة لأبنائها تتميز بضعف شديد في الإرادة أمام زوجها، و خديجة البنت الكبرى ذات الشخصية المستنمرة على كل من في البيت لا يوازي قوتها في الشخصية سوى قبح وجهها الذي يشكل لديها نقطة ضعف ٍ كبيرة هي الأخرى، أما عائشة البنت الصغرى فجميلة ٌ كلعبة باربي لكن نفسها أضعف ُ جدا ً من خديجة و حساسة إلى درجة الانسحاق، بينما فهمي المثقف وجه العائلة الشبابي المتزن يتناقض مع أخيه الأكبر ياسين الذي هو وجه التهور و الانغماس في الشهوات، و كأن الولدين هما تمثيل ٌ للأب، لكن كل واحد منهما تمثيل لإحدى تناقضاته، الأكبر لاهيا ً و الأصغر جادا ً، أما كمال أصغر الإخوان فسينقلب ُ عندما يكبر الفيلسوف المتأمل المراقب للحياة الجامع هو نفسه لكل تناقضاتها.

من العائلة الواحدة تتفرع العائلات مع السرد الثلاثي، لتتزوج البنات و يُقتل فهمي في مظاهرة ٍ سلمية مُنددة بالانتداب البريطاني، و يشيخ الأب و الأم و يبدأ الجيل الجديد في رواية الحدث، فها هي عائشة الصغيرة تقسو عليها الحياة لتختطف زوجها وولديها، فتنقلب الجميلة ُ الفاتنة كُتلة ً مليئة ً بالألم خالية ً من الحياة التي أعطتها الجمال ثم سرقت منها كل شئ ٍ آخر عقابا ً غير مفهوم، بينما اختها خديجة المتزوجة من أخي زوج عائشة ينشأ ولداها و يكبرا إلى الشباب، فتكون الحياة قد حرمتها جمال الوجه و عوضتها بفتوة أبنيها الذين هما أيضا ً رمز المتناقضات في النفس الواحدة و العائلة و المجتمع بين عبد المنعم الإخواني المتشدد و أحمد الشيوعي الملحد.

و على اختلاف الأحداث و تشعبها لوصف الوضع في المجتمع المصري وصفا ً تاما ً لائقا ً بتلك الفترة التاريخية تتكلل السخرية الكبرى و الواقعية الأعظم في زج الأخوين عبد المنعم و أحمد في نفس السجن، و يصور نجيب محفوظ هذا التناقض الصارخ في قول عبد المنعم "أُيلقى بي في السجن لأني أعبد الله؟" فيرد عليه أخوه "و ما ذنبي أنا الذي لا أعبده؟"، لكن نجيب محفوظ هذا العقل الحاذق المُلم َّ بأدق ما في النفس البشرية ينتقل بنا في السرد إلى النهاية حيث يتفق الأخوان المتناقضان و الذان يمثلان الإنسان الواحد الأول بكل ما فيه، على مفهوم الحياة الذي هو ثورة أبدية، فيكون آخر الصفحات مُلخصا ً لكل التأريخ البشري منذ بدايته، فالأخوان يُقران بقانون الإيمان الذي يحكمهما و يحكم البشرية و الإنسانية جمعاء، و يعبران عنه بهذه الكلمات على لسان أحدهما:

"إني أؤمن بالحياة و الناس و أجد نفسي مُلزما ً باتباع مثلهم العليا ما دمت أعتقد أنها حق إذ النكوص عن ذلك جبن ٌ و هروب، كما أرى نفسي ملزما ً بالثورة على مثلهم ما اعتقدت أنها باطل، إذ النكوص عن ذلك خيانة"








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قوات الاحتلال تمنع أطفالا من الدخول إلى المسجد الأقصى


.. رئاسيات إيران 2024 | مسعود بزشكيان رئيساً للجمهورية الإسلامي




.. 164-An-Nisa


.. العراقيّ يتبغدد حين يكون بابلياً .. ويكون جبّاراً حين يصبح آ




.. بالحبر الجديد | مسعود بزشكيان رئيساً للجمهورية الإسلامية الإ