الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-المادية-.. هذا هو معناها!

جواد البشيتي

2013 / 10 / 10
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


جواد البشيتي
لا أخشى على "المكانة الشعبية" لـ "المادية" إلاَّ من بعض الماديين الذين يفهمون "مادية الوجود"، في سطحية وسذاجة، فيعود "سوء فهمهم" هذا بالنفع والفائدة على الدِّين، وعلى المثالية على وجه العموم.
السيد حسن مي النوراني دافع وحامى عن "المادية" ضدَّ فكرة مقالتي ("تجاربهم العلمية" لدحض "المادية"!) زاعِماً (إنْ لم يكن قد فَهِم فكرتي على هذا النحو) أنَّني أُنادي بفكرة "ثنائية الوجود"، التي اعْتدَّها من صُلْب الفكر الديني. وقال إنَّ الوجود واحد (أحد) لا يقبل القسمة إلى "مادة" و"عقل"؛ وكأنَّه أراد أنْ يقول إنَّ الوجود إمَّا أنْ يكون من مادة خالصة، وإمَّا أنْ يكون من عقل (أو فكر) خالص (وهو يؤمِن بالمادية الخالصة للوجود).
أنْ يكون الفكر انعكاساً للمادة (للعالم المادي الواحد الأحد) فهذا إنَّما يؤكِّد ولا ينفي مادية الوجود؛ لكنَّ هذا الذي أقوله، وأقول به، لا يعني إنكار وجود الفكر، أو إنكار ماهيته اللامادية؛ فالفكر موجود (وجوداً لا ريب فيه) وماهيتة ليست مادية؛ فهو ليس بمادة؛ لكنَّه لا يُوْجِد، وليس ممكناً أنْ يُوْجَد، مستقلاً (منفصلاً) عن العالم المادي؛ ولقد وُجِد بَعْد (لا قَبْل) وجود الإنسان (بدماغه الذي هو مادة في الدرجة العليا من تطوُّر المادة) الذي يعيش ويعمل ضِمْن مجتمعه، والذي أنشأ وطوَّر لغة.
وفي "المعسكر الآخر"، يقول الأستاذ أبو بدر الراوي إنَّ النقطة مدار الخلاف تكمن في إجابة السؤال الآتي: "هل العقل (غير المادي) من إنتاج المادة؟"؛ وإنَّه، في الوقت نفسه، يقيم برزخ بين العقل والإرادة وبين المخ، معتقِداً بوجود شيء لا مادي يُحرِّك العقل والإرادة، ويتحكَّم فيهما؛ فالمخ لا شأن له في ذلك. ويَنْظُر إلى العقل على أنَّه "سجين المادة (أيْ سجين جسم الإنسان)"، يتحرَّر منها عند موت الإنسان؛ وعند تحرُّره يُبْصِر كل ما لا ينتمي إلى العالم المادي؛ والقرآن هو مرجعيته في كل ما ذهب إليه.
إنَّني أَزْعُم أنَّني أفهم "المعاني الفلسفية" لـ "الآيات الكونية (القرآنية)" جيِّداً؛ وإنَّني لأفهمها فَهْماً موضوعياً، لا أثر فيه للعبة التدليس اللغوي التي أَدْمَن الدكتور زغلول النجار، وأشباهه، لعبها.
وانسجاماً مع فهمي هذا أقول إنَّ فكرة "الخلق من العدم"، أيْ خلق الله للمادة (أو للكون) من العدم، لا وجود لها في القرآن؛ فـ "ثنائية الوجود" هي الفكرة الفلسفية الجوهرية لـ "الآيات الكونية (أو الكوزمولوجية) القرآنية". في القرآن لا وجود لمفهوم "المادة"، أو "الكون"؛ فـ "العالَم القرآني" إنَّما هو "السموات والأرض وما بينهما".
والخلق في القرآن لا يتعدَّى فِعْل "الفَتْق"؛ فلمَّا بدأ الله الخلق (في ستة أيام) كانت السماء والأرض "رَتْقاً (أيْ كانتا ملتصقتين، ملتزقتين)"، فـ "فتقهما (أيْ فصلهما)"؛ فخلق الله للعالَم (في صورته القرآنية) لم يبدأ من "العدم".
حتى قبل الخلق، رَأَيْنا "الثنائية"؛ فالله كان، وكان "عرشه على الماء". المبتدأ إنَّما كان "وجود الله، مع عرشه، الذي كان على الماء"؛ أمَّا الخلق نفسه فكان فِعْل "فَتْق (فَصْلٍ)" لشيئين موجودين مِنْ قَبْل؛ لشيئين لم يُخْلَقا من العدم، وهما "السماء" و"الأرض".
الأستاذ الراوي، إذا كان الله نفسه لم يخلق العالم من العدم، فَلِمَ تَسْتَكْثِر على الطبيعة أنْ تُنْتِج (في الدرجة العليا من تطوُّرها) مادة تَعْقِل وتُفكِّر، هي الدماغ البشري الحي؟!
ولا أَعْرِفْ السبب الذي يَحْمِلكَ على إنكار "إنتاج المادة للعقل (من طريق إنتاجها الدماغ)"؟!
إنَّ المادة التي تَعْرف من القوانين والقوى الفيزيائية ما يسمح لمادة الكون كله بشغل حيِّز (ليس بالحيِّز) أصغر بملايين المرَّات من جسيم الإلكترون (Singularity) لن تَجِدَ ما يُعْجِزها عن إنتاج "مادة خاصة" تَعْقِل وتُفكِّر، أيْ "تستطيع التفكير".
المادة لا تأتي إلاَّ من مادة، ولا تزول إلاَّ بمعنى تحوُّلها إلى مادة أخرى؛ وهي لا تُنْتِج عقلاً وفكراً وأفكار؛ إنَّها تُنْتِج، فحسب، "مادة يمكنها التفكير"، هي الدماغ.
و"المادة الخاصة التي يمكنها التفكير" ليست حجراً (ولا تُراباً، ولا معدناً) حتى يتساءل بعض الناس في دهشة واستغراب قائلاً: "وهل للحجر أنْ يُفكِّر؟!".
ونحن لو أمعنا النَّظر في خصائص كل مُركَّب لوجدنا أنَّ هوَّة سحيقة تفصل بينها وبين خصائص كل مُكوِّن من مُكوِّناته؛ فالماء الذي يطفئ النار يتكوَّن من غازين (أوكسجين وهيدروجين) فابلين للاشتعال!
و"المادة المفكِّرة (أيْ الدماغ)" تتكوَّن من عناصر (كالكربون) لا تمت بصلة إلى "خاصية التفكير"؛ لا بَلْ لا تمت بصلة إلى الحياة!
إنَّ الفكر (أو الصور الذهنية المختلفة الموجودة في رأس الإنسان) لا وجود له إلاَّ بصفة كونه انعكاساً للواقع الموضوعي (أيْ للعالم المادي). أُنْظُر في مرآة فترى صورتك؛ وهذه الصورة إنَّما هي انعكاس جسمكَ في المرآة. هل يُوْجَد جسمكَ نفسه في المرآة؟ كلاَّ، لا يُوْجَد.
انعكاس جسمكَ في المرآة إنَّما هو نفسه صورتكَ في المرآة؛ فهل هذه الصورة تُوْجَد في المرآة؟ كلاَّ، لا تُوْجَد؛ فإذا لم تُصدِّق كسِّر المرآة وابحث عن صورتكَ فيها.
إنَّكَ قد ترى في المرآة صور أشياء كثيرة؛ لكنْ اعِلَمْ أنَّ المرآة لا تُريكَ، ولا يمكنها أنْ تُريكَ، إلاَّ ما تُريها؛ والدماغ هو أيضاً لا يعرف من الصور الذهنية التي ما لها أصول أو مكونات في الواقع الموضوعي.
كم مرَّة رَأَيْتَ في منامكَ أنَّ المصعد يهوي بكَ؟
وبعد أنْ تجيب عن هذا السؤال (عديم الأهمية) أدعوكَ إلى أنْ تجيب عن السؤال الآتي: لِمَ الإنسان القديم (قبل آلاف السنين) لم يَرَ في منامه "مصعداً" يهوي به؟
لقد اجتهد ماركس كثراً في إثبات أنَّ التاريخ لا يمكن أنْ يُفَسَّر ويُفْهَم، وعلى خير وجه، إلاَّ بـ "المادية (لا المثالية)"؛ ولقد شاعت وانتشرت، من ثمَّ، عبارة، أو مقولة، "التفسير، أو الفَهْم، المادي للتاريخ"؛ فكيف لنا أنْ نَفْهَم، ونُحْسِن فَهْم، بعض معاني هذه العبارة، أو المقولة؟
أوَّلاً، لا بدَّ لنا من مثالٍ بسيط نَقِفُ من خلاله على الفَرْق الجوهري بين "المادي" و"المثالي" في حياتنا.
أُنْظُرْ إلى هذه الشجرة؛ ثمَّ أغْمِض عينيكَ؛ فهل ترى شيئاً الآن؟
إنَّكَ وأنتَ مُغْمِض عينيكَ لا ترى الشجرة نفسها؛ لكنَّكَ تستطيع أنْ "ترى" صورة هذه الشجرة؛ فثمَّة "صورة ذهنية" في رأسكَ الآن؛ وأنتَ ترى "الصورة الذهنية للشجرة" بما يشبه "العين الثالثة"، والتي هي كناية عن "قوى ذهنية (الذَّاكرة البصرية)".
هل هذه الصورة الذهنية" موجودة؟
إنَّكَ لا تستطيع أنْ تكون "مادياً حقيقياً" إذا ما أنكرت، أو نفيت، "وجود" هذه الصورة الذهنية؛ فهي "موجودة"؛ لكن، أين هي "موجودة"؟
إنَّها "موجودة" فحسب في "ذهنكَ (في وعيكَ)"، الذي ليس بشيء "مادي"، وإنَّ كان "الدماغ" الذي هو "وعاء وعيكَ"، و"عضو التفكير" لديكَ، شيئاً مادياً.
هذه "الصورة الذهنية"، ومهما كانت واضحة جلية، فإنَّها لا تشتمل، ولا يُمكنها أبداً أنْ تشتمل، على كل تفاصيل "الأصل"، أيْ "الشجرة الواقعية (التي تراها بعينيكَ)". ومع مرور الوقت تختفي وتتلاشى تفاصيل كثيرة من هذه "الصورة الذهنية".
"المادي"، في هذا المثال، هو "الشجرة (الواقعية)"، والتي هي "الأصل" لجهة صلتها بـ "الصورة"؛ أمَّا "المثالي" فهو "الصورة الذهنية للشجرة"، والتي تراها وأنتَ مُغْمِض عينيكَ.
والإنسان "المادي (في تفكيره)" يُقِرُّ ويعترف بـ "وجود" الصورة الذهنية للشجرة، وليس بوجود الشجرة فحسب؛ لكنَّه يرى، ويُحْسِن روية، الفروق الجوهرية بينهما.
إنَّه يرى أنَّ الشجرة نفسها موجودة، أوَّلاً، "في خارج" وعيه؛ فإنَّ وجود صورة للشجرة في الرأس لا يعني وجود الشجرة نفسها في الرأس.
ويرى، أيضاً، أنَّ الشجرة نفسها "مستقلة" في وجودها عن "صورتها الذهنية"؛ فلو كانت الشجرة هي شجرة تُفَّاح، ولو أردتَ أنتَ أنْ تُغيِّر (بالخيال) صورتها الذهنية (الموجودة في وعيكَ) فتجعلها، مثلاً، شجرة برتقال، فإنَّ "الشجرة الواقعية"، والتي هي شجرة تُفَّاح، لن تتأثَّر أبداً بهذا التغيير.
من أين جاءت (إلى دماغك) هذه الصورة الذهنية؟
لقد جاءت من شجرة (تُفَّاح) موجودة في "خارج وعيكَ"، و"في استقلال عنه"؛ فإنَّ دماغكَ، ولو كان بوزن دماغ آينشتاين، لن يستطيع أبداً أنْ يُنْتِج "صُوَراً ذهنية (أو أفكاراً)" لا وجود لها (ومن قَبْل) في الواقع (الموضوعي).
لا تَقُلْ إنَّكَ بـ "الخيال" تستطيع خَلْق "صُوَر ذهنية" تَشُذُّ عن هذا المبدأ المادي العظيم؛ فإذا لم يكن للصورة الذهنية من "أصلٍ" في الواقع (الموضوعي) فلا بدَّ لـ "عناصرها (ومكوِّناتها؛ لـ "أحرفها"، و"مفرداتها")" من أنْ تكون موجودة في الواقع.
هل من وجود في الواقع (الموضوعي) لشجرة تُفَّاح، بعض تُفَّاحها من ذَهَب، وبعضه من فِضَّة؟
كلاَّ، لا وجود لها؛ لكنْ أليس "الذَّهَب" و"الفِضَّة" من الأشياء الموجودة في الواقع (الموضوعي)؟!
إنَّكَ، ومهما أفْرَطتَّ وتطرَّفْتَ في الخيال لن تتمكَّن أبداً من أنْ تُنْتِج "صورة ذهنية" لا وجود لـ "عناصرها" في الواقع (الموضوعي).
إنَّ في الواقع (الموضوعي) أشياء لا عدَّ لها ولا حَصْر لم تَظْهَر (بَعْد، أو لن تَظْهَر أبداً) في دماغكَ على هيئة "صُوَر ذهنية"؛ لكنْ ما من "صورة ذهنية" في دماغكَ إلاَّ ولها "أصل"، أو "عناصر"، في الواقع (الموضوعي).
"المادي" يتحدَّى "المثالي" قائلاً له: أعْطِني ولو صورة ذهنية واحدة (ولو فكرة الله نفسها) تَشُذُّ عن هذا المبدأ المادي العظيم!
إذا أنتَ غَيَّرْتَ (بالخيال) الصورة الذهنية لشجرة التُّفاح، والموجودة في وعيكَ، فإنَّ هذا التغيير لن يؤثِّر أبداً بالشجرة نفسها؛ لكنَّ تَغيُّر الشجرة نفسها يمكن ويجب أنْ يُغيِّر صورتها الذهنية التي في رأسكَ.
"الشجرة نفسها" هي، بلغة الفلسفة، "الموضوع"؛ و"صورتها الذهنية" هي "الذَّات"؛ فكيف يمكننا، وينبغي لنا، أنْ نَفْهَم مادياً الصِّلة بين "الموضوع" و"الذَّات"؟
"الشجرة الواقعية" هي "الأصل"، وهي "الأقدم وجوداً" من "صورتها الذهنية"؛ وإنَّها موجودة "في خارج" الوعي، وفي "استقلال عنه"؛ و"صورتها الذهنية"، مهما كانت دقيقة ومُفصَّلة، فإنَّها لا تشتمل، ولا يمكنها أبداً أنْ تشتمل، على كل تفاصيل الأصل (الظاهر منها وغير الظاهر).
الآنْ، تَمْلُكُ أنتَ في وعيكَ "صورة (ذهنية، مثالية) للشجرة"؛ فهل لكَ أنْ تؤثِّر تأثيراً واقعياً، مادياً، بالشجرة نفسها؟
في مثالٍ مشتق من المثال الأوَّل، نَفْتَرِض أنَّكَ أمْسَكْتَ ببلطة، وضَرَبْتَ بها الشجرة، حتى قَطَعْتَها.
كيف يَفْهَم "الإنسان المثالي (أيْ الذي يُفكِّر في طريقة مثالية لا مادية)" هذا الأمر؟
إنَّه يقول، في فَهْمِه له، "لقد أردتُ قَطْع الشجرة، فقُطِعَت"؛ فـ "الإرادة (وهي قوَّة مثالية) أوَّلاً، ومبتدأً".
لقد "فَكَّر" في الأمر، و"تخيَّله"؛ ثمَّ "أراده"؛ فـ "حَدَثَ هذا الحادث (أيْ قَطْع الشجرة)".
ومن ذلك يَسْتَنْتِج هذا "المثالي" أنَّ "الوعي (التفكير والفكرة والتخيُّل والإرادة..)" هو الأوَّل، والأسبق؛ وهو الذي يَخْلق "الواقع" و"الأشياء".
لو سألْتَه عن هذا المنزل المُشيَّد لأجابكَ على البديهة قائلاً إنَّ هذا المنزل، وقَبْل أنْ يُخْلَق، كان "فكرة" في رأس المهندس؛ والدليل على ذلك أنَّ المهندس "تصوَّره" أوَّلاً، أيْ قبل أنْ يغدو واقعاً.
وبعد "التصوُّر"، جاءت "الإرادة"؛ فـ "خالِق" المنزل يجب أنْ "يريد" خَلْقه أوَّلاً.
ومن هذا الخلل في فَهْم الصِّلة بين "الموضوع" و"الذَّات"، "اكتشفوا" طريقة "خَلْق الكون"؛ فالكون قبل أنْ يُخْلَق، ويغدو واقعاً، كان "فكرة" في وعي كائن (غير بشري) هو الله؛ وهذا الكائن "أراد"، فكان له ما أراد، و"وُجِد الكون".
لنتوسَّع أكثر في "القصة"، قصة خَلْق منزلٍ.
افْتَرِض أنَّكَ "خَلَقْتَ" منزلاً من طين، وكُنْتَ الأوَّل في "خَلْقِه".
"فكرة" هذا المنزل وُجِدت أوَّلاً في رأسكَ، أيْ في وعيكَ؛ فأنتَ تصوَّرتَ، وتخيَّلْتَ، المنزل قبل وجوده.
لكنْ، من أين أتت هذه "الفكرة" إلى رأسك؟
وأين هو "أصلها" في الواقع الموضوعي؟
إنَّ "المغارة (أو الكهف)"، أو ما يشبهها من الأشياء الموجودة في الواقع، هي "الأصل" و"المَصْدَر"؛ فـ "المغارة" هي التي أنْتَجَت في رأسكَ، أو في وعيكَ، أوَّل، وأقدم، "صورة ذهنية للمنزل".
وها أنتَ الآن "تريد" "خَلْق" هذا المنزل، متوهِّماً أنَّ "إرادتكَ" هي التي لولاها لَمَا وُجِد هذا الشيء، المسمَّى "منزلاً"؛ وهذا وَهْمٌ مُتَفَرِّع من وَهْمٍ أكبر هو الكامِن في القول "كل شيءٍ رَهْنُ إرادة الإنسان".
أمْعِن النَّظر قليلاً في "إرادتك (الحُرَّة)" هذه، فماذا تَجِد؟
أوَّلاً، ثمَّة "ما دَفَعَك إلى" التفكير في بناء المنزل؛ وهذا "الدافِع (أو الحافِز)"، الذي ربَّما لا تعيه، هو "دافع موضوعي"، من طبيعة مادية صَرْف؛ فالمنزل إنَّما تبتنيه اتِّقاءً لشرِّ البَرْد أو الحَرِّ..
وهذه "الأسباب"، أيْ الأشياء التي تريد اتِّقاء شَرِّها، والتي تَظْهَر في رأسكَ على شكل "دوافع"، ليست وليدة إرادتك، ولم تُوْجَد لرغبتكَ في وجودها، وما كان لها أنْ تَظْهَر في رأسكَ على شكل "دوافع" لو لم تكن أنتَ من طبيعة تَجْعَلَك تتأثَّر (على هذا النحو) بالبَرْد والحَرِّ..
لقد أردتَ "خَلْق" منزلٍ من "الطين"؛ فَلِمَ لم تُرِدْ (لو كنتَ موجوداً قبل آلاف السنين) خلقه من "إسْمَنْت مسلَّح"، أيْ من إسْمَنْت تتخلَّله قضبان من الحديد، أو شِباك معدنية؟
لأنَّ الحديد وقضبانه لم يكن جزءاً من "بيئتكَ الاصطناعية"، أيْ البيئة التي خلقها البشر بالعمل، أو من خلال تفاعلهم المادي مع البيئة الطبيعية.
إنَّه لأمْرٌ ليس بذي أهمية أنْ تقول إنَّ "الإرادة" تسبق "الفعل (والعمل)"؛ ولقد أوضحنا كيف، وبأيِّ معنى، يكون هذا السَّبْق.
"محتوى الإرادة"، لا "الإرادة نفسها"، هو الأمر الذي ينبغي له أنْ يستأثر باهتمامنا؛ فإنَّ "المحتوى الواقعي للإرادة"، أيْ "محتوى ما يريد الإنسان فعله"، يختلف باختلاف "الدوافع" و"الحوافز"، والتي فيها تَكْمن "الأسباب التاريخية (المادية الموضوعية)".
والأسئلة التي تتحدَّاك أنْ تجيب عنها إنَّما هي "لماذا تختلف إرادتي (في محتواها) عن إرادة غيري؟"؛ "في إرادتي تكمن حوافز ودوافع تختلف عن تلك التي تكمن في إرادة غيري؛ فَلِمَ هذا الاختلاف؟"؛ "لماذا تختلف الحوافز والدوافع حتى في الفرد الواحد؟"؛ و"لماذا تختلف من فرد إلى آخر، ومن جماعة إلى أخرى، ومن عصر إلى آخر، ومن مكان إلى آخر؟"؛ "لماذا لا يتماثل محتوى واتجاه الإرادة بين الأفراد جميعاً؟".
أُنْظُرْ في داخل رأسكَ، فترى أفكاراً وقيماً معيَّنة؛ فلماذا تملك هذه الأفكار والقيم من دون سواها؟
إنَّ لـ "الفكرة (الفلسفية أو الدينية أو السياسية..)" زمان ومكان ولادة؛ وعليكَ، من ثمَّ، أنْ تسأل "لماذا ظهرت هذه الفكرة الآن، وفي هذا المكان؟"؛ و"لماذا لم تظهر من قبل، أو في مكان آخر؟".
وعليكَ أنْ تسأل أيضاً "لماذا هذه الفكرة مفهومة ومقبولة الآن؟"؛ "لماذا سادت وانتشرت الآن؟"؛ "لماذا أصغى الناس إليها، وتجاوبوا معها، الآن؟".
إنَّ ثمَّة زمناً تُخْلَق فيه فكرة ما، وتلقى قبولاً؛ فالفكرة الصالحة لكل الأزمنة، ولكل الأمكنة، إنَّما هي فكرة لا تَصْلُح لأيِّ زمان، ولا لأيِّ مكان.
أنْظُرْ في "فكرة الرأسمالية (مثلاً)"، وفي "الأفكار الرأسمالية (أكانت اقتصادية أم سياسية)"؛ ثمَّ اسْألْ نفسكَ السؤال الآتي: "هل فكرة الرأسمالية، أو الأفكار الرأسمالية، هي التي خلقت الرأسمالية أمْ أنَّ الواقع الرأسمالي هو الذي خلق تلك الفكرة الرأسمالية، وهذه الأفكار؟".
إنَّ كل فكرة خلقها واقع؛ فابْحَثْ عنه، وجِدْهُ.
قُلْ لي ما هي "مصالحكَ وحاجاتكَ الواقعية الحقيقية الأساسية" حتى أتوقَّع وجهة نظركَ في أمْرٍ ما، وموقفكَ منه، وكيف تفهمه وتراه؛ ونحن نرى، وإنْ على وجه العموم، لا على وجه الإطلاق، أنَّ "طريقة التفكير"، و"الأفكار"، في شأنٍ، أو شيءٍ، ما تختلف بين الفقراء والأغنياء، بين ساكني الأكواخ وساكني القصور.
إنَّه بَذَخٌ ما بعده بَذَخ أنْ يتناول هذا الفقير الطعام في هذا المطعم؛ وهذا بَذَخٌ من وجهة نظره هو؛ وإنَّها لمأساة ما بعدها مأساة، ومذلَّةٌ ما بعدها مذلَّة، أنْ يتناول هذا الذي كان غنياً الطعام في المطعم نفسه؛ وهذا الشعور هو شعور غنيٍّ اضطَّره سوء حاله الاقتصادية إلى التقشُّف.
أُنْظُرْ إلى "الشيء نفسه"، وانظُرْ، في الوقت نفسه، إلى وجهتي نظر الغني والفقير فيه، فَتَقِف، عندئذٍ، على "السبب المادي" لهذا "الوعي"، ولهذا الاختلاف في الوعي.
البشر لا يختلفون، مجتمعاً وتاريخاً وحضارةً، في الشيء الذي يُنْتِجون؛ وإنَّما في "طريقة (أو كيفية) إنتاجهم له"؛ ففي كل العصور والأزمان والمجتمعات والحضارات أنتج البشر القمح مثلاً؛ ولكنَّ طريقة إنتاجهم له هي التي باختلافها جعلتهم يختلفون، مجتمعاً وتاريخاً وحضارةً.
من قبل، كان في مقدوركَ أنْ تُنْتِج شيئاً ما بأدوات تستطيع استعمالها بنفسك؛ فاتَّسم عملك بالطابع الفردي الشخصي؛ وكانت "المِلْكية الفردية الشخصية" لأدوات العمل، ونتاجه، هي شكل التملُّك الموافِق لهذه الأدوات.
الشيء، أو المنتوج، نفسه يُنْتَج الآن بجملة من الأدوات والآلات التي تُسمَّى مجتمعةً "المصنع"؛ فـ "المصنع" هو الآن أداة إنتاج الشيء نفسه، أيْ الشيء الذي كان يُنْتِجه، من قبل، شخص واحد؛ وإنَّ إنتاج الشيء نفسه في "المصنع"، أو به، هو الذي جعل هذا العمل يتَّسِم بـ "الطابع الجماعي".
ومن هذا المثال يثور السؤال الآتي: هل "إرادة" الإنسان، أو "رغبته في (أو رغبته عن)"، هي السبب في هذا الاختلاف؟
إنَّ أسوأ تفسير هو الذي يتضمَّنه قولٌ من قبيل "أراد الإنسان لعمله أنْ يكون فردي الطابع، فكان؛ ثمَّ أراد له أنْ يكون جماعي الطابع، فكان".
من قبل، كان أسرى الحرب يُقْتَلون؛ ثمَّ، وعلى ما يَزْعُم المؤرِّخون المثاليون، "تحسَّنت أخلاق" البشر، فكَفُّوا عن قتل الأسرى، وأخذوا يُشغِّلونهم في الزراعة مثلاً.
لقد فسَّروا هذا الاختلاف في الموقف من أسير الحرب تفسيراً مثالياً إذ أرجعوه إلى "سبب أخلاقي"؛ وكان "السبب الحقيقي" هو "الفائض الغذائي"؛ فبفضل تَحسُّن أدوات الإنتاج (لا أخلاق البشر) أصبح ممكناً أنْ يُنْتِج المزارِع ما يفيض، ولو قليلاً، عمَّا يَلْزَم لتلبية حاجته هو إلى الطعام.
ومع ظهور وتنامي هذا "الفائض" الغذائي أصبح أسير الحرب مُجْدياً اقتصادياً، وأصبحت الحرب نفسها، من ثمَّ، مُجْدية اقتصادياً.
بدايةً، خضع الإنسان خضوعاً تاماً لوسطه الطبيعي، أو بيئته الطبيعية؛ وبفضل "أدوات العمل" تفاعل الإنسان مع بيئته الطبيعية بما أفضى إلى نشوء (وتطوُّر) بيئته الاصطناعية، التي بفضلها أصبح تطوُّر الإنسان نفسه مستقلا (استقلالاً متزايداً) عن بيئته الطبيعية.
إنَّ وسط الإنسان الآن بعضه من الطبيعة، وبعضه مِمَّا أنْتَج وطوَّر من أشياء من طريق تفاعله (بأدوات ووسائل اخترعها وطوَّرها) مع الطبيعة.
الإنسان لا بدَّ له أوَّلاً من أنْ يتأثَّر بالوسط الطبيعي والاجتماعي؛ ولا بدَّ له، من ثمَّ، من أنْ يتوفَّر على تغيير هذا الوسط، فإذا غيَّره تغيَّر هو؛ فالإنسان يشرع يتغيَّر بالوسط الذي غيَّره من قبل.
و"البيئة الاصطناعية" التي يعيش فيها البشر هي التي بتبدُّلها وتطوُّرها نَقِف على عِلَّة التطوُّر الاجتماعي بأوجهه كافة؛ ولا ريب في أنَّ صلة، وخواص صلة، البشر بأدوات ووسائل العمل والإنتاج، وبنتاج العمل، هي التي فيها يكمن السبب التاريخي الأهم لتطورهم الاجتماعي، ولخواصه الجوهرية.
هل فكَّرتَ يوماً في أنْ تسأل نفسك السؤال الآتي: لماذا المرء يفشل في توقُّعه، أو يُصيب؟
لو تَعَمَّقْتَ في إجابتكَ لتوصَّلْت إلى أنْ السبب يكمن في "عدم توافُق" توقُّعكَ، أو في توافُقِه، مع "القوانين الموضوعية"، والتي هي قوانين لا تملكها، لا تخلقها، لا تُغيِّرها، لا تُعَدِّلها، ولا تقضي عليها؛ إنَّها قوانين تتحدَّاك أنْ تعرفها، وتعيها، وتكتشفها، وأنْ "تديرها"، أيْ أنْ تستخدمها بما يلبِّي لك حاجة، أو يُحقِّق لكَ هدفاً؛ وإنَّها قوانين تَدْعوكَ إلى أنْ تهيئ لها من الظروف البيئية ما يؤثِّر في عملها، إيجاباً أو سلباً، إسراعاً أو إبطاءً.
وبفضل وعي القوانين الموضوعية يمكننا التنبؤ (التوقُّع) والعمل (تغيير العالَم).
و"النجاح"، أو "الفشل"، في سعينا، وتوقُّعنا، إنَّما هو بحدِّ ذاته خير دليل على "موضوعية" واقعنا (الاجتماعي، والتاريخي، والطبيعي).
إنَّ "الواقع الموضوعي"، ومن غير أنْ نعي، يؤثِّر فينا، في عقولنا وأذهاننا؛ وهو في هذا إنَّما يشبه "عملية هضم الطعام"؛ فهضم الطعام في الجهاز الهضمي للإنسان هو عملية، لها قوانينها، التي هي، في وجودها وعملها، مستقلة عن وعي المرء لها؛ إنَّها، أي قوانين عملية الهضم، موجود قبل أنْ تعيها وتكتشفها؛ وتعمل في استمرار ولو لم تَعِها، ولم تكتشفها.
وينبغي لك وعيها واكتشافها إذا ما أردت استخدامها بما يعود عليك بالنفع والفائدة.
تأمَّل جيِّداً المعاني الكامنة في مثال "تحضير كوب من الشاي".
قد تقول إنَّكَ أردتَ تحضير كوبٍ من الشاي، أو رغبتَ في تحضيره، فكان لكَ ما أردتَ، وتحقَّق لكَ ما رغبتَ فيه.
لكن، هل لكَ أنْ تُحَضِّر كوباً من الشاي لو أنَّ مادة الشاي "رفضت" أنْ تتفاعل مع الماء المغلي على النحو المعتاد، أو لو أنَّ الماء نفسه "رفض" أنْ يغلي مهما سُخِّن؟!
إنَّ "قوانين موضوعية" هي التي أنْجحت سعيكَ لتحضير كوبٍ من الشاي إذ تَوافَق معها.
إذا أرَدْنا "النجاح" فلا بدَّ لنا من أنْ "نختار"، و"نقرِّر"، و"نريد"، بما يتَّفِق مع "الواقع الموضوعي"؛ ولن نحصل على أكثر مما يسمح لنا هذا الواقع بالحصول عليه.
وعندما "نفشل" ندرك، أيْ يجب أنْ ندرك، أنَّ السبب يكمن في تَعارُض ما اخترنا، وقرَّرنا، وأردنا، مع "الواقع الموضوعي".
ولقد عَرَف التاريخ نتائج لعمل البشر (أفراداً وجماعات) مختلفة تماماً عمَّا أرادوه، ورغبوا فيه، وسعوا إليه، وتوقَّعوه؛ وبعض هذه النتائج كان مناقضاً ومضاداً لِمَا أرادوه، ورغبوا فيه، وسعوا إليه، وتوقَّعوه؛ وكأنَّ رياح "الواقع الموضوعي" للمجتمعات تجري بما لا تشتهي سُفُن البشر (أيْ وعيهم، وتوقُّعهم، وإرادتهم).
وهذه النتائج، أو العواقب، إنَّما صنعتها "يد الواقع الموضوعي"، التي إنْ لم يَرَها البشر على حقيقتها قد يُسَمُّونها "يد القضاء والقدر".
هل الإنسان مسيَّر أم مخيَّر؟
هذا السؤال لم يأتِ من فراغ، بل ولَّدته حاجة الإنسان إلى معرفة واختبار "حدود الإرادة الحرَّة" لديه، فعجْز الإنسان، المُثْبَت والمؤكَّد، عن أن يكون حرَّاً في كل أفعاله وأعماله، أي عجزه عن أن يفعل كل ما يريد، وكل ما يرغب في فعله، هو الذي حمله على إثارة مسألة "التسيير والتخيير".
وأحسب أنَّ الفهم الخاطئ لمعنى "الحرِّية"، أو "حرِّية الإرادة الإنسانية"، قد خلق عقبات فكرية عديدة في طريق البحث عن جواب للسؤال، أو عن حل مرضٍ لهذه المشكلة التي ما زالت تؤرِّقنا منذ زمن طويل، والتي ما زالت تؤثِّر تأثيرا قويا وجليِّا حتى في حياتنا اليومية، فنحن ما أن تحل بنا مصيبة، كان ممكناً اجتنابها ودرأها، حتى نعزِّي أنفسنا بقول من قبيل "كانت قضاءً وقدراً".
"كل شيء مكتوب"، و"لا مهرب من المكتوب"، فسائق السيَّارة، في تهوُّر وطيش ونزق، صدم بسيَّارته طفلاً، فقتله؛ لكنه بدعوى أنَّ "كل شيء مكتوب"، وأنَّ الحادث من صنع "القضاء والقدر"، يفلت من العقوبة التي يستحق.
نحن "أحرار"، ونحن "مقيَّدون"، في الوقت نفسه؛ ولسوف نستمر في هذه الحال المتناقضة إلى الأبد، وليس من معنى للحرية، أي "حرِّية الإرادة الإنسانية"، إلا إذا فهمناها على أنَّها "ثمرة وعي الضرورة (الطبيعية والتاريخية)".
إنَّني أستطيع أن أفعل ما أريد، أي أن أكون حرَّاً في أفعالي وأعمالي، إذا ما أخذتُ بالأسباب، ووعيتُ "الضرورة (الطبيعية والتاريخية)" الكامنة في الفعل الذي أريد، فالفعل، في حياتنا الاجتماعية والتاريخية، نصفان: نصفه منِّي (من وعيي وإرادتي..) ونصفه من "الواقع وقوانينه الموضوعية"؛ وينبغي للنصف "الذاتي" أن يطابق ويوافق النصف "الموضوعي" وإلا ذَهَبَتْ التطورات بالتوقُّعات، وحبط سعينا.
ويكفي أن نستمسك بهذا الفهم حتى ننتقل إلى "السؤال السليم".. سؤال "كيف ندرأ عن أنفسنا هذه الكارثة المحدقة بنا؟"، فالتاريخ ليس بالشيء المصنوع سلفاً. إنَّه شيء قيْد الصنع.
لنتخيَّل أنَّ لدينا ذرَّات أُوكسجين "مفكِّرة"، وأنَّ ثلاثاً منها "أرادت" أن تتَّحِد لتؤلِّف، باتِّحادها، "جزيء ماء"، فهل تأتي "نتائج" فعلها متَّفِقة مع ما "أرادت"؟
الجواب هو: ستفشل، حتماً، في "فِعْلِ ما تريد"، فتكوين "جزيء الماء" يحتاج إلى ما هو أهم بكثير من "إرادتها".
إنَّه يحتاج إلى أن تتَّحِد كل ذرَّة من ذرَّات الأُوكسجين الثلاث مع ذرَّتي هيدروجين. أمَّا لو "أرادت" ذرَّات الأُوكسجين الثلاث أن تتَّحِد لتؤلِّف، باتِّحادها، غاز "الأُوزون" فسوف تأتي "نتائج" فعلها متَّفِقة تماماً مع ما "أرادت".
على هذا النحو فحسب يمكننا، وينبغي لنا، فهم "إرادة" الإنسان و"نتائج" الفعل الذي أراد، فـ "حرِّية الإرادة الإنسانية" لا تَظْهَر وتتأكَّد، ولا تقوم لها قائمة، إلا عندما تأتي "النتيجة"، أي "نتيجة الفعل الإنساني"، متَّفِقَة مع "التوقُّع"، أي عندما تأتي "نتيجة الفعل الذي أرَدَت" متَّفِقَة مع "ما أرَدَت".
عباس بن فرناس رغب في الطيران كالطيور وأراده، فحاوَل؛ لكنَّ محاولته باءت بالفشل، كما فشلت ذرَّات الأُوكسجين الثلاث "المفكِّرة" في أن تصنع، باتِّحادها، "جزيء ماء". ولم ينجح البشر حيث فشل عباس بن فرناس إلا عندما اكتشفوا القانون الطبيعي للطيران، فصنعوا، بما يتَّفق معه، وسائل الطيران.
"الحرِّية" هي أن "أفعل" ما "أُريد"، وأن يتمخَّض فعلي هذا عن "النتائج التي أُريد وأتوقَّع". قد أُريد، أو أَرْغب في، اجتياز هذا النهر؛ لكن هذا "العامل الذاتي" لا يكفي، وحده، لحل مشكلة "الحرِّية"، فما نيل المطالب بالتمني.
ينبغي لي أن أبدأ "الفعل"، وهو عبور النهر. قد أُريد، أو أرغب في، اجتيازه "مشياً على الأقدام"، فهل أنجح؟
كلاَّ، لن أنجح، فإذا أنا حاولت فسوف أَغرق. فشل هذه المحاولة سيقنعني بأنَّني لستُ "حرَّاً" بَعْد، فإرادة الإنسان وحدها لا تكفي لجعله قادراً على إنجاز مهمة ما، أو عمل ما، ولجعله، من ثمَّ، يشعر بأنَّه "حُرٌّ".
لاجتياز النهر، ينبغي لي (وعبارة "ينبغي لي" فيها معنى "الاضطرار" وليس فيها نزر من معنى "الاختيار") أن أتعلَّم السباحة، أو أن اتَّخِذَ شيئاً (جذع شجرة) وسيلةً لاجتياز النهر. وقد أصنع زورقاً من أجل ذلك.
ما معنى هذا؟
معناه أنَّ ثمَّة "قوانين"، لم أخلقها لا أنا ولا البشر، لا بدَّ لي، أوَّلاً، من اكتشافها ومعرفتها. وبَعْدَ "وعي" هذه "الضرورة الطبيعية" أبحث عن "الوسائل والطرائق"، التي تسمح لي بـ "السيطرة" على "القانون الطبيعي الموضوعي" في طريقة تمكِّنني من اجتياز النهر. وقد ابْتَكِر أو اخْتَرِع بعضاً من تلك الوسائل والطرائق.
قَبْلَ، ومن أجل، أن أكون "حرَّاً"، ينبغي لي أن "أعي (وأكتشف)" هذا "القانون الموضوعي"، وأن أعمل، من ثمَّ، بما يتَّفِق معه، فأنا "أَخضع له" قَبْلَ ومن أجل أن "أُخْضعه لي"، و"أُسيطر عليه". هذا "القانون" لم أخْلقهُ إذ اكتشفته، ولن ألغيه إذ تحكَّمتُ فيه وسيطرتُ عليه.
الآن، والآن فحسب، أستطيع أن "أفعل ما أُريد"، أي أستطيع أن أكون حرَّاً في هذا المعنى فحسب، وفي هذه الناحية فحسب. إنَّ "القانون الطبيعي" يشبه وحشاً مفترساً، فإمَّا أن يفترسكَ وإمَّا أن تروِّضه؛ وغني عن البيان أنَّ ترويضه لا يعني قتله.
"فيضان النهر" كان، قديماً، من الوحوش المفترسة، فلم ينجح البشر في ترويض هذا الوحش؛ لأنَّهم لم يعرفوا الطريق القويم إلى ترويضه، فتوهموا أَنَّهم يستطيعون ذلك بـ "قوَّة" بعض "المعتقدات الدينية". وقد ظلَّوا عبيداً للنهر وفيضانه، يَحوِّلون عجزهم عن فهم الفيضان والسيطرة عليه إلى مزيدٍ من الاعتقاد بالمعجزات، حتى "وعوا" هذه "الضرورة الطبيعية"، وعرفوا كيف يسخِّرونها لهم من خلال بناء "السدود".
"القانون الطبيعي الموضوعي" نراه، دائماً، في "نتائج" كل فعل إنساني، أكانت هذه النتائج تنطوي على معنى"النجاح" أم على معنى "الفشل"، فـ "النجاح" هو أن تأتي "النتيجة" متَّفِقة مع "التوقُّع". وحتى تأتي "النتيجة" متَّفِقة مع "التوقُّع" لا بدَّ لـ "الفكرة" من أن تُوافِق "الواقع الموضوعي". وهذا التوافق يَظْهَر ويتأكَّد في حال واحدة فحسب هي أن تأتي "النتيجة" متَّفِقة مع "التوقُّع".
أمَّا "الفشل" فمعناه أنْ تذهب "النتيجة" بـ "التوقُّع". على أنَّ هذه "النتيجة السلبية"، أي النتيجة التي رأَيْنا فيها معنى "الفشل"، لم تَظْهَر عرضاً أو مصادفةً، فـ "الضرورة الطبيعية (أو القانون الطبيعي الموضوعي)" هي التي جاءت بها، فهذه الضرورة كامنة في كل أفعالنا، وفي كل ما يتمخَّض عن أفعالنا من نتائج، أكانت هذه النتائج "نجاحاً" أم "فشلاً" بمعيار "التوقُّع".
من يَعْلَم "القانون الموضوعي" ويعمل بمقتضاه ينجح، أي يتوصَّل إلى "نتائج" تُوافِق "توقُّعه". ومن يجهل هذا القانون (ولا يعمل، من ثمَّ، بمقتضاه) يفشل، أي يأتي عمله بـ "نتائج" تذهب بـ "توقُّعه".
وهنا يكمن الفرق الجوهري بين "الحرِّية" و"العبودية"، بين "التخيير" و"التسيير". و"الحرِّية"، كما "المعرفة"، هي "سلَّم" يصعده الإنسان (البشر) درجة درجة، ولن يصل أبداً إلى نهايته (درجته العليا) لأن لا نهاية له.
والإنسان، الذي لا يُوْلَدُ حرَّاً على غير ما يتوهَّم كثيرون، لن يملكَ من "الحرِّية"، و"المعرفة"، أكثر مِمَّا ورثَ وأنْتَجَ، ولسوف يظل في صعود أبدي لا نهاية له من "العبودية" إلى "الحرِّية"، ومن "الجهل" إلى "المعرفة". هذا الإنسان الذي خرجَ توَّاً من رحم أُمِّه إنَّما هو "العبودية القصوى" و"الجهل الأقصى".
"الضرورة" تكمن في كل الأشياء والظواهر التي "نراها"، فما نشأ، أو ظَهَرَ، إنَّما هو ما اجتمعت "أسباب" وجوده، فوُجِدَ. أي شيء لا بدَّ له من أن ينشأ ويَظْهَر إذا ما اجتمعت وتهيَّأت أسباب وجوده.
هذه هي "الحتميَّة" التي لا ريب فيها، ولا يُشكِّك فيها إلا كل أعمى بصر وبصيرة؛ فالشيء الذي كان ينبغي له أن يُوْجَد؛ لكنَّه لم يُوْجَد إنَّما هو الشيء الذي لم يستوفِ أسباب وجوده التي لا يمكننا أن نحيط بها كلها عِلْماً، فبعضها اكتشفناه، وبعضها لم نكتشفه بَعْد.
والشيء الذي كان ينبغي له أن يُوْجَد؛ لكنَّه لم يُوْجَد إنَّما هو الشيء الذي أجْهَضَتْهُ "قوى وأسباب طارئة"، نسمِّيها "المصادَفة"، فهذه الشجرة كان ينبغي لها أن تُثْمِر عن قريب؛ لأنَّ أسباب إثمارها كادت أن تكتمل؛ لكنَّها لم تُثْمِر؛ لأنَّ ريحاً عاتية قد اقتلعت جذرها. هذه الريح هي المثال الذي فيه يكمن معنى "المصادَفة".
"قوى المصادَفة"، أي تلك الريح، هي التي حالت بين الشجرة وبين إثمارها الحتمي إذ اقتلعت جذرها؛ لكنَّ الريح نفسها كانت من نسج "الحتميَّة" ولم تكن من نسج "المصادَفة"، فقد اجتمعت وتهيَّأت أسباب وجود هذه الريح فوُجِدَت. و"هلاك الشجرة نفسه" مع "الطريقة التي هلكت فيها" هو، أيضاً، من نسج "الحتميَّة"، فليس من "واقعة" لا تكمن فيها "الضرورة".
ونفي "الضرورة" إنَّما هو نفسه نفي "العِلْم"، فنفي "الضرورة" يفضي، حتماً، إلى القول بأنَّ "كل شيء ممكن"، فالماء في غليانه يمكن أن يتبخَّر، أو يتجمَّد، أو يتحوَّل إلى معدن الذهب، أو إلى كائن حي. وغليانه نفسه يمكن أن يَنْتُجَ من أي شيء. يمكن أن يَنْتُجَ، مثلاً، من "ثلج" نضعه في الماء.
إنَّنا لن نفهم أبداً "الصُّوَر الذهنية" على اختلافها إذا لم نَرُدَّها إلى "أصولها" في الواقع الموضوعي؛ فليس في "الرأس"، أكانت رأس فرد أم رأس جماعة، من الأفكار إلاَّ ما له "أصول (أو عناصر)" في العالَم المادي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تعقيب
عبدالغني زيدان ( 2013 / 10 / 10 - 17:32 )
للرد على مثال التفاحة التذي اوردته في مقالك السابق طيب انا مبدئيا اؤكد مثلك انه لايوجد شيء في الدماغ فعليا فكل والدماغ مخاطب فقط بالاشارات الكهربائية فمثلا عندما نرى وهنا اقتبس طبعا من الادكتور التركي هارون يحيى
فعندما نشاهد ضوءا ففعليا في دماغك لايوجد ضوء انما تفسير فلو فتحنا الدماغ اثناء تسليط الضوء من الخلف لن نجد نورا وضياءا بداخله وكذلك جميع الحواس فالدماغ مخاطب بصور فيديوا (صور مركبة )ولكن هنا من الممكن القول ان الدماغ اصبح عبارة عن حاسة فاذن من الذي يستخدم الدماغ ومن يفرض الحقيقة واليقين وايضا هنالك سؤال كيف تعرف ان الحقيقة حقيقة
الاستاذ جواد لديك خطأ في استخدام المصطلحات نحن فضلا عن اننا كمسلمين ضد فكرة ان الطبيعة انتجت عقلا ماديا مكوننا من عناصر معينة وذرات ذات روابط كيميائية وغيرها الكثير
ولكن نقطة الخلاف والنقطة التي ينهار فيها فكرك ومبدئك هو اننا كن صادقا وستفهم قولي ان هنالك من يحرك ويستخدم عقلك ويفرض عليك نتائجه ثم دعنا نفرق بين الفكر والمفتكر نحن نؤمن بوجود المفتكر داخل الفكر ولولاه لما استطعنا معرفة الحقيقة


2 - تعقيب2
عبدالغني زيدان ( 2013 / 10 / 10 - 17:43 )
ثم استاذ جواد هذه الطاقة المفتكرة والتي هي ندعوها كمسلمين الوعي الفردي المرتبط بالوعي الكلي اي الذي يرتبط بين جزيئيات الحياة
وهذه الطاقة التي تفرض علينا الحقيقة والتي تستشعرها في لحظات التامل العميق فتشعر انك متصل بكل اجزاء الكون وتشعر باتصال عميق حتى تكاد ان تحاكي العصافير والاشجار وتستلهم الحقائق ويقول فيلسوف هندي في هذا المجال القوة المفتكرة والتي تستخدم الدماغ نشير اليها بالروح ومابين الدماغ وبينها عدم لكونها متصلة بالمطلق وهو الله تعالى نقطة الخلاف وجوهر كفرنا بمبادئكم ليس فقط على الاسبق الدماغ ام المادة لاننا نشير الى الدماغ بانه طاقة ولكنني عندما اجد سذجا ماديين يشيرون الى الدماغ بانه هذا المكون من روابط كيميائية وبانه اجزاء كربون وما شابه الا انك قد فككت هذا الامر وهو سبب سوء الفهم بينك وبين النوراني هو ايمانك بان الدماغ ليس فقط مادة وانما تشير اليه بشكل مجازا بانه مادي وفي عمقك تعلم بانه القوة المفكرة ولاحط معي الفرق الكبير بين الفكر ومفتكر ارجوك لا توعي الماديين السطحيين دعهم هكذا لنضحك على بعضهم


3 - تعقيب اخير
عبدالغني زيدان ( 2013 / 10 / 10 - 17:59 )
استاذ جواد انا لن اخوض معك في قضية الاعجاز العلمي فالدكتور زغلول النجار اسم اكبر من ان اورده للرد في مجال كهذا والكثير من علمائنا قصيدة معروف الرصافي تكفي للاجابة وهي انظرْ لتلك الشجرة, ذاتَ الغُصُون النضرة. كيف نَمَتْ من حبّه, وكيف صارتْ شجر
الساذج سبدأ بعرض عمليات البناء الضوئي واليات النمو والكثير ولكن انا اقصد الوعي الذي يملاء كل شيء وحتى بداخلك ولكن دعني انتقل بك الى الهند هنالك الملايين يؤمنون بالقوانيين الروحية والتي تبدا عند نهاية موضوع الدماغ وتبدا في الوعي وعميات الاتصال الروحية بين الاشياء والانسان والوعي الاكبر وقاموا في بناء الاساطير وخير دليل على هذا الموضوع هو كتاب الفيدا الهندي انا متاكد ستؤمن بما في جوهره من قول القران يعج بالايات الكريمة التي تكشف سرمدية هذا الجدال وكن الكفر المسبق باياته سيمنع الكثيرين الاطلاع والايمان به ارجوك ما رايك بالكتابات الهندية التي تعيش وتبني الانسان وفق الوعي الفردي وهو القوة المفتكرة التي تحرك الدماغ وتفرض الارادة الخارجة اصلا من المكون المادي للدماغ وايضا تفرض الحقيقة فكيف اذن ان الحقيقة حقيقة من يفرضها عليك حتميا هنالك من يفرضها عليك


4 - تساؤل في مسألة الإرادة
هشام ( 2014 / 2 / 8 - 21:51 )
نفهم من قول الأستاذ أن الطبيعة أو العوامل الطبيعية هي من يحدد الإرادة وبالتالي لا يمكن تفسير اي إرادة إنسانية بعيدا عن الدوافع الطبيعية وكذا كل سلوك أو تصرف إنساني كيفما كان ، فالإنسان لا يستطييع أن يريد غير ماتريد منه طبيعته،لذا عندما يحقق إرادة الطبيعة أو يعجز عن تحقيقها ،يصبح غير قادر على إيجاد هدف آخر حقيقي يعيش من أجله ، ما يدفع الإنسان إلى التفكير في الإنتحار،لأنه لا معنى لوجوده لغياب السبب الحقيقي لوجوده
فهل الإنسان خاضع لا يستطيع أن يتحرك إلا بالطبيعة في الطبيعة من أجل الطبيعة ؟

اخر الافلام

.. مرشحو الدورة الثانية للانتخابات الفرنسية يحاولون جذب أصوات ا


.. هآرتس: الجيش الإسرائيلي يسيطر على أكثر من ربع قطاع غزة| #نيو




.. إسرائيل توافق على أكبر عملية مصادرة لأراضي الضفة الغربية منذ


.. الإصلاحي بزشكيان والمحافظ جليلي.. تعرف على مرشحي رئاسة إيران




.. الجيش الإسرائيلي يواصل حرق منازل بحي الشجاعية شرق مدينة غزة