الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المادية الجدلية وعلم النفس

رمضان عيسى

2013 / 10 / 12
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


من ضمن الهجمات التي تتعرض لها المادية الجدلية بوصفها نظرة فلسفية شاملة للطبيعة والمجتمع والفكر البشري ، ما أُشيع عنها أنها لا تعترف بعلم النفس بوصفه فرعا مهما يختص في دراسة السلوك البشري ، ومقوماته وانعكاساته . ولكن هل هذا صحيح ؟
فما هو تعريف علم النفس؟ إن علم النفس هو الدراسات العلمية للسلوك والعقل والتفكير والشخصية ، هو الدراسة العلمية لسلوك الإنسان وعلاقته بالبيئة المحيطة .
لقد ظهرت مدارس كثيرة حاولت دراسة سلوك الإنسان و تفكيره وتوجهاته التي تشكل شخصيته ككائن اجتماعي . وكان الهدف من هذه الدراسات : فهم وتفسير دوافع سلوك الإنسان ، ثم محاولة التنبؤ بالسلوك المستقبلي للفرد ، ثم " التحكم والضبط " والتوجيه في الاتجاه المرغوب
من هذه المدارس والطرق ، طريقة " الاستبطان " التي نادي بها وليم فونت , مؤسس المدرسة البنائية في علم النفس معتمدا على عملية الاستبطان التي قامت على التعرف على مشكلات الشخص عن طريق الشخص نفسه , ومساعدته في حل هذه المشكلات , وتصحيح رؤيته . وقد قال العلماء بذاتية هذه الطريقة ، لأنها تعتمد على رأي الشخص نفسه ، وكذلك تعتمد على رأي الباحث نفسه ورؤيته وحالته النفسية ، ولا يمكن تعميمها .
من العلماء الذين انتقدوا المدرسة البنائيه الأمريكي وليام جيمس ؛ حيث ركز على وظائف الدماغ وتقسيماته , وما هي وظيفة أجزاء الدماغ ؛ فمن وظائف الدماغ بشكل مختصر ومبسّط التفكير والإحساسات والانفعالات؛ حيث أن المنطقة الجبهية تتم فيها عمليات التفكير والتخيل والكلام والكتابة والحركة ، وفي وسط الدماغ منطقة السمع وتفسير الإحساسات وإعطائها معنى ، وفي المنطقة الخلفية للدماغ يقع الجهاز البصري , ووظيفته تفسير الإحساسات البصرية , وهناك منطقة تقع فوق الرقبة من الخلف مباشره تحتوي على المخيخ والنخاع المستطيل والوصلة ، وهم مسئولون عن توازن الجسم والتنفس وعمليات الهضم وضربات القلب والدورة الدموية.... إلخ ، وأطلق على هذه المدرسة اسم " المدرسة الوظيفية " .
ثم بعد ذلك ظهر انتقاد آخر للمدرستين قائلا: "إن كان على علم النفس أن يكون علما صحيحا ومستقلا لا يجب أن تتم دراسة ما لا يمكن رؤيته وغير ملموس وما كان افتراضيا , كالعقل والذكاء والتفكير, وذلك لأنها مجرد افتراضات لا يمكن إثباتها علميا " .
ومن العلماء المنتقدين للوظيفية الأمريكي جون واطسون الذي قال : " يجب دراسة السلوك ((الظاهر)) للإنسان أي ما هو ملموس ويمكن رؤيته "، وتطور بذلك علم النفس كثيرا بعد ظهور هذه المدرسة وهي المدرسة السلوكية، ومن رواد هذه المدرسة عالم النفس الشهير الروسي ايفان بافلوف ( 1849 ـ 1936 ) ، مؤسس نظرية التعلم الذي أجرى اختبارات مخبرية ؛ فقد لاحظ بافلوف أن سيلان لعاب الكلب يرتبط بتقديم الطعام له ؛ فقام بتجاربه والمتمثلة في : قرع جرس قبل تقديم الطعام , ثم يلحقها بالإطعام فيسيل اللعاب ، وبعد تكرار هذه التجربة بدأ يسيل لعاب الكلب لمجرد سماع الجرس دون تقديم الطعام وهذا ما أطلق عليه تعلم شرطي .
لقد أثبتت الأبحاث والتجارب التي قام بها علماء " المدرسة السلوكية " صحة نظرة المنهج الجدلي لفهم الظاهرة النفسية بارتباطاتها المتشعبة والمتداخلة , وكذلك طابع الدراسات التجريبية المؤسسة على منهجية البحث العلمي وفروضه.
ولعل العالم الروسي بافلوف والذي ارتبط باسمه الاكتشاف التاريخي لنظرية الفعل المنعكس الشرطي خير من جسد المنهج الجدلي في أبحاثه العلمية , إلى جانب كوكبة من العلماء الذين جاءوا من بعده في دراسة الكثير من الظواهر النفسية , واللغة , والتفكير والعلاقة بينهما , والعمليات العقلية ومختلف مظاهر السلوك الإنساني , أمثال : فيجوتسكي , ولوريا وغيرهم .
وقد أكدت نظرية بافلوف الكثير من الحقائق العلمية وأسست اتجاها سيكولوجيا علميا في تفسير الظواهر النفسية , يجد دلالته في المضامين الآتية :
1ـ أن العمليات النفسية صورة لفعالية الدماغ ووظيفة من وظائفه الأساسية , والدماغ هو أرقى أشكال المادة , ويبنى على هذه المسلمة انه لا يمكن إدراك العمليات النفسية بصورة علمية بعيدا عن أدراك العمليات العقلية التي تتأصل في البنية الدماغية , فالفعل السيكولوجي فعل يتأصل ويحفر مجاريه في القشرة الدماغية الموطن الحقيقي لارتباطات مشاعرنا وأحاسيسنا وانفعالاتنا.
2 ـ الشعور انعكاس للمادة وصورة حية من صور العالم الموضوعي الخارجي والعمليات النفسية برمتها مرهونة بأشراطات هذا العالم الذي يتحول إلى صورة دماغية لحائية مرنة ذات طابع اشراطي, وبالتالي فأن أدراك الفعل النفسي مرهون بظروفه الخارجية والداخلية وبصورة أكثر تحديدا أن الفعل النفسي نتاج تفاعل بين الوسط الخارجي بمثيراته المختلفة مع الوسط الداخلي الذي يجسده الدماغ بشكل عام والقشرة المخية بشكل خاص.
3 ـ أن المادة أولية والشعور لاحق وثانوي وهذا يعني أن الأفكار والإحساسات تنعكس من العالم الخارجي المادي الموجود بصورة مستقلة عن الوعي, وهذه الفكرة تنطوي على مضامين بالغة الأهمية في علم النفس وهي أن الصورة الشعورية تتولد بتأثير عالم المادة والظروف الخارجية, أي أن ما يولد في الشعور هو صورة منعكسة من صور العالم المادي, وقد ساعد ذلك كثيرا على إخضاع العمليات العقلية والنفسية, بما فيها اللغة والتفكير والعلاقة بينهما للدراسة والاختبار !!!.
واعتقد العالم بافلوف بعد تجارب مختبريه استمرت لعقود من حياته وتم عرض نتائجها في المحافل العلمية الدولية , أن الإنسان نظام محكوم بالقوانين الطبيعية المشتركة بين كل ظواهر الطبيعة , ويرى أن النظام الإنساني هو الوحيد بين الأنظمة الطبيعية الذي يتميز بقدراته الهائلة على التنظيم الذاتي والذي يمتلك المرونة الفائقة لهذه الفعالية .
فالإنسان بأنظمته المعقدة خلاصة تطور الطبيعة في صورتها الأكثر رقيا وتقدما, فالسلوك الإنساني صناعة تتم وفقا لمبدأ الاستجابات الشرطية , وهي صناعة ممكنة , أي أنه يمكن لنا التحكم في سلوك الإنسان وتشريطه وتصنيعه مختبريا أو بصورة اجتماعية عندما يتم التحكم بشروط الحياة الاجتماعية " شروط الوجود ", فأفكارنا ومفاهيمنا وتصوراتنا وقيمنا وعاداتنا وأنماط سلوكنا وكل جوانب نشاطاتنا النفسية والاجتماعية هي نتيجة لعملية تشريط اجتماعية تربوية بعيدة المدى , وأنه يمكن رسم حدود هذه النشاطات والتحكم فيها وفقا لمبدأ الاشراط ومبدأ الاستجابات الشرطية التي بيّنَ أسرار حركتها في مختبراته وتجاربه الطويلة.
لقد بين بافلوف انه يمكن للاستجابة الشرطية إيقاع الناس فريسة الأمراض النفسية , وأنه خلاف ذلك يمكن لهذا التشريط نفسه أن يؤدي وظيفة تحرير الناس من آلامهم وعقدهم وأمراضهم النفسية !!!.
إن التجارب العملية التي قام بها العلماء في هذا المجال قد أثبتت صحة نظرة المادية الجدلية التي تنطلق من أن وعي الإنسان هو انعكاس للواقع الاجتماعي والنشاط العملي الذي يمارسه الفرد ، لهذا كانت مظاهر الوعي من تفكير وإرادة ورغبة وإدراك ومشاعر وسلوك مرتبطة بشكل أو بآخر بالظروف البيئية والاجتماعية والإنتاجية وتداخلاتها التي يعيشها الإنسان .
وبهذا فإن المادية الجدلية ترى أنه من أجل البحث عن ملابسات وعي الإنسان ودوافع سلوكه وأنماط تفكيره ومشاعره وخلجاته النفسية ، يجب عدم ردها إلى غياهب الشعور وما يسمى بالعقل الباطن والعقد النفسية المختزنة فيه منذ الطفولة البشرية الأولى ، بل إلى الواقع الاجتماعي الذي يشغله هذا الفرد أو ذاك .
إن مجمل مظاهر الوعي من تفكير ورغبة وإرادة وأحلام ومشاعر وردود أفعال هي إنعكاسات تعتري الإنسان من خلال واقعه الاجتماعي ونشاطه العلمي .
فمثلا نرى أن الفلاح الذي ترتبط حياته بالإنتاج الزراعي ، لا يزيد وعيه وأفكاره ورغباته ومشاعره وأحلامه وردود أفعاله اليومية عن الظروف البيئية المحيطة ، والوسائل المادية التي يستخدمها في نشاطه الإنتاجي من أدوات وحيوانات وأرض ومصادر مائية .
في حين نرى أن ساكن المدينة يرتبط وعيه ورغباته وأفكاره واندفاعاته السلوكية بظروف وملابسات طبيعة الحياة في المدينة ، من شقق سكنية ومواصلات وحدائق ووظائف وأعمال مكتبية وتجارية .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ربط موضوعي مادي بينهما
محمد البدري ( 2013 / 10 / 12 - 13:10 )
شكرا للسيد الفاضل رمضان عيسى علي ربط ما كان قد تصارع حوله علماء النظريتين وماا احاط بهما منم معارك لم تنته الا بتقد العلوم الفيزيائية والاجتماعية وسد الفجوات بينهما فالقضية لم تتوقف عند فونت وبافلوف بل تجاوزتها الي مدرسة فرانكفورت من امثال اريك فرووم وكثيرين ظهروا مع تقدم العلوم حسب قولنا الاسبق. لكن كان هناك مدرسة اخري اكثر راديكالية وربطت ايضا بينهما حسب ما وضحه فيلهالم رايش في كتابه الصغير الحجم بعنوان -المادية الجدلية والتحليل النفسي- . تحياتي واحترامي


2 - الجدلية ربطت علم النفس بالواقع
رمضان عيسى ( 2013 / 10 / 12 - 20:58 )
من أحد التهم للمادية الجدلية التي هي فلسفة الماركسية - أحد التهم - لها أنها تنكر الظواهر النفسية التي تعتري الانسان في حياته ، ولكن هل الماركسية تنكر الظواهر النفسية لدى الانسان ؟ بالطبع لا ، وهذا ما دفعني لكتابة هذا الموضوع لكي يعرف الجميع أن المادية الجدلية هي فلسفة حية وتستوعب كل جديد في العلم والمعرفة والظواهر النفسية وردود الأفعال السيكولوجية التي تسببها الظروف المحيطة بالكائن الحي .
هذا الموضوع مقتطع من كتابي المنشور في مكتبة الحوار المتمدن بعنوان :
المادية الجدلية - أيديولوجيا ومنهاج علمي للتفكير
http://www.mediafire.com/?n1rkk29c54hauh4
هذا هو رابط الكتاب في موقع الحوار المتمدن
.
- شكرا لمحمد البدري على الدخول والتعليق - تحياتي
.

اخر الافلام

.. الجيش الإسرائيلي يطلب من سكان أحياء إضافية شرق رفح إخلاءها ر


.. في سابقة إسرائيلية.. رسالة تحذير من رئيس الأركان لنتنياهو| #




.. مجلس الأمة الكويتي.. لماذا حلّه أمير البلاد وماذا تعني هذه ا


.. قيس سعيد يا?مر بمحاسبة من غطى العلم التونسي بخرقة من القماش




.. وصف بالأقوى منذ عقدين.. الشفق القطبي يزين سماء عدة دول أوروب