الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اليمين واليسار وحرية التعبير

حمودة إسماعيلي

2013 / 10 / 12
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


إذا كنت تؤمن بحرية التعبير، فأنت تؤمن بحرية التعبير عن الآراء التي لا تعجبك
¤ نعوم تشومسكي

بمثال سيُساهم بتوضيح الموضوع.. فلنفترض أن شخصا يرتدي قميصا معينا لمدة معينة. فطبيعي أن قميصه سيتعرض لعوامل خارجية تتسبب باتساخه. وبه فإن الشخص سيقف أمام حلّين، إما أن يخلع القميص ويقتني واحدا جديدا، أو يقوم بتنظيفه. وهذا طبعا إن أدرك أن قميصه قد طالته الأوساخ وصار رثا، لأنه قد يستمر بارتدائه دون اهتمام.

لكن لنفترض لو أن هذا القميص يرتديه شخصان، وقد صار هذا القميص متسخا، واتخد كلا الطرفين حلا مغايرا. أحدهما يريد خلعه وارتداء آخر نظيف، والآخر يخاف من فقدانه ـ وعدم إيجاد قميص جديد ـ لدى فهو يرفض خلعه، أو لأنه اعتاد عليه ولم يعد يريد غيره. فهنا القميص سيصبح "إشكالية".

طبعا سيكره الأول هذا القميص المفروض عليه ارتداءه، وسيسعى بأي وسيلة للتخلص منه. الأمر لذي سيدفع الآخر ليقف أمامه موقف الضد، خوفا من أن يسلبه القميص الذي يوفر الأمان والدفء والستر (كحماية من التعرية).

هذه هي "إشكالية" الثقافة بالمجتمع الإنساني. فالأفراد يعتادون الأفكار التي يتم يتلقينها لهم، لكن بعضهم قد يجد أنها لم تعد صالحة لخدمة نفس الواقع الاجتماعي المتغير، لدى يسعون لتغييرها أو تجديدها، الأمر الذي يهدد أمن الباقين الذين يرون أن في التّخلي عن المنظومة الفكرية السائدة والمعتادة، سيدمر الأعراف وتقاليد المجتمع التي تحمي علاقاته ومؤسساته.

فكما أن الحل الوحيد بالمثال السابق، هو في انفصالهم، حتى يجد الكاره للقميص قميصا آخر، ويحتفظ الثاني بقميصه. فإنه في ظل المجتمع، تنقسم الثقافة لليمين واليسار. لليمين المحافظ و المؤيد، ولليسار المتحرر والمعارض. وهذا بالنسبة لجميع أنواع المنظومات الفكرية الدينية والسياسية.

لكن الإشكالية لا تتوقف هنا، بل تستمر في صراع اليمين واليسار حول من هو الأجدر ثقافيا بحكم المجتمع سياسيا أو دينيا (كما في العصور الوسطى التي كان الحكم السياسي يتركز فيها على المرجعية الدينية للأغلبية). بذلك يسعى كلا الطرفين لاستقطاب الأتباع حتى يتم تأكيد التوجه الفكري الأصح والذي سيجذب الأغلبية.

هنا تنكشف الإشكالية بأوضح صورها، عندما يتوصل احد الطرفين لحصد الأغلبية، سيقوم طبعا بقمع الأقلية المهددة. بهذا تصبح حرية التعبير متعلقة فقط بالأغلبية، كما بالمجتمعات العربية (خصوصا) التي تدعي اعتناقها للأفكار التنويرية وضمان حرية التعبير للجميع، إنما هي تشير بها للأغلبية، لأن صوت الأقلية (المتفوَّق عليها عدديا) سيدرج ضمن الممنوع والمحرم والمحضور.

فبالمجتمع العربي يُسمح للجميع بالتعبير عن أفكارهم ومعتقادتهم، لكن ما أن يعبر الملحد أو المسيحي أو اليهودي عن معتقداته وأفكاره (كأقليات دينية و لادينية تعبر عن أفكارها ضمن وسط أغلبية اسلامية)، حتى يطاله الشتم والمنع والعقوبة القانونية "ان لزم الأمر" (كما يحدث مع المعارضين السياسيين في ظل الحكم الاستبدادي). عكس الأمر (من جهته المقابلة) كان يقع بالمجتمع الغربي (باضطهاد الأقليات الإسلامية) وقبلهم الأقليات العرقية، الأمر الذي دفع بالمؤسسات الثقافية الغربية لمحاربته، حتى يتسنى للجميع التعبير عن أفكاره، إثراءً للجو الثقافي والفكري بالمجتمع ما سيساهم بتقدمه وتطوره (حتى أصبح بامكان الأقليات الدينية بناء المعابد وإقامة الطقوس الدينية بها بكل حرية، وصار بإمكان الأقليات العرقية المشاركة سياسيا والتعبير عن افكارها وكشف هوّياتها).

فالجملة التي تحدد بدساتيرنا أن حرية التعبير مكفولة بجميع أنواعها، إنما يشار بها للأغلبية. لدى يجب أن يعاد صياغتها بطريقة أصح، وهي أن حرية التعبير مكفولة بجميع أشكالها بالنسبة للأغلبية فقط ولايحق ذلك للباقين أو المخالفين لهاته الأغلبية.
فيمين الأغلبية يرى يسار الأقلية كشيطنة، ويسار الأغلبية يرى يمين الأقلية كرجعية، فتفوق أي طرف سيدفعه لإقبار صوت الطرف الآخر المهدد له. ولا ننفي أن الأقلية لم تمارس أو لا تمارس حرية تعبير. بلا ! غير أنها تقوم بها بطريقة "أحمد مطر" الذي يقول عنها : "أمارس دائما حرية التعبير في سري، وأخشى أن يبوح السر بالسر" (من قصيدة عصر العصر).

لدى وكما يقول "نايجل ووربيتن" بكتابه "حرية التعبير" الذي يستعرض فيه أفكار "جون ستيوارت مل" ويشرحها (باعتبار مل أبرز المفكرين المدافعين عن هذا الموضوع) :

"ينبغي علينا ـ كما يرى مل ـ النضال للحفاظ على موقف تتعرض فيه الأفكار للمناقشة بقوة من الجوانب كافة، وإلا سنخاطر بوجود حالة من الركود العقلي تنتهي بتدمير معنى هذه الأفكار، يجب أن نتجنب عالم إعادة تأكيد الحقائق البليد، ونستبدل النقاش الأخاد بالقناعة، فدون وجود معارضين لآرائنا سيقل نشاطنا كمفكرين، ولن يضرنا هذا وحدنا، بل سيضر المجتمع ككل. يتحقق التقدم من خلال معركة أفكار مهذبة، لا من خلال استحواذ جانب واحد فقط على الحديث، يرغب ـ مل ـ في تطبيق نوعية النقاش الحيوي الذي يوجد في الندوات الجيدة، بدلا من الحوار الفردي، فدون التأثير المنشط للتحديات الحقيقية على أكثر معتقداتنا رسوخا، نتعرض لخطر التحول لأنصار كسالى لآراء مكررة، ويعبر عن هذا بقوله : "ينام كل من المعلمين والدارسين في أماكنهم حالما يختفي الأعداء من الميدان" وهو محق بالتأكيد بشأن ذلك."

مايعني أننا نساهم بركودنا الفكري وتأخرنا العقلي، طالما نرفض سماع رأي الأقلية، ونشجع رأي الأغلبية ونتسامح معه حتى لو شجع على العنف ضد الأقليات. كبراعة في إنتاج البلادة ! وهذا ما يحقق للمجتمع تقدما نحو الخلف !! وليس حتى ركودا بمكانه.

حرية التعبير والسماح بالتنوع الفكري والثقافي وضمان وسط لصراع أفكار اليمين واليسار دون قهر أو تهديد أو خوف، هو ما ساعد على تقدم المجتمعات الغربية وازدهارها، فقد أدركت أن التخلف هو تضييع الوقت بمطاردة صوت هنا وهناك لإسكاته بالقوة ! حتى تنام مرتاحة.

ف"ناموا ولا تستيقظـوا ما فــاز إلاَّ النُّـوَّمُ
وتأخَّروا عن كلِّ مـا يَقضي بـأن تتقدَّموا
ودَعُـوا التفهُّم جانبـاً فالخير ألاَّ تَفهـمـوا
وتَثبتُّوا في جـهـلكم فالشرُّ أن تتعلَّــموا" (من قصيدة ل"معروف الرصافي").








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عمليات بحث وسط الضباب.. إليكم ما نعرفه حتى الآن عن تحطم مروح


.. استنفار في إيران بحثا عن رئيسي.. حياة الرئيس ووزير الخارجية




.. جهود أميركية لاتمام تطبيع السعودية وإسرائيل في إطار اتفاق اس


.. التلفزيون الإيراني: سقوط طائرة الرئيس الإيراني ناجم عن سوء ا




.. الباحث في مركز الإمارات للسياسات محمد زغول: إيران تواجه أزمة