الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في رثاء عصرنا : موت المعنى

عبد الرحيم العطري

2005 / 5 / 28
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


في رثاء عصرنا عندما يقرر جيل دولوز وضح حد خاص لعلاقته بهذا العالم ، و يلقي بنفسه من النافذة و لا ينتبه لفعلته هاته إلا قلة من المهووسين بالهم التساؤلي ، و عندما ترحل الأميرة ديانا و تتجند الأقلام كلها لرثاء ذكراها ، وعندما تصير النشرات الإخبارية متخمة عن آخرها بأخبار حيوانات بريجيت باردو و تفاهات غيرها من أبطال الوقت الوهميين ، عندما يحدث هذا كله ، فهذا يعني أن العالم غارق في البلاهة و التفاهة ، و أنه ما ينفك يلهث وراء المبحوث عنه لهزم قلق أسئلته الشقية التي تعصف به و تقوده كرها نحو أحلك النهايات .
غياب المعنى
إن السمة المميزة لعصرنا هذا هي أنه عصر موت المعنى ، إنه عصر القحط الروحي و الفقر المعنوي ، فكل أكاذيب السرعة و التكنولوجيا و التقدم و الرفاه تشي يغياب المعنى و احتضاره قبلا في معارك خاسرة فقد فيها الإنسان إنسانيته ، و استحال فيها إلى حيوان ناطق فقط ، فالحروب البشرية صارت أكثر عنفا و ضراوة ، إنها لا تلبث أن تضع أوزارها إلا لكي تشتعل مجددا و بصيغ أكثر كارثية و دموية و في أكثر من مكان ، ليس هناك إلا من أخبار الحرب و الموت الفظيع ، فمسلسلات السلام سرعان ما تنفرط سبحتها ، و السلم الاجتماعي آيل للسقوط في أفق الارتكاس نحو مجتمع الغاب ، فبالرغم من كل ملامح التقدم التي يتبجح بها زمننا الرديء هذا و الذي هو زمن القمع كما قال الراحل عبد الرحمن منيف ، فإن الفاقة و الحرمان و البشاعة هي صفات و صور مأزمية تبصم جانبا من الحياة البشرية سواء في دول الشمال أو في ضفة الجنوب المعذبة
فعندما ندمن التأمل النقدي و نرتكن إلى هاجس السؤال ، و نعاين ما يعتمل في عصرنا من ضياع و تيه ، من حروب و سلام مغدور ، من موت كئيب يرفض الانسحاب من بين ظهرانينا ، عندما نفعل ذلك كله يتأكد لنا بقوة أن العمر الافتراضي للمعنى من الوجود قد زال و انتهى ،و أننا انخرطنا قسرا في اللامعنى السديمي ، و في عمق البقع السوداء كما يقول كافكا ...
في كل شيء يلوح اندحار المعنى و سرابه ، و هو ما يدفع نحو السؤال عن المعنى و اللامعنى ، و شعرة العقل أو اللاعقل التي تفصل بينهما و تحتم علينا بعدا الدخول في وضع ما لا نحسد عليها في مطلق الأحوال ...فلا يسعنا إلا أن نتساءل مجددا عما يعطي لوجودنا أو غيابنا معنى محتملا ، و ما الذي يسحب من تحتنا بساط المعنى ؟ و يحشرنا بالتالي في متاهات اللامعنى ؟ و قبلا هل نحن في حاجة قصوى إلى المعنى في زيف اللامعنى ؟
لمجابهة هذا الشقاء التساؤلي لا مناص من التأمل لقراءة تفاصيل الحياة و اكتساح لغتها البئيسة بحثا عن معنى الأشياء أو لا معناها في عصرنا الطافح بالرداءة و الابتذال

موت الفرد
إن الحداثة كمشروع مجتمعي تجديدي جاءت لتبشر الفرد بفردانيته ، بحريته ، بقدرته على الفعل ، لقد جاءت وفقا لأدبياتها الأولى لتؤكد له انتهاء عهود صكوك الغفران و محاكم التفتيش ، فالحداثة في بعدها العام تؤمن بالفرد و الحرية ، و تنتصر للاختلاف و كل القيمة التي تقطع مع التقليد و الأبوية ، و لكن المشروع الحداثي لم تصدق كل نبوءاته ، و لم يخلص الإنسان من القهر المجتمعي و لم يعترف له فعلا بحريته الفردية على الرغم مما يظهر من نزوع كوني نحو تأكيد الحق الفردي في تقرير المصير عن طريق توطين الحريات الفردية كالانتخابات التي ما هي في النهاية سوى حروب سلمية للتداول على السلطة
إن حرية الفرد في المجتمع الحديث ما هي إلا وهم قاتل ، و هذا ما أكده لويس ديمو في إحدى دراساته ، إذ يقول بأن المجتمع الحديث عرف عقلنة جديدة للقمع و تناميا مفزعا لآليات تقليم الأظافر و قص الأجنحة ، و عرف ارتفاعا حقيقيا لصيغ القهر الاجتماعي ، الشيء الذي أدى إلى ضياع " الأنا " وسط زحام " النحن " .
فالفرد صار أكثر انصياعا لقيم الجماعة و أكثر انصهار و تحللا في بوثقتها ، و هو ما يؤدي نهاية إلى إلغاء فردانيته و تبخيس حريته و فعاليته الاجتماعية .فهل مات الإنسان / الفرد فينا كما صرخ نيتشه ذات مرة و هو يبحث عن السوبرمان ؟ و هل ما يتعالى الحديث عنه آنا من حقوق للإنسان ما هو إلا سراب جميل ينضاف إلى سراب المعنى ؟
إن عمليات الفرملة و القمع و تقنيات إعادة الإنتاج و التدجين ، و ما إلى ذلك من تقنيات تذويب الفرد و قتله تؤكد ما قاله ماركس بأن هذا المجتمع يحكمه أجداده ،و أنه مجتمع خاضع للموتى ، أي أنه يأتمر و ينتهي بالفائت و الغائب ، و في ذلك نفي و إلغاء مباشر لحرية الفعل و التجاوز .و الواقع أن الإيمان بالفرد و حريته كرؤى حداثية لا يعد عقوقا أو خروجا على معايير الجناعة ، و لكنه تأكيد على الاختلاف تلافيا لضياع الأنا ، و احتراما للجماعة و تحصينا لذاكرتها و مستقبلها ، و هو ما لا تعيه جيدا أنظمة العصر الراهن ، و لهذا نجد ذات الأنظمة الحاكمة و المتحكمة في المصائر و الاختيارات ، تجتهد في ابتداع كل الأساليب التي تقود نحو محو الفرد و تحويله إلى مجرد رقم من الأرقام في فضاء منقوع في اللا معنى ...
مجتمع القطيع
لكن هل وصلنا إلى درجه عليا من البؤس المجتمعي ؟ هل مات الفرد و الإنسان ؟ كيف و لماذا يحدث ذلك ؟
في قصة "وداع السلاح " ناقش ارنست همنغواي فكرة مقلقة تتعلق بالفرد في المجتمع ، إن كان في مقدوره أن يدير ظهره للعالم و أن يعيش لنفسه بعيدا عن صخب الناس و حفلاتهم التنكرية التي هي الهدف الأثير للسوسيولوجيا كما صرح الراحل بيير بورديو أكثر من مرة .
و عليه فقد اختار بطلا القصة كاترين و فريدريك أن يعيشا في قمة جبل بعيدا عن العالم المزيف ، و في النهاية المأساوية كنهاية مبدع القصة ، بعد موت كاترين سيصيح فريدريك مختزلا كل المعاني الهاربة " إن العالم يحطم الفرد " ، و على نفس الدرب نقول بأن المجتمع الحديث يسحق الفردانية و يدجن الأفراد محولا إياهم إلى أرقام مدمجة في أقراص مدمجة ، أو أصوات انتخابية في معارك السياسة الخاسرة ، أو زبائن مستهدفين في جيوبهم و راحتهم في أتون الاستهلاك و الماركوتينغ ، هذا هو عصرنا – و للأسف الشديد – عصر الجماهير ، عصر القطيع المساق نحو ما يبتغيه الذين هم فوق من مالكي وسائل الإنتاج و الإكراه .
لا مكان للفرد ، و لا كلمة إلا للجماهير / القطيع ،الذي يشار إليه بالرأي العام و المواطنين و الشعب و ما إلى ذلك من التسميات المخادعة ، فهذا القطيع يوجه قسرا نحو مسارات مدروسة بغير قليل من الدهاء ، اعتمادا على أجهزة إيديولوجية و أخرى قمعية حسب ما تمليه الظروف ...و ربما هذا ما جعل الكثيرين من آل القلق الفكري يختارون الرحيل بعيدا عنا ، ربما لأنهم لا يريدون أن تغتصب حريتهم في الفعل و الاختيار ن لهذا اختاروا الرحيل و ألما و جنونا و انتحارا رحمة من قضاء الساعات الطوال أمام فضائيات تحقق في البقع العالقة فوق فستان مونيكا و لا تعير أدنى اهتمام لما يحدث في فلسطين و العراق و غيرهما من الدول التي ما زالت تؤدي ضريبة نظام العالم الجديد ...
في ثقافة القطيع تصير المسايرة فعلا مباركا و تمسي المساءلة ذنبا يستحق العقاب ، و بالطبع ففي وضع كهذا سيكون القهر و النبذ الاجتماعي بالمرصاد لكل من سولت له نفسه باقتراف " جرم " السؤال و الخروج عن طوع السائد و المبارك من طرف الجميع ، فلا مجال للمبادرة و التساؤل النقدي قبالة ثقافة الإجماع و القطيع.
قطعان بشرية إذن في جل أرجاء المعمور يتم تعليب وعيها الجمعي في قوالب جاهزة لإدمان المسايرة و نبذ النقد و المساءلة ، يتم تشكيلها حسب مقتضيات اللعبة الدائرة ، حتى تكون جاهزة للتحكم فيها عن بعد و بأقل الخسائر ، و حتى تكون – و هذا هو المهم – جاهزة لقول لا ثم قول نعم إن استدعت الضرورة ذلك ، و لرفع شعارات و استهلاك منتوجات معينة و باختصار لفعل ما يتوجب فعله و ما تقتضيه ضرورة الصالح العام ..
تكنولوجيا القمع
و الواقع أن كل هذا ما كان له أن يكون ، و أن يتجذر واقعيا ، و بهذه الأشكال المفزعة لولا القمع ، فالدولة ، أية دولة ، تلجأ في سبيل ترسيخ مؤسساتها و حضورها إلى جهازين متلازمين هما الجهاز القمعي و الجهاز الإييولوجي ، فالأول يعمل على تصريف العنف المؤسسي و التحكم فيه ، و الثاني يقوم بتقديم حقنات سوسيوسياسية لشرعنة القائم و الحفاظ عليه ، إلا أن الدولة في المجتمع الحديث نجدها قد أولت عناية فائقة للجهاز القمعي و لم تعد تطلب خدمات الجهاز الإيديولوجي إلا في أوقات محدودة ، و عليه فقد تولدت لدينا تكنولوجيا جديدة هي تكنولوجيا القمع ، و هي محصلة نهائية لسباق التسلح و جنون السيطرة الكوكبية ، و هو أيضا اختبار موضوعي لقدرة الأنظمة الحاكمة على تطويع الأفراد و تحويلهم إلى أجساد طيعة تماما كما هو الأمر بالنسبة لمؤسسة العقاب كما يقول ميشيل فوكو .
إن تكنولوجيا القمع لا تظهر آثارها فقط في الطفرة التي عرفتها مؤسسات العقاب و الامتداد البوليسي الذي صار مكتسحا لكل التفاصيل الإنسانية ، و محصيا لكل الأنفاس و الحركات و السكنات ، و لكنها تكاد تبين في الوضع الذي انتهت إليه الإنسانية في كثير من بقاع الأرض ، و التي تشهد استنفارا مخزيا للأجهزة القمعية ، و تلوح آثارها أيضا في " القبول الاجتماعي " و التسليم النهائي بضرورة العنف و القمع ، فتكنولوجيا القمع لم تعد تثير الاستغراب ، لقد غدت جزءا من المشهد اليومي ، و هكذا تواصل الدولة في ضفتي الشمال و الجنوب استعراض عضلاتها القمعية في تحد سافر لقيم السلم و الأمن الاجتماعيين ، إنها تستعرض عصيها و مسدساتها بهدف زرع الخوف لا غير ، فمن الرؤوس المعلقة عند أبواب المدن و الأجساد المصلوبة في الساحات العمومية إلى الكرسي الكهربائي و غرفة الغاز و حبة الموت الرحيم ، ليس هناك إلا تطور فج في سبل تطويع الجسد الإنساني و الانتهاء من شغبه ، إنها حالات بائسة من قاموس مجتمعي قمعي بالأساس يكيل لنا الموت الفظيع في كل آن ، إلى الدرجة التي صار من غير الممكن استشعار حضوريتنا الفردية في دنيا القمع هاته .
أفول العالم
إذن في أحضان هذا العالم الرديء الذي يقتل و يحطم الفرد ، في ظل هذه الأنظمة الجائرة التي يموت فيها الأطفال باسم الشرعية الدولية ، و تداس فيها الكرامة باسم الصالح العام ، و تباع فيها المبادئ و تشترى في كرنفال المبادئ ، هل ثمة معنى ما لوجودنا البئيس ؟ذلكم ما نعجز عن تأكيده ، و ذلكم ما يغرقنا في حيرة باذخة و يورطنا في عمق الأسئلة الكبرى ، علها تبعد عنا أرق السؤال و الضياع في زحمة العالم و بلادته القصوى .
هناك في قارات الفكر الفلسفي تحدث هيدغر ذات مرة عن هروب الآلهة ، كما تحدث ماكس فيبر عن حروب الآلهة ، و في ذلك إشارة واضحة على انحسار المعنى و تبعثر الحقائق و تحطم صروح اليقينيات ، و هذا ما أشار إليه شبانغلر في " أفول الغرب " الذي أبرز فيه انحطاط الغرب و موته مع موجة الحداثة الكاذبة
و هنا و الآن و نحن نعاين موت الإنسان بأبشع الطرق و أكثرها خسة و جبنا و في أكثر من مكان ، نجد أنفسنا مستفزين بأسئلة المعنى و اللامعنى ،و مدعويين إلى تفكيك الوقائع لصوغ الممكن بعيدا عن قلق البياض و الفراغ ، فاللامعنى يجتاح قحطنا وفراغنا المهيب ، و يؤسس لموتنا في أحضان تكنولوجيا القمع و مجتمع القطيع ، و كل التفاهات التي تسرق منا حريتنا و فعلنا الاجتماعي ، و تسرق منا الأهم و هو المعنى من الحضور أو الغياب ، فإلى متى سيستمر العالم في ركضه المجنون وراء لا معنى الأشياء ؟
* باحث في السوسيولوجيا من المغرب








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. النموذج الأولي لأودي -إي ترون جي تي- تحت المجهر | عالم السرع


.. صانعة المحتوى إيمان صبحي: أنا استخدم قناتي للتوعية الاجتماعي




.. #متداول ..للحظة فقدان سائقة السيطرة على شاحنة بعد نشر لقطات


.. مراسل الجزيرة: قوات الاحتلال الإسرائيلي تكثف غاراتها على مخي




.. -راحوا الغوالي يما-.. أم مصابة تودع نجليها الشهيدين في قطاع