الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشرق العربي حين ينبش ليقتلع الأساس - هجرة المسيحين العرب

نضال الربضي

2013 / 10 / 13
المجتمع المدني




كانت سنوات طفولتنا جميلة على الرغم من شح المورد الاقتصادي، بيتنا نتشاركه مع عائلة جدي لأبي و فيه الحركة ُ لا تنقطع، الباب مفتوح و جاراتنا صديقات لعماتي يدخلن و يخرجن على حسب عادة حينا القديم دون مواعيد مسبقة، و يجلسن وقت العيد مع عماتي لصنع الكعك و المعمول، منظر الحجاب و الجلباب جزء من المشهد، طبيعي فيه غير غريب عنه، و صوت الأذان روتين يومي هو جزء من الحياة نفسها، و تهاني العيد نتبادلها بكل حب أصيل تحسه في نبرة الصوت و قسمات الوجه و ابتسامة الثغر و قبلات الجارات لنا كأطفال.

كان الفرح يجمعنا و كذلك الترح، فالسواد يلف النساء جميعهن عند الموت و لا يفرق بين المسلمة و المسيحية في دار العزاء، فالراحل ذهب عند ربه، و هو رب المسيحين و رب المسلمين، رب الأحياء و الأموات على حد سواء، و كان المجتمع يُدرك ذلك بالفطرة و التجربة و الإنسانية.

منذ سنوات تغير الحال عندنا، بعض الزملاء في العمل لا يقولون لنا "كل عام و أنتم بخير"، فهذا حرام، هكذا قال الشيخ المُوكل بتفسير دستور الله، و الزملاء يضعون الله فوق الزمالة و العقل و الإنسانية. منذ سنوات بعض الزملاء لا يقدمون واجب العزاء في ميت مسيحي لأن هذا المسيحي كافر ٌ في النار مُخلد لا جدال في هذا، و العزاء لا ينفع المخلدين في النار، و حتى كلمة "الله يرحمه" غير مجدية و كُفرية فالله أصدر حكمه و هل نحن سنغير حكم الله؟ و لا يجب أن ننسى أن تقديم العزاء في ميت هو موالاة للكفار و خروج من الدين حتى لو كانت مجرد كلمة ٍ إنسانية، هكذا قال الشيخ أيضا ً.

منذ سنوات بدأت الناس تفقد إنسانيتها و تفقد عقلها و تفقد الله أيضا ً، بدؤوا في مسيحي العراق، هؤلاء الذين ما زالوا الوحيدين هم و السريان السورين الذين يتكلمون اللغة التي كان يتكلمها السيد المسيح، و هي الأرامية، و هم أي المسيحيون العراقيون و السوريون يتحدثونها بلهجتين لهجة غربي النهر و شرقيه، تقدمان غنى ً تراثيا ً فريدا ً مُغرقا ً في التاريخ عتيقا ً ساحرا ً، لكنه مجروح ٌ. مسيحيو العراق ذُبحوا و فُجروا و انتُهكت كنائسهم و قُتلت كهنتهم، فكان أمامهم حلان لا ثالث لهما: الحل الأول هو رفع السلاح في وجه المُعتدي و الدخول في دوامة الحرب السنية الشيعية أما الحل الثاني فهو الهجرة لأوروبا. المسيحيون العراقيون اختاروا أن يكونوا ملح الأرض و نور العالم و يحملوا المسيح بين ضلوعهم و في نبض قلوبهم و يأخذوه معهم إلى أوروبا، لكي تبقى أيديهم نظيفة من الدم كما كانت طوال عمرها و كما ستظل.

في سوريا يتكرر نفس السيناريو الآن، معلولة، صيدنايا، حلب و كل مكان آخر، و يحمل المسيحيون السوريون المسيح مرة ً أخرى و يذهبون به حيث يذهبون، فبلاد الله واسعة و هي بكل غربتها أفضل من أن يرفعوا سلاحهم في وجه أحد. هكذا يفهمون المسيح و هكذا نفهمه نحن أيضا ً.

في مصر عندما يعجز التكفيريون و الإخوان عن ضرب قوات الأمن يتجهون إلى الكنائس، يُحرقونها، يسرقون محتوياتها، على الرغم أنها كنائس نجسة كُفرية كما يقولون، لكن محتوياتها تصبح طاهرة عندما تمسكها أيديهم المتوضأة الطاهرة، هكذا يقولون، لست أنا من يقول. في الأحداث الأخيرة حاول المغاوير أسود الإسلام كما يسمون أنفسهم أن يهتكوا عرض ثلاث راهبات في الشارع فخلصتهم من بين أيديهم بحيلة أنثوية فطرية سيدة مُسلمة محجبة، و هربتهم، ننحني احتراما ً لتلك الأخت المسلمة بينما ننظر إلى أحفاد أبي جهل و أصنام أحزابهم بعين الشفقة على ضلالهم.

على الرغم من الألم و الموت المجاني و التهجيرلا تجد مسيحيا ً واحدا ً يطلب من أمريكا أو أوروبا أو أي دولة أخرى التدخل في وطنه، الوطن هو الشرف و الكرامة و الكبرياء و هذه الثلاثة لا يأخدها منك ابن وطنك الذي يهجرك حتى لو قتلك و حرق كنسيتك و سلبك و نهبك فهي تعيش في داخلك تأخذها من وطنك و أرضه و سمائه و ليس من يد ابن وطنك، أما الغريب فهو لا يعرف هذه الثلاثة و لا يملكها حتى يعطيها، و هو نفسه يطأك و يطأ ابن وطنك و يطأ وطنك ليسرق مواردك و ثقافتك و نمط حياتك و يعطيك بدلا ً عنها بنطلون جينز و بعض الاختراعات و ساندويشا ً من البرغر مع البطاطا المقلية ثم يتبجح بأنه يحمي مسيحيتك، المسيح يا سادة لم يأكل البرغر و لا يعرف كيف يرطن بالإنجليزية، مسيحنا شرقي سُمرته من الشمس التي لوحت مُحياه و هو يطوف فلسطين و الأردن و يصرخ فيهم "روح الرب علي لأنه أرسلني لأبشر المساكين، لأنادي للمأسورين بالإطلاق، للعميان بالبصر، و لأخرج المحبوسين من دار السجن".

إن المسؤولية الأعظم فيما يحدث للمسيحين العرب اليوم تقع على عاتق حركات الإسلام السياسي من السلفين التكفيرين الذين ما زالوا يحلمون بتطهير هذه الأرض من أي عقيدة ٍ غير عقيدتهم أو إجبار المسيحين على دفع الجزية و هم صاغرون أذلاء (فشروا و فشرت عينهم كما نقول بالأردني) و الإخوان المسلمون الذين لا يتحدثون بنفس الوضوح السلفي لكنهم يمارسون و يزرعون الأيدولوجية التي تدفع بالشباب إلى مزيد من الإنغلاق و النظر بالشك و الريبة نحو المسيحي و الابتعاد عن الشراكة الوطنية معه ما أمكن تمهيدا ً للعزل البطئ للمسيحي حتى لا يعود مقبولا ً و يُدرك هذا بنفسه فيكون العزل المقصود الخبيث ممُنهجاً ليبدو أن الضحية تنسحب بنفسها و تعزل كينونتها الصغيرة.

و الجهة الثانية التي تتحمل المسؤولية هي الحكومات المُتعاقبة التي لا تولي الفسيفساء المجتمعي أي أهمية، فتقوم بتهميش الدور المجتمعي للمسيحين في أوطانهم و تتعامل معهم على أنهم "أقليات" فتحمي حقوقهم كما يحمي البطل صغير القوم المسكين، بدل أن تسمح لهم بتولي دورهم المواطني الكامل في أوطانهم بأن تكون صريحة ً وواضحة مع نفسها و مع المواطنين و تُبرز عامل المواطنة و التساوي على أنه الجامع المانع لسلامة الأوطان ووحدة النسيج المجتمعي.

أما بعض الحكومات الأخرى مثلما يحدث في مصر و سوريا فتلعب لعبة ً أخطر و أقذر بتغاضيها المقصود عن أحداث بإمكانها أن تمنعها لكنها تتركها تحدث و أحيانا ً تكون هي المُسبب لها في السر لتتركها تضرب المسيحين حتى يبدو أن أعداء هذه الحكومات من الإسلامين هم الفاعلون كشياطين يجب منعهم بأي ثمن لأنهم خطر على الديموقراطية و السلم المجتمعي و حقوق الأقليات، و على الرغم أن هذا صحيح لكن استخدام المسيحين ككبش الفداء و فزاعة الخطر أمام الدول الأخرى هو عمل ٌ يحمل في دلالاته تبخيسا ً مقصودا ً أو غير مقصود لا فرق لجوهر العنصر المسيحي و قدرته على رفد المجتمع و إغناءه بلون ٍ ثقافي ٍ حضاري ٍ قومي ٍ وطني خاص، و خيانة ً للوطن بكل مكوناته و للمسيحين بشكل خاص.

يا سادة يا كرام، الشرق على وشك أن يفرغ من المسيحين. نحن لا نحب العنف و لا نطلبه، و نفضل أن نحمل أوطاننا في قلوبنا و نأخذها معنا إلى الغربة على أن نرفع السلاح في وجه إخوتنا الذين لا يرون فينا إخوة، لكننا لا يمكن أن ننسى يوما ً أوطاننا، و لا يمكن أن ننسى أن هذه الأرض الطاهرة قد جال فيها ابن مريم، صاحب اليد الممدوة لكل البشر، تلك اليد التي قبلت مسمارا ً يوما ً ما، و قطرت مع الدم حبا ً للأرض حتى ارتوت منها الأرض، و للإنسان الذي فوقها.

دَمُـنا هنا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رئيس الحكومة البريطانية كير ستارمر ينهي خطة ترحيل اللاجئين ?


.. شاهد| نقل نساء وأطفال أصيبوا في قصف إحدى مدارس الأونروا وسط




.. صعود اليمين في الانتخابات العامة يثير قلق المهاجرين في فرنسا


.. عبور الصحراء أخطر على المهاجرين من عبور البحر




.. كير ستارمر ينهي خطة ترحيل اللاجئين من بريطانيا إلى رواندا