الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حكاية من سالف العصر والزمان

احمد عبدول

2013 / 10 / 14
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لعل أهم ما تمتاز به شريحة كبار السن من الاباء والأجداد من السابقين واللاحقين هو ظاهرة كثرة حكاياتهم وأقاصيصهم ورواياتهم التي ورثوها كابرا عن كابر والتي حيكت خيوطها ونظمت فصولها على مدى نجوم متفرقة ودهور متباينة وأجيال متلاحقة حتى صارت مرجعا ثرا وينبوعا فياضا من ينابيع الحكمة وعيون الأخبار والمعرفة ، ولا شك ان مثل تلك الحكايات والأقاصيص كانت لها الأثر الكبير والبالغ في بناء منظومة الأبناء الفكرية والثقافية لاحقا , فقد شكلت تلك الحكايات اللبنات الأولى لإيقاظ وبلورة مشاعر الود والإخاء والنخوة والإيثار وسائر الخصال الأريحية التي تغنى بها الأجداد وتفاخر بها الاباء .لم يترك لنا آباؤنا من حطام الدنيا شيئا فقد خرجوا منها كما دخلوها أول مرة إلا إنهم خلفوا لنا أرثا اجتماعيا ثقافيا بلغة شعبية مبسطة تستبطن الكثير من القيم والدلالات والمعطيات التي تصلح ان تكون نافعة ومفيدة في كل زمان ومكان مما لا يقدر بثمن ولا يكال بمكيال .
كان والدي قبل ان يخرج من الدنيا مرغما كما دخلها مرغما يقص علي بعضا من تلك القصص ويروي لي طرفا من تلك الروايات التي كانت متداولة بين أفراد قريته التي نشأ فيها وترعرع بين ظهرانيها هنالك في جنوب البلاد حيث مسقط رأسه. كانت تلك الحكايات على كثرتها وتنوعها لا يملها السامع ولا يعيبها التكرار فهي حكايات مليئة بالعبر والحكم والمواعظ والمواقف الإنسانية النبيلة والتي تكشف في جانب مهم منها ، كيف كانت الحياة تسير وكيف كان الإنسان ينظر الى سائر الامور من حوله ، حكايات والدي البسيطة في تفاصيلها وجزئياتها كانت تختزن وتختزل العديد من القضايا والدروس التي تستحق منا الوقوف والتأمل واستنباط مختلف الاستنتاجات الاجتماعية التي تعود علينا بالنفع العميم في زماننا الحاضر هذا , ولو أننا أردنا ان نحصي تلك الحكايات ونلم بتلك المواقف لكنا بحاجة إلى مجلدات ضخمة لهذا الغرض الذي يستحق منا مثل هذا الجهد ان لم يكن يستحق منا أكثر من ذلك ، ولعل أهم وابرز تلك الحكايات التي ما تزال عالقة بذهني تلك الحكاية التي يمتزج فيها صدق المشاعر وعفويتها بحجم الوهم والتخيل الذي كان يستوطن عقول ونفوس إبائنا الأولين وأجدادنا الأقدمين .
لم يكن لدى آبائنا سوى (الهور )موردا للرزق يستخرجون منه طعامهم ويحصدون مما ينبت وسطه من نبات (البردي) علفا لدوابهم ومواشيهم وعلى الرغم من قلة معلوماتهم عن أحكام الدين ومعاملاته واشتراطاته إلا إنهم لم يكونوا بمنأى عن التعلق بزيارة الأولياء وعيادة الأئمة والأوصياء , وبما ان معيشتهم كانت معيشة ضنكا فان أمرا كالزيارة لم يكن بالأمر البسيط والهين , فقد كانت الزيارة رحلة شاقة لا يقدر عليها سوى ميسوري الحال من ملاك الأراضي وتجار الإبل والمواشي هذا من جهة ومن جهة أخرى فان الزائر آنذاك كانت تشترط فيه عدة اشتراطات ذاتية لا ينالها إلا ذو حظ عظيم كما يقال ,حيث يفترض به ان يكون على درجة مقبولة من التأديب و التهذيب والاستعداد النفسي والخلقي الذي يؤهله لزيارة أولياء الله لذلك كان الاباء والأجداد يحجمون عن زيارتهم حتى تصلهم منهم إشارة معلومة أو رخصة مفهومة كانت تسمى آنذاك بالدسكرة والدسكرة مفردة عامية لم أجد لها سندا في قاموس اللغة إلا إنني أتصورها جاءت من مفردة (تذكرة ) أي بطاقة الدخول أو القبول لكنما الآباء لفضوها (دسكرة ) وهي عبارة عن ورقة ملفوفة يجدها الزائر في منامة ,هذه القصاصة الورقية غالبا ما كانت توضع تحت وسادة المنتخب للزيارة , وهي تكتب بخط يد الإمام كدليل لا يرد ولا يقهر على حجية الطلب وصدقية الجهة المرسلة لهذا الزائر أو ذاك لا سيما الإمام الرضا ثامن الأئمة المعصومين عند الشيعة الاثني عشرية والمدفون في مدينة (مشهد) حيث كان الزائر يتجشم مؤونة السفر ومشقة الطريق وهو يقطع الفيافي ويطوي المسافات عبر عشرات الأسابيع ماشيا على قدميه مستعينا بركوب الحمير أو البغال بأحسن الأحوال حتى إذا لبى الدعوة وحقق المبتغى وتشرف بزيارة سيده الذي أرسل في طلبه دون سواه من بني قومه عاد قافلا إلى عشيرته وأهل قريته فكان موضع تقديسهم وموطن تبركهم ومورد إجلالهم واحترامهم وطلبهم في كل نازلة ومدلهمة ففي سالف العصر والزمان كان الزائر بمجرد ان يجد تلك (الدسكرة) المكتوبة بخط الإمام يهب مسرعا لجمع ما يتيسر له من الدراهم المعدودة لغرض شد الرحال وتجشم عناء المصاعب والمصائب التي يمكن ان تصادفه على طول الاف الكيلومترات من الأراضي المقفرة والفيافي الموحشة . مثل تلك الحكاية وبغض النظر عن حقيقة تلك الدسكرة المزعومة التي كان يجدها الزائر تحت وسادته الصوفية أيام الحر القائظ إنما يكتنفها الكثير من الغموض ويحيط بها الكثير من المبالغة ويشوبها غير القليل من التوهم إلا إنها من جانب اخر تستبطن الكثير من المعاني وتختزن الكثير من الدلالات والمعطيات النفسية والاجتماعية والتي تكشف بمجملها كيف كان أجدادنا يفكرون ويتصرفون .الناس آنذاك كانوا لا يذهبون لزيارة أولياء الله الصالحين إلا على ضوء رخصة تعطيهم الضوء الأخضر للمرور , ولا يتجرؤون على ولوج باب الزيارة حتى يأذن لهم سادتهم وأئمتهم , ولو أننا قارنّا بين زيارة الإباء والأجداد وزيارة الأبناء والأحفاد اليوم لوجدنا الفرق شاسعا والبون واضحا فالزائر اليوم لا يشد الرحال إلى مراقد الأئمة على ضوء تزكية خاصة ورخصة موجهة بعد ان استطاع ان يزكي نفسه بنفسه ويطهر ذاته بذاته فقد أمات شهواته وتحكم بنزعاته وأمن زلاته حتى أصبح كالثوب الأبيض الخالي من الدنس أو هو اشد بياضا . لقد أصبح الزائر اليوم مستقلا تمام الاستقلال عن أي رخصة يمكن ان يبعث بها هذا الإمام أو ذاك الولي بعد ان أحرز في نفسه الطهارة والنقاوة والعدالة وكيف لا وقد رضي الله عنه فأقر عينه وأرغد عيشه واسكنه فسيح قصوره وبشره بالفوز العظيم . لقد أصبحت الزيارة اليوم متاحة للبر والفاسق للصالح والطالح للصادق والكاذب على حد سواء بعد ما كانت بابا لا يقصده سوى الأتقياء ولا يؤمه سوى الانقياء . لا شك ان حكاية الدسكرة تلك هي حكاية غير واقعية شأنها في ذلك شأن الكثير من الحكايات والخرافات والأساطير السالفة إلا إنها لا تخلو كما هو حال سائر الخرافات والأساطير من الحكم والمواعظ والدروس المختلفة كما إنها تكشف عن مدى قدسية أجدادنا الغابرين للزيارة وهو خلاف ما نشهده اليوم حيث نرى اغلب الزائرين يتفاخرون بعدد زياراتهم لهذا المقام أو ذاك على ما هم عليه من جهل وظلم وانحلال وفقر نفسي وثقافي وقيمي .
أخيرا لو ان الدسكرة التي كان الزائر يجدها تحت وسادته الصوفية أيام القيظ كانت حقيقة ماثلة فكم زائر من زوارنا اليوم ممن يشدون الرحال إلى الحج أو العمرة أو الأضرحة المقدسة كم زائر سوف يجد مثل تلك الدسكرة تحت وسادته التي انقلبت بقدرة قادر وخفة ساحر إلى وسادة من ريش النعام وطائر السلوى ؟ يغلب على ظني ان حكاية الدسكرة لو كانت حقيقة ماثلة للعيان وعادت لسيرتها الاولى لكنا إزاء دسكرة اخرى وبمضمون اخر يبعث بها هذا الإمام أو ذاك للسواد الأعظم من الزائرين معاتبا مؤنبا موبخا لمصادرتهم مغزى الزيارة ومضمون الوفادة التي كانت يوما مدعاة لتهذيب الأخلاق وتشذيب الطباع وترويض الميول وتوجيه العقول نحو خصال الخير وقيم البذل والعطاء والإيثار والاعتبار لتنتهي إلى تفاخر وتطاول كما هو التفاخر بالأموال والأولاد والأحفاد .لقد تحولت مجمل الزيارات التي يشهدها عالمنا الإسلامي اليوم الى أفعال وظواهر جامدة لا تمس شغاف القلوب ولا تغني عن ممارسة الذنوب ولا شك ان هكذا زيارة سوف يرفضها صاحبها رفضا قاطعا ويردها ردا شاملا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. انقطاع الكهرباء في مصر: -الكنائس والمساجد والمقاهي- ملاذ لطل


.. أزمة تجنيد المتدينين اليهود تتصدر العناوين الرئيسية في وسائل




.. 134-An-Nisa


.. المحكمة العليا الإسرائيلية تلزم اليهود المتدينين بأداء الخدم




.. عبد الباسط حمودة: ثورة 30 يونيو هدية من الله للخلاص من كابوس