الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المُشترك الأعظم – الإنسانية

نضال الربضي

2013 / 10 / 31
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني




رأيته في الصباح يلتف بكلتا يديه حول رقبة أخيه الذي يحمله و برجليه الصغيرتين حول الخصر، بدا لي مشهدا ً مُغرقا ً في البساطة و التعقيد في ذات الوقت. انتابني شعور ٌ غامر بالشفقة عليه من عجزه الطفولي و اضطراره للاعتماد على أخيه في هذا الصباح الباكر. لم أعلم ما الذي أخرجه فقد كنت ُ في المنطقة الصناعية أقف بسيارتي أمام محل الميكانيكي بانتظار أن يفتح، و توجهت ُ أثناء الانتظار لكافيتيريا قريبة لأنني لم أستطع الصبر عن القهوة. قبلها كانت ست فتيات تتجهن للمدرسة في زيهن الأخضر، واحدة فقط منهن بدون حجاب، لكن الابتسامة كانت على الوجوه الستة. في نفس الشارع تلميذان يحملان حقائبهما المدرسية، و في الطريق سيارات برجال و نساء، كل ٌّ إلى وجهته.

لا أخطئ إن قلت أننا جميعا ً نشترك في نفس الحاجات: الحرية، الأمان، الصحة، العمل، المأكل و المشرب. كلنا لنا معتقدات نطلق عليها أسماء مختلفة: هذا ملحد، هذا لا ديني، هذا ربوبي، هذا مسيحي، هذا مسلم، هذا يهودي، هذا بوذي، هذا هندوسي، لكنها كلها في النهاية تصوراتنا عن الحقيقة.

كلنا ننحدر من أصول لها تاريخ و لها حضارة و لها مساهمة فعالة في المسار الإنساني إيجابا ً و سلبا ً، لا أحد منا ملاك و لا أحد منا شيطان، لنا و علينا. كلنا لدينا فكرة عن أنفسنا ليست هي الحقيقة لأنها تختلف عن شيئين، فهي تختلف عن رؤية الآخر لنا و تختلف عن الحقيقة الموضوعية الحيادية، و هذه ثلاث أشياء مختلفة: 1. رؤيتنا لأنفسنا. 2.رؤية الآخرين لنا. 3. الحقيقة المحايدة.

لماذا إذن فشلنا أن نعترف بانتماءنا إلى الجامع الأوحد و الأعظم الذي هو الإنسانية؟

الجواب على هذا السؤال يكمن في كلمة واحدة: الأدلجة. يعني أننا نتعرض في سنوات حياتنا الأولى لبرمجة عقائدية أو أيدولوجية تشكل المنهج الذي ننظر إلى الحياة بواسطته و ترسم شكل هذه الحياة و الطريقة التي سنسلك بواسطتها في الحياة و الكيفية التي سنتفاعل فيها مع الناس و المجتمع و العالم و الوجود الذي هو أصلا ً أصبح له معنى معين نفهمه نحن على أنه "الحقيقة" و هو طبعا ً مجرد رؤيتنا نحن و اعتقادنا و ليس أكثر.

لا نستطيع أن نتخلص من الأدلجة بالكلية، لأن عقل الطفل من خلال قانون الانتخاب الطبيعي قد أصبح مبرمجا ً ليقبل الإرشاد الوالدي فقد طبعت ملاين من سني التطور لديه خاصية قبول الإرشاد من خلال التجربة التي علمته (هنا أقصد الإنسان المشاهد و المجرب معا ً) أن عصيان الوالدين تقود للموت افتراسا ً أو سقوطا ً أو بأي شكل آخر من أشكال الخطر الموجودة في البيئة.

المشكلة الحقيقة أصبحت أن الأدلجة قد خرجت عن هدفها الأصلي الذي يُقصد منه حماية الفرد إلى قصد آخر و هو إظهار تفوق الفرد على حساب الفرد الآخر أو المجموعة الأخرى أو الشعب الآخر أو الدين الآخر. تم هذا مع ظهور المدن الكبرى، فتعقيدات المؤسسة الدينية و المؤسسة الحاكمة كان لا بد من أن تتخذ الأدلجة منهجا ً لاستعمار العقل البشري بإخضاع الفرد للمؤسستين ضمانا ً لبقائهما من جهة و حفظا ً لكيان الدولة من جهة أخرى.

أما بظهور الرأسماليات الحديثة فقد أصبح من الضروري ضمان استمرارية الإنتاج الصناعي مجتمعيا ً و تثبيت الأسس التي تقوم عليها الثروة الفردية من خلال تثبيت مفاهيم العمل و الكد و الكفاح و الإنتاج و الإستهلاك الفردي كنوع من المكافأة على العمل مع ضمان بقاء العيون و القلوب متعلقة بدار أخرى يتم فيها تعويض هذا الكد و الكفاح (عند المتدينين) أو مستوى رفاهية مرغوب مصحوبا ً بنزعات عقلية فلسفية (عند الملحدين) أو كليهما معا ً بدرجات متفاوتة، كأساليب استدامة.

لكن استدامة المصادر الاستهلاكية للقطعان البشرية الهائلة يتطلب بالضرورة من الدول الكبرى خوض نزاعات يجب أن تظل أسبابها الحقيقة الاقتصادية خفية ً، فيتم و بكل خبث توظيف الإيدولوجية الدينية و إذكاء صراعات مذهبية و عرقية عند الشعوب التي تملك هذه المصادر و ذلك بغرض إشغالها عن حقيقة خطف هذه الدول الكبرى لمواردها، هذا من جهة، و من جهة أخرى تسهيل عملية الخطف، و من جهة ثالثة إعطاءها إحساسا ً زائفا ً بالانخراط في القضايا التي تصبح مصيرية لديها على الرغم من عدم منطقيتها و نتائجها الكارثية: "الصراع السوري" مثلا ً، العراق مثلا ً آخر، آفغانستان و نفط بحر قزيون مثلا ً ثالثا ً.

تسهم المؤسسة الدينية في هذا الصراع بدور ٍ كبير يطرح عليها علامات استفهام كبيرة، فكيف يمكن مثلا ً أن نفهم دعوات الجهاد في سوريا و استنفار الناس ضد بعضهم كسنة و شيعة و علوين و مسيحين؟ و كيف نستطيع أن نفهم توجه التيار السلفي من كل البلدان للجهاد في سوريا دون رقابة و بحرية وصول غريبة جدا ً؟ و كيف نفهم توفر الأسلحة و ديمومة الذخيرة و الصرف اليومي على المجاهدين؟

إن الأدلجة الدينية و تسلطها على الفكر و العقل لا يقابلها سلطة ذات فعالية قانونية مماثلة أو مقاربة فهي ما زالت ترسم دستورا ً موازيا ً للدستور الوطني و تجتذب ولاء ً أكبر من ولاء الوطن، و لا يسمح بانتقادها أو تصحيحها و تتسم بهالة من القدسية لا يمكن الاقتراب منها دون مساءلة أو ضرر، لكنها تخدم في النهاية مصالح اقتصادية و مذاهب سياسية و ينتج عنها تغير في الجغرافية و التوزيع الإثني و أشكال الاقتصاد، في مشهد غريب جدا ً لكنه حقيقي و خبيث.

ما زال البشر لا يحسون بقوة المشترك الإنساني الطبيعي الذي هو قبل الأدلجة و أقوى منها، لكن تفعيله في حد ذاته يتطلب أدلجة ً من نوع خاص تقوم عليها مؤسسات تؤمن بهذا المذهب الإنساني و تملك أن تؤثر على الشعوب و تتفاعل معها على المستوى الشخصي و الاجتماعي و الأهم الاقتصادي لأنه المفتاح.

لا أملك حلا ً لكني أعرض وجهة نظر أشترك فيها مع كثيرين، و يختلف معي فيها لا بد كثيرون.

لكن أليست هذه الطبيعة البشرية القائمة على الاختلاف؟

هذا الاختلاف الذي لا ينفي المشترك الإنساني و لا يفسده لكن يكمله و يرتقي به.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الدين والاحزاب والطوائف من عمل ابليس
مروان سعيد ( 2013 / 10 / 31 - 20:09 )
الاستاذ نضال الربضي تحية لك وللجميع
مقال رائع الانسانية والانتماء الوطني المشترك هو الاهم لان بدونه سنكون بلا الانسان وستبقا الاوطان اي الحجارة
انه اي ابليس اخترع شيئ اسمه الاديان ليفرق البشر عقائديا ويجعلهم يتناحرون واخترع لهم الاحزاب ايضا ولكن اعتبرها اخف وطئة من الدين
ويجب على البشر ان يفرقوا بين الروحانيات والارضيات اي العلاقة مع الله يجب ان تكون بين الانسان وبين الله علاقة محبة متبادلة تعكس هذه المحبة محبتنا لبعضنا نحن البشر وغير ذلك تكون اختراعات شيطانية بحتة
ونحن المسيحيين لايوجد لدينا شيئ اسمه دين بل علاقة مع الله انها علاقة داخلية ولكن بعض البشر المتعصبين لديانتهم الارضية البحتة اجبرونا الخوض بمهاترات معهم لكي نصحح مفهومهم الروحي
ومفهوم الدين اتى من الدينونة والحساب يوم الاخير وعلى المؤمنين الحقيقين بالسيد المسيح لادينونة عليهم
واعترف نحن المسيحين ننجر بعض الاحيان ونخطئ بسبب ما نسمعه كل يوم من عمليات ذبح وابادة وحرق كنائس فنقسى على اخوتنى المسلمين وهذا خطء نعترف به
وللجميع محبتي


2 - زمن التزوير والأكاذيب وتزييف الحقائق
الأشورية _من أرض أشور _ العراق ( 2013 / 10 / 31 - 20:50 )
والسؤال الأهم أخي في الأنسانية كاتب المقال هو كيف يعقل أن منبع الأرهاب الدموي التكفيري ينبع من شبه الجزيرة العربية ومن المملكة العربية السعودية بالذات,ولم تكن دولة كبرى مطلقا كأمريكا وغيرها؟؟؟ولأ نتناسى أن من السعودية نفسها نبع الأسلأم العربي الأصل والجذور,والذي نشر بالقوة والسيف وسفك الدماء في الشرق الأوسط !!! وكيف بعقل أن دويلة بصغر قطر العربية الأسلأمية,ونحن نرى ونسمع في أيامنا العجائبية هذه كم الشر والكراهية والحقد يكمن حكامها وأمرائها ورجال حكوماته على الشرق الأوسط وبالأخص لأبناء(سوريا والعراق ومصر ولبنان)!!!وهل يعقل أن سافكي الدماء البريئة ينقلبون لقضاة وحكام يأمرون بشن حروب وغزوات وأرهاب وقتل وأغتصاب لأوطاننا في الشرق الأوسط ؟؟؟ وأقصد الملعونة تركيا العثمانية الدموية قاتلة الملأيين من أتباع السيد المسيح !!! وهل يعقل بأجتماعات ومن تحت الطاولأت السرية وبجرة قلم من قبل حكام أمريكا واليهود يغتصب(شمال العراق_أرض أشور)وتختم بأسم الأكراد؟؟؟وكل هؤلأء أعلأه لا علأقة لهم بأرض الشرق الأوسط وليس لهم وجود وجذور متأصلة في تراب وحجر أوطاننا,ولكن نراهم يتكالبون ليتسلطوا عليها ويغزونها!!!


3 - إلى الأستاذ الكريم مروان سعيد
نضال الربضي ( 2013 / 11 / 1 - 09:51 )
تحياتي أستاذ مروان و أهلا ً بك

بلداننا العربية تعاني من مشكلة -شبه الدولة الدينية- و التي هي نموذج الدولة تضع في دساتيرها المكتوبة مرجع التشريع من الشريعة الإسلامية بينما معظم قوانينها الأخرى ليست منها، و في نفس الوقت يأخذ رجل الدين موقعا ً استراتيجيا ً من الحياة و السيطرة على نمط التفكير على الرغم من تعارض رجل الدين مع دستور الدولة.

في هذه الخلطة الغريبة العجيبة لا تكون الدولة دستوريا ً دينية لكنها شعبيا ً أقرب إليها، و لا يكون رجل الدين مسؤولا ً ذا منصب قانوني لكنه يتمتع بتأثير مماثل أو يفوق تأثير القانوني.

من هذا المنطلق نفهم كل ما يحدث في العراق، سوريا، مصر، تونس، ليبيا و كل ما سيحدث لاحقا ً إن لم نتدارك هذا المنهج المدمر، فالمنهج عقيدة فكرية و سلوك مستتبَع دائم يجر أحداثا ً

الحل هو الدولة العلمانية التي تفصل الدين عن الدولة و السلطات التشريعية و التنفيذية و القضائية عن بعضها و تعترف بالمواطنة كجامع أوحد ووحيد، و يبقى الدين في القلب و دار العبادة لمن شاء، عندها فقط سوف نطفو على سطح الحضارة. نحن الآن لسنا حتى في القاع، لكن مدفونين تحت رمل القاع.

تحياتي و مودتي


4 - رد إلى الأستاذ(ة) الآشورية_من أرض_العراق
نضال الربضي ( 2013 / 11 / 1 - 10:08 )
سيديسيدتي

التحية لك، أعتذر كون الإسم لم يتح لي معرفة النوع لأخاطبك كما يليق فم أعرف هل -الأشورية- تعود على الحضارة الأشورية أو هي تعود على الكاتبة.

الأسئلة المطروحة مشروعة و ضرورية و تفرض نفسها، هناك عدة أسباب لما نحن فيه، فهذه المنطقة منذ فجر التاريخ هي منطقة صاخبة تعرضت لهجرات من الهند و تركيا و كانت دوما ً موضع اقتتال و غزو بين ممالك و دول العراق و مصر و تركيا و فلسطين و سوريا، و أوروبا و اليونان لم تهدأ المنطقة يوما ً منذ فجر التاريخ المكتوب.

طالما كان الدين مغذيا ً للاستعمار و الحروب و خادما ً أو محركا ً لهما، و المذهبية داخل الدين الواحد أخطر أحيانا ً من صراع دينين مختلفين، فمثلا ً لولا تآمر المذهب المسيحي الغربي لما سقطت القسطنطينية المسيحية الشرقية، و لولا تآمر المذهب الوهابي لما سقطت سوريا المحكومة من العلوين و لا العراق

الأخطر هو أن الدين أصبح قناع الاقتصاد و ركوبة السياسة، بمعنى أن الدول العظمى لا بد لها لتحقق أهدافها في دول أخرى من وكلاء محلين يتكلمون لغة الشعب و يدينون بدينه و لهم عليه سلطة، فالوكلاء الأمريكيون في المنطقة الآن هم السعودية و قطر.

هذا يفسر كل شئ.

اخر الافلام

.. قوات الاحتلال تمنع أطفالا من الدخول إلى المسجد الأقصى


.. رئاسيات إيران 2024 | مسعود بزشكيان رئيساً للجمهورية الإسلامي




.. 164-An-Nisa


.. العراقيّ يتبغدد حين يكون بابلياً .. ويكون جبّاراً حين يصبح آ




.. بالحبر الجديد | مسعود بزشكيان رئيساً للجمهورية الإسلامية الإ