الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن التخاطر

الحسين الطاهر

2013 / 11 / 5
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


و هو قدرة الاتصال عن بعد telepathy..
يحلم البشر بامتلاك القدرات الخارقة منذ اقدم العصور، و تتعدد الاساطير التي تحكي عن احد البشر الخارقين عند جميع الشعوب، و من اساطير عصرنا الحاضر اسطورة امتلاك بعض الناس لقدرة الاتصال عن بعد مع غيرهم. و قد صيغت هذه الاسطورة بصورة "علمية" كما صيغت اساطير الماضي بصورة "دينية"، فدين القوم يبرر لهم ايمانهم، و العلم يبرر للعالم ايمانه اليوم !

تقول اسطورتنا بان بعض الباحثين و العلماء اكتشفوا وجود قدرة خارقة عند اشخاص معينين تجعلهم يوحون لغيرهم افكارا او يستقبلون منهم افكارا اخرى بدون اي وسيلة اتصال معلومة، فلا هم يكلمون هؤلاء و لا هم ينظرون اليهم و لا يتبادلون الرسائل فيما بينهم، و رغم ذلك هم "يخبرونهم" بما يريدون و يعلمون منهم ما يرسلون اليهم من افكار. و تقترح عادة الموجات الكهرومغناطيسية –او موجات غيرها غير مكتشفة و يولدها الدماغ- كوسيلة "علمية" لعملية تبادل الافكار.

و لاننا نعيش في عالم ديمقراطي فقد اقترح "العلماء" ان هذه القدرة موجودة عند جميع الناس، يتاورثونها ابا عن جد دون ان يعرفوا ذلك ! لكنها اقوى عند البعض و اضعف عند اخرين. و يتوقع "الباحثون" ان قدرة الاتصال عن بعد كانت اقوى عند اجدادنا البدائيين، ثم اتى السومريون بالحضارة فغُطيِّت هذه القدرة باغشية تعزلها عن وعينا، فاصبحنا لا نستخدمها رغم انها كامنة فينا. لكنها تظهر بين كل ان و اخر عندنا جميعا، و تظهر بوتيرة اعلى عند اشخاص معينين "خارقين".

و الدليل على وجود هذه القدرة هي كثرة القصص التي تروى عنها، فكثير هو ما يروى عن شخص يحس بان قريبا له في خطر، ثم يعلم حقيقة ذلك بعد حين، و شخص اخر يفكر بمهاتفة صديق له فيرّن موبايله و ليس المتصل الا من كانت النية معقودة على الاتصال به، و شخص ثالث يجلس مع حبيبته فيتكلمان سوية في نفس الوقت عن نفس الموضوع و قد يستخدمان نفس الكلمات. كما ان بعض الباحثين وجد هذه القدرة الخارقة جلية عند الحيوانات، فعندما ذبح ابناء ارنب في غرفة معزولة، وجِدت ام الارانب المذبوحة تتألم –في نفس اللحظة- في غرفة اخرى...

و يقال بان الحكومة الامريكية –و حكومات اخرى- اجروا التجارب لقياس هذه القدرة عند اشخاص معينين معروفين بامتلاكهم لها ليستخدموهم في عمليات التجسس او الاتصال بين قطاعات الجيش المختلفة، استغلالا لخاصيات مدهشة وجدت في هذه القدرة الخارقة منها: عدم تأثرها بالمسافات مهما بعدت و بقائها على قوتها و وضوحها اينما كان المرسل و اينما كان المستلم، اضافة الى خاصيات اخرى مفيدة...

و هذه الاسطورة المدهشة التي صيغت على شكل نظرية علمية و سيقت من اجلها الادلة، ليست الا حلما يتمناه البشر و لا ينالونه لأسباب علمية حقيقية. فالعلم لا يقبل الخرافة ايا كان مصدرها الا اذا اثبتت نفسها امام مشارط العلماء الدقيقة و تجاوزت اختباراتهم الصارمة، و هذه الاختبارات هي التي تجعل العلم مصدرا للحقيقة و تعزله عن طرق الناس الاخرى التي تتساهل مع الاخطاء و تنتصر للتعصبات الذهنية. و لاجل ذلك يقدّم العلم لنا انجازات حقيقية يراها كل البشر و يستفاد منها الجميع اينما استقروا و كيفما عاشوا، و لولا صرامة العلم هذه في استجلاء الحقيقة و التأكد منها قبل تبنيها، و لولا الشك الاولي و الية التصحيح الذاتية الموجودتان في العلم و اللتان جعلتا العلم مصدرا للراحة و التطور و نبعا للانجازات المهمة و المفيدة، لولا ذلك لما صمد العلم امام كل ما يعارضه من افكار موروثة و مشاعر قوية عند قطاع كبير من الناس.

اما حكمنا على قدرة الاتصال عن بعد بانها اسطورة و قصة خرافية لا حقيقة علمية فذلك للاسباب التالية:
اخترع البشر اللغة ليتواصلوا مع بعضهم مع ان اللغة ليست عملية عند استعمالها عبر مسافات طويلة، فالصوت يضعف كلما بعدت المسافة ثم لا تستطيع الاذن البشرية التقاطه عند بُعد معين. فان كانت للبشر قدرة اخرى على الاتصال فيما بينهم فلم اضطروا لاستعمال اللغة؟! مع ان الاولى اكفأ كثيرا من حيث ايصالها للافكار بين العقول كما هي –دون التحريف الذي يصيبها بسبب سوء التعبير او سوء الفهم-، و من حيث انها لا تتأثر بالمسافات بين المصدر و المتلقّي.
ثم ان افرادا من الشعوب المختلفة كثيرا ما التقوا و لم يتواصلوا فيما بينهم بصورة مناسبة الا عند وجود مترجمين، و كان الاحرى بهم ان يتبادلوا الافكار عند الاضطرار فيتواصلوا، و لا يجدي القول هنا بان القدرة ضعفت مع الحضارة فكثير من البدائيين الذين لم تمسهم الحضارة الا قليلا يتقابلون فلا يتبادلون الافكار بل يتواصلون عبر الكلام او عبر الحروب ! و يظهر ان السيف و اللسان كلاهما اقوى من العقل و قدراته "الخارقة" !
قد يثور هنا اعتراض بان التخاطر موجود لكن الانسان لا يستعمله لكلفته الاقتصادية، حيث انه يحتاج الى طاقة عالية تستهلك موارد البشر الضئيلة من الطاقة و لذلك استغنى الانسان عنه لصالح استعمال الكلام (اللغة)، لكن هذا اعتراض مردود من نواحٍ ثلاثة، اولها هي عدم وجود اثبات علمي على هذا الادعاء، فمن قال بان التخاطر يحتاج الى طاقة عالية؟ و من قال بان موارد الانسان المتوفرة المهدورة لا تعَوَّض بفوائد التخاطر المزعومة؟ و هل هناك من قاس اصلا الطاقة التي يصرفها الدماغ لاجل التخاطر و قارنها بالطاقة التي يصرفها لاجل الكلام و تلك التي تتوفر له بصورة عامة؟!
و ثانيها هي ان الحضارة التي وفرت للبشر موارد اكثر و امنا غذائيا اكبر هي التي خففت من استعمال البشر للاتصال عن بعد بالتخاطر كما يزعم الزاعمون. فكانهم يقولون بان التخاطر يحتاج لمصدر طاقة عال متوفر للانسان، و لذلك استعمل الانسان التخاطر حين كان لا يملك هذا المصدر، ثم استغنى عن التخاطر عند توفر مصدر الطاقة هذا له !
و ثالثها هي اننا لا نرى افراد العوائل المرفهة لاجيال متعاقبة (ممن تتوفر لهم الطاقة المحتاجة للتخاطر لفترة معتبرة) يستخدمون التخاطر و لو بشكل اكبر نسبيا عن الفقراء، مع ان الموارد هذه من الممكن ان توقض ما نام – و لم يمت- من قدرات البشر المكلفة اقتصاديا.
اذن هذا الاعتراض المفترض مردود علميا، فلا يوجد سبب يجعلنا نؤمن بان للبشر قدرات خارقة مثل الاتصال عن بعد بالتخاطر.

و عجيب ان تعمم فكرة المساواة الى الكائنات الحية الاخرى بجانب البشر، فتنسب هذه القدرة للحيوانات ايضا، و هنا نسال مجددا اذن لماذا تتواصل الحيوانات فيما بينها عن طريق الروائح (كالنمل) او الحركات (كرقصات النحل) او الاصوات (كالدلافين)، ان كانت تستطيع التواصل عبر الافكار لوحدها ! خصوصا و ان التجارب التي اجريت على الحيوانات –و على البشر- لاثبات وجود هذه القدرة عندها كلها تجارب معيبة راجعها مختصون من العلماء و رفضوها للاخطاء الكثيرة التي تحويها.

اما عن قصص الشهود و ما يراه الناس في حياتهم اليومية، فذلك مما لا يعتد به في العلم لانه معروف ان الناس يبالغون في التفسير و استنباط القواعد من احداث عشوائية لا يربط بينها رابط ! فالصدفُ العشوائية تحدث رغم ندرتها، لكن الانسان يكره الايمان بالصدفة. و اسالك بالله كم مرة فكرت في الاتصال بشخص ما ثم لم يتصل ؟! و كم مرة خفت على احدهم لاعتقادك انه في خطر ثم لامك على قلقك الزائد، بل و كم مرة تكلمت مع احد المقربين اليك بموضوع لم يكن يخطر له على بال، و قلت له امورا سمعها منك دون ان يذكر انه كان يفكر بها. اما الصدف فتحدث، فالمواضيع التي تتحدث فيها مع شخص ما محدودة، و كذلك الكلمات التي تستخدمها، و الغريب هو ان لا يصادفكما –و لا لمرة واحدة- ان تتشاركان فكرة او جملة في نفس الوقت !
زِد على ذلك ان الانسان يميل الى العادة، فاوقات اتصالك بشخص معين قد تكون في وقت محدد كل يوم، او كل اسبوع، و لا غرابة في الامر ان حاولتما الاتصال ببعض في نفس الوقت، كما لا غرابة في الامر ان تحاولا الاتصال ببعضكما بعد فترة غياب طويلة، فكلاكما مشتاق لصاحبه و اراد ان يحدثه ! و من بين الاف او ملايين المرات التي يتصل فيها المرء باشخاص مختلفين، لا شك بان يتزامن اتصال شخصين ببعضهما في وقت ما !
و النقطة هي اننا نميل الى تذكر الاحداث الغريبة (المصادفات) و ننسى ملايين الاحداث العادية، التي لولاها لما حدثت هذه المصادفات القليلة.
و البشر جميعا متشابهون في ذلك، و لهذا السبب – و لان افراد الحكومة بشر- فانني لا استبعد ان تحاول الحكومات تجربة قدرة الاتصال عن بعد المزعومة لفوائدها الواعدة. لكنني اذكر بان الجيش لا يزال يستخدم وسائل الاتصال التقليدية و لا زال الجواسيس يلقى القبض عليهم في مختلف الدول لحوزتهم وثائق او صور كان من الممكن ان يحموا انفسهم بالتفكير بها ثم نقلها الى رؤسائهم عن طريق الفكر وحده، بغير ان يعرضوا انفسهم للكشف و ربما الاعدام !
فهل اجرت بعض الحكومات تجاربها على نظرية الاتصال عن بعد (التخاطر) ثم اكتشفت جهلها و سخافتها؟ ام كانت تلك دعايات الحرب الباردة لتشجع الحكومة المعنية اعداءها على صرف اموالهم و تبديد مواردهم فيما لا ينفع؟!

و ان لم يكن للتخاطر وجود، فاقتراح "طريقة يعمل بها" عجيب ! فالطريقة المقترَحة هي موجات تحمل الافكار تتولد في الدماغ، لكن كهرباء الدماغ غير كافية لتوليد موجات بالقوة المزعومة، و هذا امر مفروغ منه في العلم، كما ان عدم تأثر هذه الموجات بالمسافة امر غريب، فمنذ متى تستقل قوة الموجة –اي موجة- عن المسافة التي تقطعها؟! و اخيرا كيف يستقبل الدماغ –و باي جزء فيه- الاثار الضئيلة التي لا تقاس الا بجهد جهيد لموجات الدماغ من على بعد مسافات طويلة ؟! و ارجو ان يكون الجواب علميا لا تكهنا فعصر الكهانة ولى، او هكذا ارجو! اما ان كانت هذه الموجات المقترحة هي من نوع جديد لا يشبه غيره بتاتا، فاني اقترح على المؤمنين بالتخاطر ان يعثروا على هذه الموجات المزعومة اولا (و التي اقتُرح وجودها قبل عقود طويلة و لم تكتشف بعد!) ثم بعد ذلك يخاطرون بعرض نظريتهم امام الملأ، و الا فما موجاتهم الا تنانين تطير في سماء احلامهم، ابعدنا الله عنها و اِياهم.
و لهذه الاسباب كلها و غيرها لا يتقبل المجتمع العلمي وجود قدرة الاتصال عن بعد، رغم ان العلماء لا مانع لديهم من تقبل "الحقائق" المزعجة فما بالك بحقيقة "مدهشة" مثل وجود هذه "الميزة" عند البشر، لكن كل ما يريده العلماء من اي فكرة ليؤمنوا بها و يصدقوها هي ان تكون مثبتة، اي "صحيحة" !








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رد فعل لا يصدق لزرافة إثر تقويم طبيب لعظام رقبتها


.. الجيش الإسرائيلي يعلن قصفه بنى تحتية عسكرية لحزب الله في كفر




.. محاولات طفل جمع بقايا المساعدات الإنسانية في غزة


.. ما أهم ما تناوله الإعلام الإسرائيلي بشأن الحرب على غزة؟




.. 1.3 مليار دولار جائزة يانصيب أمريكية لمهاجر