الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التغيير يبدأ بنا

إلهام مانع
إستاذة العلوم السياسية بجامعة زيوريخ

2013 / 11 / 6
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني



ما الذي يصنع الإنسان؟
ما الذي يجعل منه الشخص الذي نعرفه اليوم؟
أحياناً اتساءل، هل كنت سأكون نفس الشخص بدون عيني أمي؟ صدى عينيها الصامت لاحقني طوال حياتي. لولا هذا الصدى لما كتبت صدى الأنين، أول رواية ِ_بوحٍ الفتها.
هل كنت سأكون نفس الشخص بدونِ صوت ابي؟ مثله مثل أمي، كان يتحدث معي طويلاً، في الواقع كان يتحدث معي بالساعات، يتحدث معي عن الحياة، عن الموت، عن الدين، عن حرية الإنسان وإرادته _وعن قدرة الإنسان في أن يصنعَ قدرة.
هل كنت سأكون دون طريقته في اللعب معي؟
كان يلعب معي وأنا طفلة بطريقته!
كان يبدأ ببيت شعر، وأنا علي أن أنهيه ببيت شعر يبدأ بالحرف الذي انتهى به بيته!!
كم أحببت اللعبَ معه.
كان الفيلسوف الذي آمن بي. آمن بي اكثر مني.
“أحلمي بالنجوم، اعملي بجد ومثابرة، وبقليل من الحظ، ستمسكين بالنجوم بين يديك.”
لم أفهم يوماً ما رآه في. لكني تعلمت مع الوقت أن اثق في إيمانه بي.
وقالها لي في الواقع كل يوم بألف طريقه:
"النجاح لا يأتي من فراغ.
والحلم لا نحققه بالتمني.
يحتاج إلى جهد، يحتاج إلى عمل، ويحتاج إلى المثابرة، بصبر بلا كلل".
لكنه كان يعرف ذلك اكثر من غيره.
-----
أبي كان يتيما، من صنعاء، توفي ابوه وهو في السادسة من عمره. وعرف لذلك معنى الخوف، الفقر، والجوع.
أمه قالت له وهي التي لا تقرأ ولا تكتب: "غيرك له اب، أما أنت فمستقبلك مع التعليم".
كلمات كالدبابيس انغرست في نفسه كاليقين.
فتعلم على ضوء الفجر. كان يعمل مع دراسته في صناعة الصابون، نقل الفحم ورعاية الجمال، ويدرس في الوقت نفسه. ولأن زيت القنديل كان غالياً، كان يستيقظ فجراً ليذهب إلى المسجد ليقرأ دروسه على نور الضوء فيه. فكان من الأوائل. وحصل على منحة في بعثة الأربعين الشهيرة، اول بعثة تعليمية تخرج من صنعاء إلى الخارج في عام 1947.
تخيلوا، تخيلن، أين كنت سأكون لو لم يخرج في بعثة الأربعين؟
تعلم واصبح دبلوماسياً، وتغيرت رؤيته للحياة، ولذا، عندما ولُدت لم يكفهر وجهه، بل فرح بولادتي، ابتهج بالبنت!! وكان يفخر بي ويذكر أسمى في كل مناسبة، وأحيانا بلا مناسبة، يذكر أسمي في مجتمع يخجل من ذكر إسم المرأة.
نسميها "العائلة" في اليمن، نسميها "البيت"، كأنها كتلة هلامية لا يجب أن نسميها خوفاً من عارٍ لا يربض سوى في عقولنا.
لكنه كان رجلاً مختلفاً.
كنت اسميه الفيلسوف.
الرجل الذي كان يفضل العمل في حديقته على رفقة الوزراء. فتعلمت منه أن الحياة لا تستحق أن نعيشها دون كرامة.
لولا أنه تعلم، ما تعلمت.
لولا أنه تغير، ما وفر لي الفرصة كي "أكون". أكون كما أريد.

------

قصص أمي في المقابل كانت مختلفة. قصصها كانت معجونة بالألم.
هي أيضاً عرفت معنى الفقر مع اسرتها.
أبوها كان ابن شيخ في العُدين. هربه أبوه ذات ليلة خلسة خشية من قبضة الإمام.
قال له موتك أرحم من حياتك رهينة لديه. وهرب. عاش فترة في السعودية ثم رحل إلى مصر. تزوج هناك ثلاث مرات.
كانت أمها الثالثة، تزوجها بعد وفاة الأولى وطلاق الثانية.
كان غنياً، لكنه فقد ثروته بين ليلة وضحاها. فلم تعرف العز الذي عاشه بعض من أخواتها. عرفت معنى الفقر، الجوع والملابس المهلهلة. ولذلك كانت، مثل ابي، لا تطيق رؤية فقير يستجدي.
قد عاشت ما عاناه من حرمان.
-----
ومع الفقر، كان ألم أمي من نوعٍ أخر.
تحكي لي عنه من منظور ما عاشته هي.
الألم من أن تكون انثى، من أن تُختن وهي في الثامنة، أياد تمسك بها من كل جانب وتسمرها على السرير ومقص الداية يذبح قطعة اللحم البضة. صراخها بأعلى صوتها، وينبوع الدم المتدفق، والألم. الألم الذي مكنها من رفس رأس الداية، والإفلات من قبضة تلك الأياد. ثم ذكرى هروبها من الغرفة، ومسار من دمها يتبعها في هرولتها مع كل خطوة. تجرى وراء أمها. تلك التي خرجت من الغرفة فزعة، لا تريد أن ترى ما يحدث لأبنتها. تعرف ذلك الألم جيداً. قد عاشته هي أيضاً. لكنها عادة، نكررها دون أن نسأل أنفسنا لماذا. نكررها دون ان نتساءل عن نتائجها، وعن الأذى الذي تتسبب فيه.
وجه جدتي كان تشكيلة من ألوان متناقضة، هي أيضا تتعذب، وعينا أمي تعاتبانها بألم هيستري، احتضنت جدتي بقوة وتوسلت إليها: "لا تتركيني للمقص من جديد".
عندما حاولت الداية ان تجرها مرة اخرى، منعتها جدتي. وصرخت في الداية: "قد قطعتِ ما يكفي".
-----
كان ألمُ أمي من نوعٍ أخر.
كان ألمُ أمي من نوعٍ أخر.
ألمُها من لعنة جمالها. جمالُها كان مضرب الأمثال، ووالله أني وأنا طفلة كنت احدق فيها واتساءل كيف يمكن للمرأة أن تكون بهذا الجمال.
لكن جمالها وهي طفلة كان لعنة. خاف عليها أبوها، وقرر أن يزوجها وهي لم تتعد الثالثة عشرة من عمرها.
أمها توسلت إليه: " إنها أجمل بناتي يا حاج. ما زالت صغيرة يا حاج. حرام يا حاج".
لكن الحاج حجب العقل وقال إن جمالها لعنة. أراد لها الستر. فحفر لها القبر.
كان ألم أمي من نوع أخر.
كان ألم أمي من نوع أخر.
ألم معجون بقصص نساء كثيرات عرفتهن، قصص مؤلمة، والألم كان دائماً معجوناً بالرجل.
ذلك الذي يؤذي المرأة: "يؤذيها بجبروته، يؤذيها بسيطرته، يؤذيها بظلمه".
الرجل، كانت تقولها لي بدون كلمات، لا يجب أن نثق به. الرجل لا يتسبب سوى في الألم.
لكن أبي كان رجلاً!
أبي كان رجلاً ايضاً.
اليس كذلك؟
وأبي كان الإنسان الذي احبني وحماني. وكنت له مهجة القلب وقرة العين. أبي كان الرجل الذي مكنني من أن أكون كما أردت. أبي كان دوما بطلي. البطل الذي احببت.
------

مع الوقت تعلمت أن القصة كي تكون متكاملة يجب أن نحكيها من كل جوانبها المختلفة. قصص أمي لم تكن لتكتمل دون سماع صوت أبي وكل الرجال في تلك القصص. تماماً كما أن قصصها ما كانت لتكتمل دون صوتها وصوت النساء فيها.
مع الوقت أدركت أنه من الضروري أن نُقر بالألم الذي يتسبب به الظلم والتمييز، لا ننكره، و لا نتهرب منه.
لأن الأذى كل الأذى، أن ترى الألم ثم تنكره.
مع الوقت ادركت أيضاً أن الظلم والتمييز كي نحاربه يجب أن نضعه ضمن الإطار والسياق الاجتماعي الذي يتسبب فيه.
مع الوقت تعلمت أن تغيير ذلك الإطار المجتمعي يتطلب أن نغير في ثقافتنا، وأن التفسير الديني هو جزء من هذه الثقافة، ويجب أن نصلحه.
مع الوقت تعلمت أن التغيير يحتاج إلى الاثنين معاً. المرأة والرجل معاً. الأثنان معاً. معاً يقدران على التغيير.
ومع البحث والمقارنة انتبهت ايضاً إلى أن التغيير الذي نطالب به في مجتمعاتنا، حدث أيضاً في مجتمعات وثقافات بديانات أخرى، وأننا لذلك لسنا متفردون في التمييز. وكما تغيرت تلك المجتمعات والثقافات فيها، يمكننا نحن أيضاً أن نتغير.
والأهم في كل ذلك، مع الوقت، تعلمت أن القضاء على الظلم والتمييز لا يأتي بالجلوس والتمني.
إذا أردت التغيير فعليك بالعمل من أجله.
لا بد من الفعل من أجل التغيير.
من أجل العدالة والمساواة في الحقوق علينا بالفعل الساعي إلى التغيير.
لا شيء يأتي من فراغ.
لا شيء يأتي دون ثمن.
والحقوق يجب أن ننتزعها.
الحقوق لا تُهب.
تعلمت أن أسُمى الأشياء بأسمائها، وأن لا أساوم عندما يتعلق الأمر بانتهاكات حقوق الإنسان، ثم أخذ موقفاً واضحا من هذه الانتهاكات.
واتخاذ هذا الموقف الواضح يتطلب فعلاً.
وفعلي كان دوما يتشكل بالكلمات. أنا أتنفس بالكلمات وهي أداتي في كسر جدار الصمت.
كنت ولازلت أكتب بثلاث اساليب: اسلوب الرواية، اسلوب مقال الرأي، والأسلوب العلمي البحثي.
----

هل ستندهشن لو عرفتن أني لم ابتكر أياً من الحكايات التي قصيتها في روايتي صدى الأنين، وخطايا؟ لم يجب أن اخترع حكاية والواقع يتجاوز كل خيال في قسوته وغرابته؟ الكتابة الأدبية كانت طريقتي في كسر الصمت، معها كنت أمسك بمرآه، وأعكس الأمراض المجتمعية والنفاق الذي ابتلت به مجتمعاتنا. معها كنت اقول: الا يحدث هذا لدينا؟ ألم يحن الوقت للتغيير بعد؟
وكما كانت الرواية فعلأ ساعياً إلى التغيير، كانت مقالات الرأي طريقاً أخر لكسر جدار الصمت.
بدأت في كتابة مقالات الرأي عام 2005. تحديدا بعد أن كتبت رواية صدى الأنين. شعرت معها أني ازحت كاهلاً عن صدري واصبحت قادرة على الكتابة، وأن أكتب كما أفكر، لا امارس رقابة على أفكاري. وهو امر صعب علينا.
لأنكم لو دققتم النظر كثيراً، ستجدون أننا كثيرا ما نقول ما لا نؤمن به، ونكتب نصف ما نفكر به.
نخاف من أن نجهر بأفكارنا كما هي. نكاد نخاف منها.
تعلمت بعد رواية صدى الأنين ان اكتب الكلمة وانا أعنيها. لا أرقص حولها. اضعها كما افكر فيها. وربما كان هذا هو السبب في الأقبال على سلسلتي مذكرات امرأة عربية، ومن أجل إسلام إنساني. كتبت عن قضايا كان محظورا الحديث ُعنها في الأعلام العربي، وكان لب ما أقوله أن أي إصلاح ديني لا يجدي دون إصلاح سياسي. الأثنان يأتيان معاً. كما أن التغيير لا يحدث إلا بالرجل والمرأة معا. فإن الإصلاح الديني لا يتم دون إصلاح سياسي.
بداية تلك المقالات صعبة. ربما لأني لم اتوقع حجم وكم رسائل الكراهية والتهديد التي تلقيتها. كانت تؤلمني. وأذكر أني في عام 2006 كدت أتوقف عن الكتابة. لولا نصيحة صديقة سويسرية عزيزة علي، مونيكا. حدثتها عن تلك الرسائل، قلت لها أني تعبت منها، وأريد أن اتوقف عن الكتابة. ردت علي قائلة: لكن ألا ترين أن هذا هو الهدف تحديداً من تلك الرسائل؟
كانت على حق. كلماتها جعلتني أستفيق. فواصلت الكتابة.
مع الوقت، وبقدر من الإصرار وربما العناد، يبدو لي اليوم أني تمكنت من الحصول على إقرار حتى ممن لا يتفقون معي، أني في الواقع "أؤمن بما أقول".
هناك اسلوب ثالث للكتابة كفعل ساعي للتغيير: الكتابة البحثية. كباحثة اسعى إلى استقصاء الواقع من خلال مناهج علمية لتحديد جذور مشاكلنا المجتمعية، واساليب علاجها وإصلاحها. فقط عندما نفهم جذور تلك المشاكل، اسبابها، يمكننا أن نحدد كيفية علاجها.
أنا باحثة في العلوم السياسية، لكني عادة لا التفت كثيراً إلى النظريات الكبرى، تلك التي تتجاهل الواقع الذي تسعى إلى تفسيره. أفضل أن انظر إلى سياق وبيئة الظاهرة التي اسعى إلى فهمها، ومنها استنبط الأنماط التي تفسرها. في الواقع كان هذا تحديداً المنهج الذي استخدمته عندما اجريت دراسة عن الدولة العربية وحقوق المرأة، والتي نُشرت في كتاب بنفس العنوان في لندن عام 2011.
من خلال البحث العلمي يمكننا أن نغير في مجتمعاتنا وهو في الواقع افضل علاج لنظرية المؤامرة التي لطالما سيطرت على تفكيرنا. بدلاً من أن نلوم غيرنا على واقعنا، دعونا ندرس هذا الواقع، ثم نرى ما هو الدور الذي نلعبه نحن في مشاكلنا. وبعدها، نبحث عن الحلول ونغير من واقعنا بأنفسنا.
------

هذه هي خلاصة ما أفعله اليوم: أكتب، ومعها أكسر جدار الصمت، وأملي، أن ما افعله ويفعله الالاف غيري في المنطقة، سيكون له تأثيراً على المدى البعيد.
لأني على قناعة أن انتهاكات حقوق الإنسان لدينا تحدث بسبب صمتنا نحن - بسبب تلك الكلمة الخرساء.
ولأننا نسكت عنها تتواصل. صمتنا هو الذي يجعلها ممكنة. ولذلك، كي نواجهها، كي نحقق العدالة والمساواة في الحقوق علينا أن نكسر ذلك الجدار بالكلمة ومعها الفعل.
لا تنتظروا من غيركم أن يفعلوا ما تتمنوه. لا تنتظرن من غيركن أن يفعلن ما تحلمن به. خذوا المبادرة بأنفسكم، خذن المبادرة بأنفسكن، ثم أصنعوا واصنعن التغيير الذي نحلم به جميعاً.
إذن أعود إلى السؤال الذي بدأت به هذا الحديث: ما الذي يصنع الإنسان؟
يصنعه الإنسان. الإنسان
تصنعه بيئته وتجاربه، والأهم مواقفه.
وما الذي يصنع التغيير؟
يصنعه الإنسان، الإنسان لا غير.
ذلك الذي يصر على أن التغيير ممكن رغم الصعوبة والمشاق.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تعليق
عبد الله خلف ( 2013 / 11 / 7 - 22:35 )
أنتِ جعلتِ مقالتكِ في (المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني) .
بما أن مقالتكِ تنتقد الأديان , فسأخبركِ عن وضع المرأه بالإلحاد و التطور , راجعي :
http://www.laelhad.com/index.php?p=2-1-131
الآن , بعد أن تقرأِ ما في الرابط , اسألكِ : هل تؤمنين بأن المرأه إعاقه تطوريّه حدثت للرجل؟... هل تؤمنين بأنكِ قريبه من الغوريلا؟ .


2 - المرأة في دولة عبد
ألأمل المشرق ( 2013 / 11 / 8 - 06:04 )
عبد، بما أنك تظن نفسك فهلوي, فسأخبركِ عن وضع المرأه في السعودية , راجع:
http://www.youtube.com/watch?v=UlHXwkxFdMo
الآن , بعد أن وتشاهد ما في الرابط , اسألكِ : هل تؤمن بأن المرأه مكرمة في المهلكة، بلد الإسلام؟ لا تؤمن بالتطور؟ هل تؤمنِ بأن هذا أقرب إلى الغوريلا من البشر؟
http://www8.0zz0.com/2012/03/02/12/860008020.jpg

اخر الافلام

.. بالأرقام: عمليات المقاومة الإسلامية في لبنان بعد اغتيال الاح


.. عبد الجليل الشرنوبي: كلما ارتقيت درجة في سلم الإخوان، اكتشفت




.. 81-Ali-Imran


.. 82-Ali-Imran




.. 83-Ali-Imran