الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أضواء على التطور – القرد الذي لم يصبح إنسانا ً

نضال الربضي

2013 / 11 / 7
التربية والتعليم والبحث العلمي


أضواء على التطور – القرد الذي لم يصبح إنسانا ً

أصبح التطور اليوم حقيقة علمية ثابتة لا مجال للتشكيك فيها، و يُدرَّس في جامعات العالم بدون تحفظ، مثلما يدُرَّس في المدارس. و يتم الاستدلال عليه بالأدلة المُثبتة بالحفريات و ذلك للكائنات ذوات الأعمار الطويلة نسبيا ً كالبشر، و بإعادة الإنتاج في المختبرات العلمية للكائنات قصيرة أعمار الأجيال مثل البكتيريا.

تجد حقيقة التطور صعوبة ً في القبول في أوساطنا العربية نظرا ً لعدة عوامل، منها التعتيم الإعلامي المقصود على مناقشتها في العلن و التضيق على و تقنين تدريسها في الجامعات مع إختفائها التام من مناهج المدارس، و الخوف من تبعات تحديها الواضح للنص الديني الحرفي المقدس لرواية الخلق، و تقديمها رواية أخرى مدعومة بالأدلة العلمية، مما يعني فتح أبواب التحدي على مصراعيها في وجه سيطرة و نفوذ المؤسسة الدينية و تراخي قبضتها الحتمي على العقول و القلوب.

إلّا أن أحد أهم أسباب عدم قبول التطور عندنا بالإضافة إلى ما سبق عرضه هو وصول المعلومات مشوشة إما عن قصد بهدف ضمان عدم قبولها و إما عن سوء فهم يستتبع نفس النتيجة فلا فرق. المعلومات الخاطئة و سوء الفهم هما موضوع مقالنا اليوم.

لم أتناقش مع شخص يوما ً في التطور إلّا و سألني نفس السؤال، نعم نفس السؤال: "يا زلمة معقول إحنا أصلنا قرود؟ طيب ليش القرد ما يصير إنسان؟" . سؤال ينطح نفسه بقوة دائما ً و يعبر عن عدم فهم لما هو التطور و كيف يعمل و جوابه البسيط دائما ً هو: "يا حبيب قلبي الله يرضى عليك، الإنسان لم يكن قردا ً أصلا ً". و عند هذه النقطة في النقاش يتجمد الزمن للحظات على مساحة وجه الشخص المقابل فيسأل: "كيف يعني؟" بدهشة شديدة.

فلنبدأ بالشرح المُبسط: كل جنس موجود على الكرة الأرضية تطور من جنس ٍ أقدم منه، و الأقدم منه قد تطور من جنس ٍ أقدم و هكذا، و لذلك لو عدنا في الزمن إلى الوراء ملاينا ً كافية ًمن السنين قد تصل إلى مليارات سنجد جَـدَّا ً مشتركا ً لجميع الأجناس قاطبة ً. و بالعكس أيضا ً صعودا ً في السلم التطوري كلما تقدمنا في السنين يظهر جد مشترك لمجموعة محددة من الأجناس منفصلا ً في السلسلة التطورية عن جد آخر لمجموعة من الأجناس الأخرى و هكذا.

عمر الأرض أربع و نصف مليار عام، لكن الجد المشترك الأول بيننا و بين مجموعة القرود العليا يعود إلى ما قبل 13 مليون عام، وقتها كان هذا الجد بدوره مُتطورا ً عن مجموعة الثديات الأولية من الدرجة الأولى المسماة Primates بنوعها المسمى Simians. قبل 13 مليون عام لم يكن هناك قرود ٌ أصلا ً و لا بشر، فابتدأ المسار التطوري يأخذ منحنا ً مختلفا ً حيث بدأ من هذا الجد المشترك مساران:

- المسار الأول ذهب في اتجاه تطوري نتج عنه ما أصبح اليوم معروفا ً باسم "أورانجاتان" أو القرد البرتقالي المُسمى بإنسان الغاب. (إقرأ عنه المزيد من هنا: http://en.wikipedia.org/wiki/Orangutan)
- المسار الثاني ذهب في اتجاه تطوري مختلف حتى وصل إلى العام 8 ملاين قبل الميلاد.

ماذا حصل عند 8 ملاين عام قبل الميلاد. حسن ٌ جدا ً: أصبح الكائن الموجود وقتها جدا ً مشتركا ً لمسارين مختلفين، حيث انقسم المسار التطوري لهذا الجد المشترك إلى قسمين:

- القسم الأول مسار ٌ تطوري نتج عنه حيوان الغوريلا. (شاهد صورته هنا: http://en.wikipedia.org/wiki/File:Susa_group%2C_mountain_gorilla.jpg)
- أما القسم الثاني فذهب في مسار تطوري آخر حتى وصل إلى ستة ملاين عام قبل الميلاد.

هذا الكائن أصبح قبل ستة ملاين عام جدا ً مشتركا ً لمسارين تطورين:

- المسار الأول نتج عنه لوحده مساران نتج عنهما ما يعرف اليوم باسم الشمبنزي و البونوبو.
(الشمبنزي شاهد صورته هنا: http://en.wikipedia.org/wiki/File:Schimpanse_zoo-leipig.jpg)
(البونوبو شاهد صورته هنا: http://en.wikipedia.org/wiki/File:Bonobo-04.jpg)
هذان النوعان انفصلا قبل 3 ملاين عام.

- أما المسار الثاني فقد نتج عنه: الإنسان، أعظم الكائنات على الإطلاق و أرقاها و أكثرها تكيفا ً مع البيئة و تطويعا ً لها و تدميرا ً. معنى هذا أنه قرابة العام 6 ملاين قبل الميلاد ظهر جنس البشر كبشر، لكنه لم يكن في الشكل الذي هو عليه الآن و لا في مقدرته العقلية و إمكاناته الفكرية.

قبل المضي في القراءة أكثر أنصح بالاضطلاع على هذا الرسم التوضيحي الذي هو ملخص المسارات التطورية السابقة، و كما يقال: الصورة خير ٌ من ألف كلمة.

http://believeinreason.com/wp-content/uploads/2013/02/evolution-simple-chart.gif

فإذا ً مما سبق رأينا أن القرود المختلفة في أشكالها الحالية: أورانجتان، غوريلا، شمبنزي، بونوبو، و صفاتها اتخذت مسارات تطورية مختلفة عن البشر، لم تكن أشكالها كما شاهدناها. صارت أشكالها هكذا عندما مضت في مساراتها التطورية المُنفصلة عن المسار التطوري للإنسان. فالإنسان لم يكن شكله مثلها و لم يتطور منها، و لم يكن يوما ً واحدا ً منها. بعبارة أخرى الإنسان لم يكن يوما ً قردا ً.

إن وجود الجد المشترك هو طبيعي جدا ً، و دعوني أعيدكم إلى بداية المقال حينما قلنا أن العودة لملاين معينة من السنين يجعلنا نجد جدا ً مشتركا ً بيننا و بين أي جنس، يعني ببساطة لو عدنا إلى الوراء "كثيرا ً" سنجد جدا ً مشتركا ً بين الإنسان و السحلية، و هذا ليس مُزاحا ً لكن علم خالص صافي.

بالمناسبة، هل لاحظتم يوما ً أشكال البشر و وجوهم و أجسادهم، ألا تلاحظون ملاحظة بسيطة أن بعض الناس "يوحي" شكله بشكل "الحصان" و آخرين يوحون بأشكال "وحشية" بينما آخرون يذكرونكم بـ "الزواحف"؟ هل فكرتم في هذا يوما ً ثم أخرجتم الفكرة "المجنونة" من عقولكم؟ ليست فكرة ً مجنونة، هي فكرة علمية بحتة، فينا صفات جينية من كل الحيوانات بدرجات مختلفة.

فلنُكمل الآن المسار التطوري للإنسان لكن باختصار:

قبل 6 ملاين عام ظهر الجنس البشري، و كانت مجموعة الأجيال البشرية تتطور عبر ملاين السنين، فظهر البشر المعروفون باسم "أوسترالوبيثاكوس أناميسيس" ثم " أوسترالوبيثاكوس أفارنسيس" و حتى " أوسترالوبيثاكوس روبستس" إلى ظهور أول سلاسة يمكن أن نطلق عليها إسم Homo المختصة بالبشر (أقرب شئ لهم) فبدأت بـ "Homo Habilis" ثم "Homo Ergaster" ثم "Homo Erectus" و هو الإنسان المنتصب مثلنا مُعاصرا ً بعدها لما ظهر من إنسان النيندرتال الذي انقرض، إلى أن وصلنا إلى "نحن" Homo Sapiens.
للتوضيح أكثر يمكنكم مشاهد صورة مُبسطة هنا: http://www.encognitive.com/node/10793

لم يكن الإنسان يوما ً في أي ٍّ من مساراته التطورية السابقة قردا ً، و لا في أي واحدة ً منها، و القرود لم تكن يوما ً بشرا ً و لا تستطيع أن تكون لأن مسارها التطوري جعل منها قرودا ً يعني جنسا ً آخر مختلفا ً، لهذا لا يصبح القرد إنسانا ً الذي لم ينتج أصلا ً من القرد.

التطور هو حاضر العلم و مستقبله و لا يمكن أن نبقى نعيش في عصور الجهل والتخلف، لا يمكن أن نبقى مشاهدين نشتري تذاكر التفرج على ماراثون الحياة و الحضارة جالسين نراقب العـَدْوَ المُبتعد بينما تختفي المقاعد ُ من تحتنا كلما ابتعد عنا العداؤون حتى اليوم الذي لا نشاهدهم فيه فيختفي آخر كرسي من تحتنا، فنجد أننا وقعنا في هاوية اللاوقت و اللازمن و اللاوجود، ثُقبا ً لولبيا ً مُخيفا ً ليس من هذا العالم و لا من أي عالم.

نحن ننقرض ببطء!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - استفسار
شاكر شكور ( 2013 / 11 / 7 - 23:21 )
شكرا استاذنا الكريم على هذه المعلومات المفيدة ، ارجو ان تتفضل بأفادتنا ايضا ، كيف نجد العلاقة التاريخية بين نظرية التطور هذه وقصة خلق الأنسان المذكورة في التوراة ؟ وهل هناك تعارض تاريخيا ؟ وهل يجوز ان يكون آدم الأول المخلوق بعقل إنسان قد سبقه آدم آخر مخلوق بعقل مختلف يشبه عقل الحيوان ؟ تحياتي الخالصة


2 - إلى الأستاذ شاكر - 1
نضال الربضي ( 2013 / 11 / 8 - 08:09 )
أهلا ً بك أستاذ شاكر،

سؤالك عن التوفيق التاريخي بين نظرية التطور و الخلق التوراتي يقوم على فريضة أنهما الإثنان حدثان واقعيان تما في مكان و زمان خاص بكل منهما، لكن الواقع يقول أن السؤال نفسه غير جائز تاريخيا ً.

السبب ببساطة أن نظرية التطور هي واقع علمي امتد عبر مليارات السنين من عمر الكوكب الأرضي بينما الرواية التوراتية المستمدة من السومرية و البابلية هي سرد ميثالوجي (الميثالوجيا كلمة يونانية معناها علم القصص) أسطوري يهدف إلى تكوين إطار معتقدي عام أكثر منه إلى عرض حقائق علمية أو تاريخية.

لذلك إن كنت تبحث عن التاريخ فعليك بعلم الأنثروبولجيا و حقائق التطور، أما إن كنت تبحث عن علاقة التاريخ بالإنسان الديني فعليك بعلم الأنثروبولوجيا الدينية و يمثله بين العلماء العرب الدكتور الفذ فراس السواح، إليك رابطا ً لبعض كتبه التي تستطيع تنزيلها و قراءتها في أي وقت و أنصحك بأن تبدأ بكتاب -مغامرة العقل الأولى- كبداية لأن فيه شرحا ً وافيا ً لتساؤلاتك المشروعة:

http://www.4shared.com/folder/g6RP8byE/__online.html


3 - إلى الأستاذ شاكر - 2
نضال الربضي ( 2013 / 11 / 8 - 08:10 )
كيف نفهم التكوين التوراتي في المسيحية الكاثوليكية؟ قديما ً كان المسيحيون يؤمنون بحرفية النص الخاص بالتكوين و آدم و حواء و نوح ...الخ من قصص سفر التكوين، أما الآن فإن الكنيسة أصبحت تنظر إلى هذه الأسفار على أنها سرد رمزي للتاريخ، و السرد الرمزي هذا يمكن تشبيهه بلوحة تعرض في مشهد واحد كل الحقب الزمنية مرة واحدة بهدف وضع الكشف الإلهي للإنسان في إطار يحدد العلاقة بينهما (الله و الإنسان) و تصف الأحداث الحقيقة برموز و تشبيهات أدبية.

بمعنى أن آدم و حواء هما الإنسان، و التكوين هو الخلق برمزيته و ليس بكيفيته أو زمنه فهذه مهمة العلم أن يكشفها و ليست مهمة الدين (و هذه ثورة إصلاحية تتبناها الكنيسة الكاثوليكية الآن) و القصة تقول لنا أن الله خلق الإنسان و يرعاه، و على الإنسان أن يسعى لكي يبني و يعمر الأرض من خلال العمل الذي هو في حد ذاته مشقة و تعب لكنه المنهج الطبيعي. و هنا أيضا ً تبرز مشقة العمل كعقاب إلهي حسب التصور البشري بينما الحقيقة أن العمل هو نتيجة منطقية للوجود فلا يمكن أن يجلس الإنسان و ينتظر أن يأتيه طعامه و ملبسه و مسكنه.


4 - إلى الأستاذ شاكر -3
نضال الربضي ( 2013 / 11 / 8 - 08:11 )
الإنسان المُتعب يعتقد أن الله يعاقبه و يسجل هذه الرؤية، و نستطيع نحن تفنيد هذه الرؤية طالما أن النص بين أيدينا لنحلله و نفكنه فنصل إلى أصل التصور.

لاحظ معي أستاذ شاكر أن الدين في كل بنيته هو رمزي تجريدي، و لهذا فمنهجه أدبي نفسي تفاعلي إنساني، و هو و إن كان يخالف العلم في منهج العلم القائم على الأدلة و الاستدلال المنطقي إلا أنه يُكمل العلم حين يفتح مجالا ً لقبول ما لا يرى و يُحفِّز البحث عن غير المرئي للانطلاق نحو كشوفات جديدة ستمكن العلم يوما ً ما من قياس بعضها.

أنا أقدم لك نظرة ً مفتوحة، حيث العلم هو الأساس الذي تقوم عليه الحياة و لا قيام لها بدونه، و حيث الدين هو إشارة إلى ما لا نفهمه بعد لكننا نستطيع أن -نعلم- وجوده إذا قسنا الموجودات و أشكال الوعي ثم قارنا بين بساطتها و بين عظمة الكون فاستدللنا على وجوب وجود أشكال وعي أعظم.

ليس الإيمان هو رحلة الأحمق الساذج، لكن هو في الحقيقة التحدي الذي يقبله الشجاع الباحث المستنير الذي لا يغلق الباب أمام نفسه و لا يرتكن إلى لذة إنكار الغيبيات و راحة إغلاق الباب.

دمت بود.


5 - تعقيب
شاكر شكور ( 2013 / 11 / 8 - 14:15 )
شكرا استاذنا الفاضل على هذا التوضيح المفصل والذي أجبت به على كثير من التساؤلات التي تدور في ذهني ، تحياتي الخالصة


6 - إلى الأستاذ شاكر
نضال الربضي ( 2013 / 11 / 8 - 17:20 )
أهلا بك دوما ً أخي الكريم شاكر!

اخر الافلام

.. نقل جريحين برصاص الاحتلال الإسرائيلي في شارع القدس بنابلس


.. غارة إسرائيلية تستهدف سيارة ببلدة شعث بمنطقة البقاع شرقي لبن




.. توسع رقعة الحرب في السودان تتسبب بأزمة نزوح وجوع حادة


.. صحيفة إسرائيلية: احتلال غزة عسكريا لن يضمن أمن إسرائيل بل سي




.. آثار قصف إسرائيلي على مركز مساعدات تابع للأونروا وسط قطاع غز