الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مطلوب ثورة!

إكرام يوسف

2013 / 11 / 8
التربية والتعليم والبحث العلمي



في عام 1936، حذر الدكتور طه حسين في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر"؛ من ازدواج التعليم قبل الجامعي إلى تعليم ديني وتعليم مدني، منبهًا إلى خطر هذا الازدواج على الثقافة المصرية! و في بداية عملي بالكتابة (أوائل الثمانينيات) كتبت مقالا بعنوان "أطفالنا، ومدارس اللغات"، أؤيد فيه الإقبال على تعليم أطفالنا لغات أجنبية، وأطالب بإدخالها إلى المدارس الحكومية (أيامها كان تعليم لغة اجنبية يبدأ من المرحلة الإعدادية) وأتحفظ على تعليم أبنائنا مواد التفكير ـ العلوم والرياضيات ـ بلغة غير لغتهم الأم، وكانت وجهة نظري أن هذا النهج سوف يخرج لنا أجيالا تفكر بلغة مغايرة لتفكير بقية أبناء الوطن! يومها قال لي أستاذنا عبقري الصحافة المرحوم صلاح حافظ ـ الذي أشرف بأنني تتلمذت عل يديه ـ إنه لن يغير حرفا واحدا مما كتبت، وقال لي كلاما رفع معنوياتي إلى عنان السماء، كان دافعي للاستمرار في مجال الكتابة.
ولاشك أننا شهدنا التأثير المجتمعي لتحول التعليم تدريجيا، إلى سلعة تتراوح جودتها حسب المقدرة المادية لأهالي التلاميذ! فلم يعد الأمر يقتصر على مدارس يتخرج معظم طلابها، وقد أصبحت العربية لغتهم الثانية أو الثالثة، وتكرس الانقسام الطبقي في المجتمع؛ حيث لم يعد يفكر في الالتحاق بالمدارس الحكومية، إلا أبناء المضطرين لضيق ذات اليد؛ ثم يتسربون منها بمعدلات متزايدة سنويا! وإنما نجح لصوص عصر المخلوع في تحويل التعليم في مصر إلى فرص استثمارية، يكنزون منها الثروات على حساب الثقافة المصرية والانتماء للوطن، وتكافؤ الفرص بين أبناء البلد الواحد.
فعلى مدى العقدين الماضيين، لم يعد الازدواج التعليمي يقتصر على التعليم الديني والمدني، أو على مدارس اللغات والمداس الحكومية، وإنما شهدنا توغلا سرطانيا لمدارس تتبع دولا أجنبية، وشهادات دولية، تتطلب عشرات الآلاف من الجنيهات سنويا لكل تلميذ، وما استتبعه ذلك من إغلاق سوق العمل امام ابناء المدارس الحكومية، وتراجعها أمام خريجي مداس اللغات التي لا تحمل جنسيات أجنبية. وقبل سنوات، أبديت دهشتي لصديقة تدهورت أحوالها المادية، لكنها تصر على بقاء أبنائها في مدرسة شهيرة، مع ارتفاع مصروفاتها؛ على الرغم من أن أبنائها ـ كبقية التلاميذ ـ توقفوا عن الذهاب إلى المدرسة، وتحولوا الى الدروس الخصوصية والمراكز التعليمية التي انتشرت بدورها انتشار النار في الهشيم، وهو ما يعني مصروفات اضافية! وسألتها عن السبب في تحمل مصروفات باهظة طالما لا يذهب الأبناء إلى المدرسة.. فقالت لي "البرستيج"! وعندما استفسرت منها، قالت إن أصحاب العمل يقدرون المتقدمين للوظائف، على أساس مستوى المدارس التي تلقوا فيها التعليم قبل الجامعي، بالإضافة إلى مؤهلاتهم الجامعية!
وهكذا، صار التعليم ينقسم بين: مدارس حكومية رديئة، لا يلتحق بها إلا أبناء لفقراء، ثم يتسربون منها ـ قبل أن يتخلصوا من الأمية ـ يأسا من الحصول على تعليم معقول يضمن لهم وظيفة تقيم الأود، ويفضلون اختصار الطريق والبحث عن صنعة تؤمن لهم لقمة عيش؛ ومدارس لغات كانت قبل عشرين عاما مرموقة، يتطلع إليها أبناء الشريحة العليا للطبقة المتوسطة، لكنها لم تعد تستطيع المنافسة أمام مدارس التي تحمل جنسيات أمريكية أوإنجليزة أو فرنسية أو ألمانية! يتعلم تلاميذها تاريخ بلدان هذه المدارس كما يتعلمون لغتها، ويزدادون اغترابا عن أبناء وطنهم! ثم صارت هذه المدارس ـ بدورها ـ في المرتبة الثانية بعد المدارس الدولية!
فما الذي نتوقعه من مثل هذه التنويعة التعليمية، وبالتالي الثقافية بين أبناء البلد الواحد؟ توقف الحراك الاجتماعي، بعد أن صار أبناء الفقراء مجبرين على وراثة الفقر والجهل من أهلهم، وسدت أمامهم فرص الخلاص عبر التعليم، الذي طالب عميد الأدب العربي بأن يكون كالماء والهواء؛ فصار الماء ملوثا لا يتجرعه سوى الفقراء العاجزين عن شراء المياه المعدنية! و حتى المياه المعدنية صارت أنواعا تميز بين شاربيها على أساس قدراتهم المادية! كما تلوث الهواء، وصار الأثرياء وحدهم يستطيعون تنسم الهواء النقي في المنتجعات أو القصور المحاطة بمساحات الحدائق! وتفاوتت حظوظ حتى القادرين على توفير قدر من التعليم لأبنائهم، حيث تتناسب الفرص في سوق العمل طرديا مع القدرات المادية لأهالي الطلاب؛ فلا تتساوى فرص العمل بالتأكيد بين خريجي المدارس الدولية، والمدارس الأجنبية، والمتخرجين من مدارس لغات عادية! ولسنا بحاجة للحديث عن فرص خرجي المدارس الحكومية!
والمعروف،أن التعليم العام في جميع بلدان العالم مجاني حتى المرحلة الثانوية، بما يضمن الحفاظ على ثقافة المجتمع، كما يحفظ السلام الاجتماعي، حيث يتعلم الأبناء لغتهم الأم كما يتعلمون تاريخ بلادهم، وينشأون على احترام الوطن والانتماء إليه، وتتخرج أجيال تشبه بعضها البعض ثقافيا وتعليميا، ويبدأ التمايز والتنوع في سن الجامعة، بعد تكوين الجانب الأساسي من الشخصية الوطنية! أما عندنا، فيبدأ التمايز، ويتربى الأبناء على الطبقية منذ الحضانة. ولا شك أن المصاريف الدراسية، ليست الجزء الأصعب في التكلفة بالنسبة لمن يقررون أن يشدوا الأحزمة عل البطون، وتوفير أقساط المصروفات؛ من أجل الحصول لأبنائهم على موطئ قدم في سوق العمل؛ حيث يترتب على تواجد الأطفال مع أقرانهم الأكثر ثراء، استحقاقات أخرى، تبدأ مع نوعية ساندوتشات المدرسة ومصروف اليد اليومي، ولا تنتهي بمستوى الترفيه واللعب،والمصايف ونوعية الملابس، وما إلى ذلك من مجالات التفاخر بين الأطفال! وهو ما ينشئ جيلا استهلاكيا، مظهريا، متعاليا، يتفاخر بما لم يحققه بنفسه، ويتعامل بعجرفة مع من لا يمتلك آباؤهم أشياء كتلك التي يمتلكها أبوه! قالت لي صديقة أن أهلها، أجهدوا أنفسهم حتى يحققوا لها مستوى تعليميا متميزا، فألحقوها بمدرسة تفوق قدراتهم المادية، إلا أنهم لم يدركوا احساسها بالألم للتفاوت بين مستوى ساندوتشاتها وما يحضره زملاؤها من بيوتهم، وعندما تحرم من الرحلات المدرسية مرتفعة الرسوم التي تتمتع بها رفيقاتها!
أرى أننا لن نستطيع بناء المجتمع الذي حلمنا به بعد الثورة، إلا بإطلاق ثورة حقيقية، تبدأ أولا بإصلاح التعليم.. نحن بحاجة لقرار ثوري ينهي جميع أنواع التمايز في التعليم قبل الجامعي، ويعيد للتعليم العام مكانته! تحتاج قرارًا ثوريًا ينهي فوضى التعليم الأجنبي والدولي، لننشئ جيلا يعبر عن الثقافة المصرية الحقيقية، تكون الأولوية فيه لتعلم لغة بلده وتاريخها، ثم يأتي بعدها تعلم اللغات وتاريخ بقية العالم! جيلا ينتمي لأرضه ويحترم شعبه، ويسعى للتغيير إلى الأفضل من دون ان تتشوه شخصيته بين التعالي على مواطنيه والإحساس بالدونية نحو شعوب العالم الأخرى.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. متضامنون مع غزة في أمريكا يتصدون لمحاولة الشرطة فض الاعتصام


.. وسط خلافات متصاعدة.. بن غفير وسموتريتش يهاجمان وزير الدفاع ا




.. احتجاجات الطلاب تغلق جامعة للعلوم السياسية بفرنسا


.. الأمن اللبناني يوقف 7 أشخاص بتهمة اختطاف والاعتداء -المروع-




.. طلاب مؤيدون للفلسطينيين ينصبون خياما أمام أكبر جامعة في الم