الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أبناء العم

جواد طالب

2005 / 6 / 4
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


عفواً يا سيدي، أظن أن يدك وقعت بلا قصد على فخذي، وإن لم تمانع أود ن تزيحها قليلاً، لكيلا نلفت النظر. ((السماء صافية اليوم))، قال الرجل. ((ستطلع النجوم غداً))، أجاب الأول. بإيماءة موافقة يهز الرجلان رأسيهما ويسلم كل واحد منهما الآخر حقيبة سوداء محكمة الإغلاق.

يمشي الرجل الأول خرجاً من الحافلة وقد حرص على أن لا يبدو بنظر المتأنق جداً. كان قد خرج من مكان التنفيذ بسروال فضفاض وقميص مشقوق وساعدان تملؤهما ضربات الموسيات الطائشة مما جعله كأي عنصر عادي من أفراد المجتمع المحلي الذي يتخذه ستاراً. في قهوة ساكنة على المفرق جلس إلى جانب مجموعة من العجائز، وقد بدا مركز الإعجاب في المحادثة مع أنه لم يضطر إلى قول شيء، فالأسنان التائهة عبرت عن شغف النسوة للشاب القوي الجديد، والذي في الوقت نفسه أثار حفيظة أزواج النسوة على الطاولة المقابلة.

بنظرة حانقة يرمقه أحدهم، وكانت زوجته قد اعتمدت الصراحة الشديدة في محادثة وملامسة الشاب المتخفي. وعندما أصبح الوضع لا يحتمل قال الزوج غاضباً، ((سأكون ممتناً جداً لو قمت وتناولت قطعة النقود التي أسقطها حين دخولك))، وأين هي؟ هناك خارج باب المقهى، أيها الحقير الوغد، شكراً لك. يلاحظ الشاب أن الوقت قد حان لملاقاة المستلم الجديد ويجلس على المقعد الخشبي في الحديقة.

بمهارة فائقة كان قد نزع الثياب السابقة وأسفر عن بذلة رسمية سوداء بدا فيها كأحد رجال العمال الهامين. يجلس بجانبه عجوز بدت عليه ملامح الكبر، (آه، عندما كنت صغيراً لطالما أحببت النساء البدينات))، بالمناسبة السماء مشرقة اليوم. ((ستطلع النجوم غداً))، أجاب الشاب. وبدون أي كلمة أخرى يسلم الشاب العجوز حقيبته ويستلم ظرف بريدي كتب على بطنه ((خاص إلى السيد كلومان)). يذهب العجوز مع الحقيبة بعيداً، ويبقى الشاب وحده يقرأ ما كتب داخل الظرف. ((السيد كلومان. العنوان : الشارع رقم 45 الجادة الخامسة, شقة طابقية في الطابق الخامس. مستحسن الدخول من الباب الخلفي للبناء. رقم البناء : 5))

تقدم الشاب لطلب سيارة أجرة، وركب بها حتى وصل البناء. لم يكن صعباً عليه أن يتسلق السلم الحديدي إلى الطابق الخامس، لكن فكرة السقوط من على ارتفاع خمسة وعشرين متراً كانت مرعبة. يقتحم غرفة النزيل من النافذة بحركة عنيفة جداً، وينقض على النائم في السرير بسكين حادة ويقطع شريانين على عنقه وتركه ملقىً على الأرض ويخرج بعد أن مسح قطرات الدم من على وجهه.

كان هناك شيء غير طبيعي في عقل الشاب. كان يقع في حالة نفسية ضائعة بين الحوادث الماضية وعمله الجديد. كان في أيام العشرينيات يوقع بعبارة ساخرة على باب كل من يقتله، ((الموت هدف من أهداف من الولادة))، ((كل إنسان يسعى لقتل نفسه))، ((الشر غريزة متأصلة في نفس الإنسان))، وعبارات مشابهة الغرض منها بنظره تبرئة نفسه أمام الناس من عمله.

كانت لديه أيضاً عادة غريبة، وهي أن يظل في مسرح الجريمة يراقب الأحداث ومجريات التحقيق كفتىً غريب الأطوار لا يشك أحدٌ به. كانت كل هذه الأفكار تشكل عبئاً كبيراً على عمله. لم يكن يستطيع إتمام مهمة ناجحة بدون مراعاة أفعاله السابقة، ولذلك كان الخروج من مسرح الجريمة صعباً جداً بالنسبة إليه. بعد عشر سنين من تلك الأيام وجد نفسه يزاول العمل القديم نفسه. أما مسألة الهرب فلم يستطع التملص منها. شيء ما أجبره على كتابة شيء على باب الغرفة. حمل قطعة ثياب بيضاء كانت على الطاولة وبدم الميت بجانبه كتب ((الجزاء يكون دائماً من جنس العمل))، مع أنه لم يعلم من قتل ولا حتى علاقته بمن استأجره. مرة أخرى غريبة هي الأشياء التي كانت تدور في عقل هذا الشاب.

كان الشاب قد تعاقد من شركتين واحدة تعهدت بدفع التكاليف له، ودفع مبلغ للشركة الثانية مقابل عنوان المنزل الذي يسكنه القتيل. كان القتيل يعيش حياة غامضة جداً، ومثيرة للجدل بطريقة غريبة. كان كمن يعنى بالظهور بمظهر الشرير دائماً، ويدل من خلال تصرفاته على شخص دنيء النفسية والاهتمامات. كان القتيل وريث عائلة فقيرة لم تقدم له ما يحتاج من عناية وحنان. كان والده قد توفي عندما كان في السادسة، وانصرفت والدته عنه إلى منزل أهلها وتركته في غرفة البيت وحيداً وأغلقت الباب ولم يرها من حينها.

كان القتيل قد درس وتعلم حتى أصبح طبيباً، كونه كان يتذكر والده يقول دائماً ((كانت ولادته صعبة جداً، أتصور أنه سيكون مشكلة لي ما لم أؤدبه بطريقة صارمة))، أصبح ملف القتيل الطبي مثيراً للريبة. كان يحوي كثيراً من حالات الوفيات غير المفهومة، ومعظمها لنساء حوامل. واضطرت المستشفى الذي عم بها إلى طلب استقالته بعد التدقيق في ملف سيرته.

كان القتيل يتمتع بتصميم غريب، كان يثابر على العمل بشكل غير طبيعي. كل ما أراده تحقق، درس عدة لغات وأكمل دراسة الطب، والتحق بمعهد ليلي وتخرج بشهادة طبيب شرعي بشهادة معتمدة. انتسب بعد ذلك إلى شركة تأمين ضخمة، كان الأكبر من ملايين الشركات في المدينة، ومع أنه مبتدئ، ومع أنه قليل الحيلة علمياً، إلا أن مظهره المؤثر،وأسلوبه دفعا مدير الشركة إلى توظيفه كمحلل لأسباب الوفاة، أو الإصابات الجسدية. إذ أن الشركة كانت تعتمد سياسة صارمة مع الزبائن، ولا تقدم التأمين إلا إذا تأكدت من صحة الموقف.

بدأ القتيل العمل ونال إعجاب الجميع بما فيهم مدير الشركة، وأظهر مثابرة وجد في التعامل مع الزبائن الكاذبين، وأظهر الكثير من حالات التظاهر أنقذت الشركة من مبالغ هائلة، الأمر الذي دفع بالمدير بعد ذلك إلى ترقيته ورفع راتبه وتعيينه مديراً للأطباء الشرعيين. ولكن بطريقة مثيرة للجدل نقل القتيل مكان منزله إلى موقع لا يدريه أحد من موظفي الشركة، وكان يرفض بالقطع أية دعوى توجه لزيارة منزله.

اقتضت أحوال المركز الجديد دفع الشركة القتيل إلى إلقاء النظر إلى جثث حديثة العهد. وهنا وجد مكان ضالته. منذ ذلك الوقت لوحظ علقه الشديد بجثث الذكور الشبان، والآباء منهم على الأخص. كان يقضي الساعات الطويلة لوحده في غرفة المشرحة يعالج ويفحص الجثث. أمر بالتأكيد غريب لفت أنظار الجميع، حتى أن موظف المشرحة في أحد الأيام وجد جثة مشوهة بشكل بشع جداً. ووجد في مرة أخرى جثة لرجل آخر كان قد شوه وجهه واقتلع لسانه بطريقة بشعة. ولم يعد قادراً على الاحتمال أكثر فقدم استقالته وبقي المكان خالي الوفاض من جميع الجوانب للقتيل في متابعة عمله وقام بعد ذلك بنقل الجثث إلى منزله للعيث بها وحيداً.

أراد مدير الشركة في إحدى المرات إلقاء نظرة على المشرحة وزيارة المكان الذي تحتفظ فيه الجثث. كان القتيل في إجازة لمدة يومين. وفاحت من المشرحة رائحة قاتلة. أمر مدير الشركة بخلع الباب، إذ أن القتيل استفرد بمفاتيح المشرحة ولم يعط النسخ الإضافية لأحد غيره. مشهد مرعب كان الذي لاقوه في المشرحة. الجثث مكومة في كل مكان والرائحة قوية بشكل ماحق، وجثث النساء العارية تملأ المكان، كان القتيل قد عبث بكل الجثث الموجود في المشرحة، وبعض الحجرات كانت خالية تماماً من أي جثة.

لم يجد مدير الشركة بُداً غير أن يجري بحثاً كاملاً عن القتيل، الطبيب الشرعي، وأحضرت إليه ملفات ضخمة عنه تبين ماضيه وسجله في المستشفى، وجاءه شعور غريب بتفقد خزينة مكتبه الخاص. كان المدير قد دعا الطبيب الشرعي إلى مكتبه عدة مرات لتهنئته على عمله المتفاني، وكان دائماً يلاحظ شيئاً غريباً فيه، فهو سريع الحركة والإجابة، يشك في كل أمر تقريباً، ودائم التفت، كأنه مراقب من أحدهم، أو يتفحص المكان.

فتح المدير الخزنة فوجدها خالية، الملفات وعناوين البنوك، والشيكات كلها ذهبت. في الواقع كان مدير الشركة ليس بالمرء النزيه تماما، كان في كثير من الأحيان يزور شيكات التأمين للعائلات الصغيرة، ويسيء التعامل مع العمال ويدفع الأطباء الشرعيين إلى تستير الحوادث وجعلها غير قابلة للتأمين. واحتفظ بجميع الملفات في خزنته على أمل أن يتلفها جميعاً خلال وقت قريب. الغريب أن القتيل لم يتورط في أي من كشفات غير مشروعة، وكان عمله نظامياً تماماً. وسرق الملفات من الخزنة واحتفظ بها لنفسه.

مدفوعاً بالخوف الشديد، وحرصاً على الشركة الضخمة التي ستغلق نهائياً إذا اكتشفت أفعالها قرر مدير الشركة إخفاء الأمر بسرية تامة وكلف أحد أتباعه بتدبير أمر اختفاء الطبيب الشرعي بشكل نهائي. والانتهاء من الموضوع. تم التعاقد مع شركة صغيرة أخرى لمعرفة عنوان الطبيب الشرعي، وتعهدت بدفع مبلغ كبير لها مقابل العنوان. واستأجر قاتل مأجور محترف لتنفيذ العملية.

كان منزل القتيل في مكان شعبي جداً. وناحية نائية. واهتم في أن يكون أهل البلدة ممن يهتمون بأمرهم الخاص، ولا يسأل أحد عن عمل الآخر. كان بالطبع يعاني طلبات بإخفاء الرائحة الشنيعة التي تفوح من منزله، وأكثر من مرة اقتحم بابه احتجاجاً على الأصوات المرافعة الصادرة منه. لكن الأمر كان يسيطر عليه بسهولة، وتمكن القتيل من تهدئة السكان والتخفيض من حدة صدى أعماله. إلا أن الرائحة الشنيعة لا زالت ترهق السكان، وتوقعهم أرضاً مغمىً عليهم كلما دخلوا بابه. والأصوات العالية ما لبثت أن عادت وأصبح منزل القتيل مصدر رعب للسكان ولم يستطع أحد التجرؤ على دخوله أو حتى الاقتراب منه.

في يوم العملية استقل القاتل المأجور حافلة ذات رقم مخصص. وجلس على أحد المقاعد الأمامية كما طلب منه. قيل له أنه سيتلقى حقيقة سوداء من رجل من طوله تقريباً بعد أن يقول له عبارة سرية. سيضطر بعدها القاتل أن يخلع ملابسه الأنيقة عندما يخرج من الحافلة ويرتدي ملابسه التي يحملها والتي تظهر بمظهر السكان المحليين. وان يدخل بعدها مكان شعبي لنتناول الأطعمة ويتلقى إساءة من أحد العناصر المزروعة للتأكد أنه في المكان الصحيح. يذهب بعدها إلى الحديقة مرتدياً ثياب رسمية ويجلس على كرسي الحديقة ليتلقى العنوان ويسلم الحقيبة لصاحب العنوان.

نصت التعليمات على أن يذهب القاتل المأجور مباشرة إلى العنوان الذي يعطى إليه وأن يقوم بعمله كما اتفق. وهذه هي اللحظة التي عمل فيها القاتل المأجور عمله المعتاد. تسلق السلم المعدني إلى غرفة في الطابق الخامس وانقض على الطبيب الشرعي في سريره وقطع وداجه بسكين حادة، ولم يسمح له حتى بفرصة للصراخ. وأرداه هناك على أرض الغرفة. وتأمله قليلاً وكتب على قطعة قماش عبارة وألقاها على جثة القتيل، ثم خرج من الباب وكأن شيئاً لم يحصل. والغريب أنه لم ينزعج طوال العملية من الرائحة النتنة التي فاحت من منزل القتيل








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجيش الإسرائيلي يواصل عملياته في جباليا ورفح بينما ينسحب من


.. نتنياهو: القضاء على حماس ضروري لصعود حكم فلسطيني بديل




.. الفلسطينيون يحيون ذكرى النكبة بمسيرات حاشدة في المدن الفلسطي


.. شبكات | بالفيديو.. تكتيكات القسام الجديدة في العمليات المركب




.. شبكات | جزائري يحتجز جاره لـ 28 عاما في زريبة أغنام ويثير صد