الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سنبقى نذكرك يا أرضا رويت بدمائنا وحبنا

جمانة القروي

2005 / 6 / 5
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية


قبل الهجوم ..

أن محاولة نسيان غروب ذلك اليوم من حزيران عام 1987 ليس بالآمر الهين.. ليس عليَ فحسب وإنما على كل من عاش تفاصيله، وأحداثه وما جرى يومها ما زال راسخا في عقلي، وشاخصا أمامي ، مازلت اذكر جيدا رائحة المكان وأصوات الرفاق ، ومشاهد كثيرة ربما تكون غير هامة، إلا أنها ما لبثت عالقة في الذهن كأنما، لم يمض ِ عليها كل هذه السنوات . ..

كانت أياما شاقة وعصيبة تلك التي سبقت ذلك اليوم ، لم تكن نار الموقد أو التنور تنطفئ ، وتحضير وجبات الطعام والشاي لا تكاد تنقطع، وعلى مدى أيام عديدة حيث توافدت إلى مقر قاطع بهدينان العديد مــن المفارز، فأكتظ القاطع بالرفاق من كل حدب وصوب .. فلم نكن ننتهي من استقبال مفرزة قاطع أربيل ، حتى نقوم بأستقبال رفاق مفرزة السليمانية أو الفوج الأول، أو الثالث .. عصر ذلك اليوم ، وفي حوالي الساعة الخامسة والنصف ، وصلت مفرزة لولان التي كانت تضم رفاقا عادوا توهم من رحلة العلاج ...

في الساحة الكبيرة التي كانت تقع بين فصيل الإدارة ونهر الزاب كانت لعبة كرة القدم قد وصلت نصف شوطها الثاني فرغم التعب والإرهاق من المهمات والواجبات اليومية التي كان الرفاق يقومون بها إلا أن ذلك لم يثنيهم عن مزاولة لعبتهم المفضلة ، البعض الآخر من الرفاق ومن بينهم الطفلان مشمش ونداء ، كانوا بمثابة متفرجين ومشجعين لأحد الفريقين.. قسم آخر كان منهمكا في تحضير وجبة العشاء التي كان قد حان موعدها.. البعض الآخر كان مازال أمام نار التنور حيث لم تنتهِ بعد وجبة الخبر المكلف بأعدادها . وهناك من يفترش الأرض تحت إحدى الأشجار ويختلي بنفسه ، وذاك كان الوسن قد كحل جفونه فأخذته غفوة التعب.. وتلك انتهت لتوها من أعداد شاي العشاء .. وآخرون يجلسون على شكل مجموعات صغيرة في حضن الوادي الرحب الذي كان يمتد بين فصيلي الإدارة والضيافة ، يتبادلون الأحاديث .. والضحكات...

لحظة الهجوم ..

في إحدى الفصائل وزعت صحون العشاء ، وما أن تحلق كل ثلاث حول صحن واحد.. ومع دخول أول لقمة إلى جوف البعض سمع أزيز طائرات النظام الفاشي، التي حلقت في دورة كاملة في سماء المقر، و بسرعة لم يكن أحد يتوقعها عادت من جديد وغمغمة هدير لا يشبه ما عهدناه ، ودوى القصف الهادر الذي صم آذاننا ‘ لقذائف وقنابل وصواريخ محملة بغاز قاتل... حاول البعض حماية أنفسهم بأي صخرة أو نتوء طبيعي ، ومن لم يجد ما يحميه انبطح صاما إذنيه ... سقطت قذيفة قريبة جدا من مكان وجود أبو فؤاد وأبو رز كار.. زحف الصغيران مشمش ونداء برباطة جأش عجيبة إلى أحد الملاجئ القريبة منهم.. احتضنت أم علي صغيرها سمسم وحمته بجسمها .. وقعت إحدى القنابل خلف غرفة الطبابة مباشرة ، وأخذت الأتربة تنهمر من كل أركانها دون أن يستطيع أبو حيدر الجريح الحركة وترك فراشه .. سيفان الصغير كان يفترش الأرض ولم تزل آثار النوم في عينيه عندما حملته أمه وركضت به إلى اقرب مخبأ ... تركت سمر فكرة غسل ملابسها، عند سماعها دوى القنابل التي أخذت تسقط في كل الأماكن ..و بلمح البصر كان منذر بجانب سلاح 14 ونص و ظل يحاول المقاومة حتى ولت الطائرات الأدبار ...

بعد الهجوم ..

لقد تضاربت الآراء حول نوعية القذائف.. هل هي كيماوية أو ماذا ؟ و التي سقط معظمها على السفوح المطلة على المقر ، وفي ساحة فصيل الضيافة و المقبرة القريبة من القاطع.. مازلت اذكر جيدا ، كانت تملأ المكان رائحة نفاذة وقوية حتى أنه كان بالإمكان لمسها بأصابع اليد ... مازال صوت ملازم ماجد يرن في أذني ، وهو يحث الرفاق على مغادرة المكان ، والتوجه مباشرة إلى النهر ، أو على الأقل وضع قطعة مبللة على الأنف والفم ... المناقشات بين الرفاق وصلت حد التشنج أحيانا ،وسؤال واحد هو المطروح ، هل هي صواريخ كيماوية أم لا ...؟؟ بيد أنهم لم يتخذوا إي إجراءات وقائية ... بعد القصف مباشرة اتجهت مجموعة من الرفاق إلى المقبرة لجلب الأخشاب المحترقة نتيجة القصف ، وحملوها دون أن يعرفوا أنها ملوثة بالغاز السام ..تم إخراج أبو حيدر من بين أكوام التراب التي انهمرت عليه أثناء القصف.. و أسجي الرفيقان أبو فؤاد وأبو رزكار في إحدى الغرف القريبة حيث كانت أصابتهما بالغة و على الفور تولت طبابة الموقع العناية بهما ، ومحاولة التخفيف من آلامهما بالأدوية التي كانت متوفرة ، في نفس الوقت عكفت مجموعة من الرفاق على انتشال أجزاء القذائف المتفجرة هنا وهناك وتنظيف المكان منها . ..

عند منتصف الليل أخذت حالات الغثيان والتقيؤ تظهر على معظم الرفاق ..وعندها أيقن الجميع أن القذائف التي أنزلها النظام المقبور على المقر كانت تحمل غاز الخردل ومواد كيماوية قاتلة .. وكان قرار القيادة بالصعود إلى الإسناد أو ألد وشكا ، وذلك لكونهما يقعان في مكان عالي وبالتالي لم يتعرضا للقصف ...

في ساعات الليل الأولى ، وبعد منتصفه بقليل .. اكتست ساحة الإسناد الواسعة بأعداد غفيرة من الرفاق... النار مضرمة في أماكن متفرقة منها ، وصوت أنين البعض يمزق شغاف القلب .. وأينما تنظرهم تراهم يمسكون أحشائهم بأيديهم، وكأنهم يخافون أن يلفظوها في إحدى نوبات التقيؤ الشديدة التي كانت تنتابهم ... ها هو ذا أبو عســكر يسقي المصابين الحليب ، ويقنعهم بضرورة شربه حتى لو لم تكن لديهم رغبة بذلك ... صوت بكاء الأطفال وعيونهم الحائرة المتسائلة التي لا تفقه شيئا مما يجري حولهم... صوت منى، يناديني أسمعه ولا اسمعه وكأنه يأتي من وادي سحيق.. أعادتني المفاجأة في لحظة واحدة من مكان بعيد جدا ، وتركتني مشلولة ومرتابة بحقيقة مكان وجودي ...


بعد ذلك ..

مع أولى خيوط فجر اليوم التالي، استشهد أبو فؤاد نتيجة أصابته البالغة في رئتيه . ..

هذا اليوم كان يحمل في طياته الكثير، بعد القرار الذي اتخذ بالتوجه إلى موقع ألد وشكا، وترك المقرات التي تعرضت للضربة ،صعد العديد من الرفاق إلى هناك ، كانت رحلة صعبة للغاية، إضافة إلى الغثيان والطعم الغريب في البلعوم وحالة التقيؤ المستمرة ، ظهرت أعراض جديدة عليهم ، منها حروق والتهابات في الجلد ، ذات فقاعات صفراء وخاصة في المناطق الحساسة من الجسم ..كما اخذ الكثيرين يعانون من تشنج في جفون العين واستحالة فتحها .. بالإضافة إلى وغز دائم فيها .. مما سبب العمى الموقت لأكثر من 100 منهم .. كنا نقوم بغســـل العيون بمحلول الشـــاي أو بالماء البارد ولــمرات عديدة خــلال الســاعة الواحدة ..أصيب أبو حسان بنوبة قلبية كادت أن تؤدي بحياته.. كـــلف أبو نســرين بنقل أبو رزكار الذي أصبح وضعه الصحي صعب جدا إلى ألدوشكا ، في الطريق أحس بحرقة في عينيه وغشاوة غريبة حجبت عنه رؤية الطريق، لولا مجيء أبو لينا الذي ساعده على تكملة الطريق وإيصالهما بأمان ..

بعد يومين وفي هجير الظهيرة استشهد أبو رزكار..

بدت الفصائل مقفرة مهجورة .. وشديدة العتمة حتى في الليالي المقمرة ... ماتت الحركة ، الضجة والبهجة .. العدم خيم على المكان الفسيح ، الذي كان يزخر بالحياة ... كان الصمت مطلقا .. شعور رهيب ببطء الزمن وثقله ... بذلت جهود مضنية من أجل الخروج من هذه المحنة .. وعلى امتداد أيام العمل الطويلة نفذ الإنهاك إلى عظامنا واثر في روحنا .. إلا أن ذلك لم يحطم عزيمتنا ولم يهزم أرادتنا ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غلوكسمان: -الشيء الوحيد الذي يجب فعله هو توحيد اليسار- في فر


.. نبيل بنعبد الله، في حوار مع SNRT News حول عمل الحكومة والمعا




.. اليمين المتطرف، اليسار الموحد، معسكر ماكرون.. معركة انتخابية


.. هولندا: فوز اليمين المتطرف يهدد شركات التكنولوجيا.. كيف؟ • ف




.. فرنسا: هل سيصمد تحالف اليسار بوجه اليمين المتطرف؟ وماذا يريد