الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكنانة: قصة التكوين

سامي حرك

2013 / 11 / 17
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


الكنانة: قصة التكوين

مقتطف من كتاب "الكنانة: كيف بدأت الحضارة؟"

لم يعرف الإنسان الإستقرار الطويل الآمن إلا في مصر, فقد آلت الطبيعة منذ نحو 35 ألف سنة في أقصى الشمال الشرقي لقارة أفريقيا عن واحة طولية, معتدلة المناخ, بأمان نسبي بعيدًا عن الكوارث, يتوسطها نهر كبير دافق, تحميه أسوار طبيعية من الشرق والغرب بسلاسل جبلية ممتدة من الجنوب إلى الشمال, يلي كل منها مساحات صحراوية شاسعة في الشرق والغرب, حيث الواحة المُغلقة المحروسة وإسمها "كمت", أي أرض الغرين/ السوداء/ الطينية, وفَّرَت لسكانها (القادمين من أعماق وشمال أفريقيا وغير ذلك) إكتفاءً ذاتياً من الماء والغذاء, والحفظ من الأذى لآلاف السنين, بتأمينها نظام دائم ثابت لإنتاج الطعام, يقوم على الصيد من شواطئ وأسماك النهر وإستئناس حيواناته وزراعة المحاصيل, وجملةً: السكن الهانئ على ضفتي النهر العظيم!
على شطآن النيل تشابكت أوراق وأغصان الشجر, وكستها الأعشاب والنباتات, فأكل الإنسان والطير والحيوان, وإرتوى, فقد وفرت تلك الأرض للإنسان الأول مكانًا مثاليًا.
موقع وتضاريس وطقس, طعام وشراب, مسكن وملبس, أمن وسكينة, فإستقر هانئًا حيث توفرت له كل إحتياجاته, بأقل جهد ممكن, كما لو كانت هي الجنة!
من اللغة المصرية "جنو" = أغصان/ فروع الأشجار المتشابكة.
منها نقول في المصرية الحالية "جنينة", بكسر الجيم والنون.
ويبدو أن "جنو" من اللغة المصرية, هي الجذر اللغوي لكلمة "الجنة" في اللغة العربية.

شرح "جيمس هنري بريستيد" في "فجر الضمير", تلك الخصوصية المكانية المناخية المؤدية لنشأة الحضارة في مصر بقوله:
"كان منتصف زمن العصر الحجري القديم بداية إنحسار العصر المطير, وفي أثره حل الجفاف, فتحولت هضبة شمال أفريقيا الخصبة تلك إلى بيداء شاسعة نسميها الآن "الصحراء الكبرى",
وكانت العوامل الجيولوجية آخذة في إعداد موطن جديد لصيادي العصر الحجري في الركن الشمالي الشرقي من قارة أفريقيا, حيث ممر خصب مستوٍ زاخر بالأعشاب النضرة وبحيوانات أفريقيا الداخلية, مما وفر لصيادي ذلك العصر (في المحيط الجغرافي) مأوى لا تنفذ موارده في موقع لا مثيل له من الأمن والحماية من الدخلاء المغيرين".
"وقد أقام الجفاف في النهاية حول "جنة الصياد" هذه حاجزًا منيعًا من الصحراء لا يمكن إختراقه في ثلاثة جوانب من حدود مصر, في الشرق والغرب والجنوب, وبذلك تحول وادي النيل إلى "معمل إجتماعي" ("مشتل" "حضَّانة" "كِنانة"), منعزل أمين لا مثيل له في سائر بقاع العالم".
"تمتع وادي النيل بميزات طبيعية فريدة من نوعها, فقد كان منعزلاً ومحميًا بشكل جعل التطور البشري فيه سهلاً, دام ذلك التطور رغم بعض الغزوات الأجنبية المتأخرة, وظل مستمرًا لآلاف السنين دون أي عائق جدي".
وإعتبرها جمال حمدان "مشتل", حال وصفه لما أسماه عبقرية المكان, بقوله:
"حين كانت مصر مشتلاً ممتازًا لتأصيل حضارة مبكرة سباقة, مادتها الخام هي فيض الثروة الفيضية, وصوبتها الزجاجية التي تحمي طفولتها هي الغلاف الصحراوي, فالعزلة النسبية كانت لازمة في المراحل الأولى لضمان الطمأنينة والإستمرار حتى تنضج البادرة بعد أن تجرثمت, وحتى تتحول في النهاية إلى عود صلب, لقد كان ظهور الحضارة هنا, خطة عامدة متعمدة".
يقول علماء البيولوجيا أن أهم جينات المهارة الإنسانية تطورت في المشتل المعزول (الكنانة) المصري خلال تلك الفترة, نتيجة الإستقرار الآمن المطمئن لأول مرة في حياة الإنسان, فقد نشأت الحضارة من علاقات متكررة, متوافقة ومتعارضة, تطورت إلى قواعد سلوكية وقوانين, ليكون ذلك كما عبر (ج . ج . كراوفر): "هو أحد أهم أسباب نمو المخ وزيادة حجمه, ولتتأسس بها المظاهر الحضارية والقيم والأخلاق".
لقد أدى إستقرار الإنسان إلى تطور علاقات البشر وسلوكهم الإجتماعي, لتجود قرائحهم بأفكارٍ تيسر حياتهم, وإلى إبداع فنونٍ تُجملها!

أما عن كلمة "الكنانة" فقد صارت وصفًا لـ "مصر" في الثقافة الإسلامية, مثالُ الحديث النبوي الشريف: "مصر كنانة الله في أرضه, ما طلبها عدو إلا أهلكه الله", وفي قاموس المعاني العربية نجد أن: "الكنانة" هي جعبة صغيرة لحفظ النَّبل, فذلك اللفظ في اللغة العربية له إستخدامات تقترب من المعنى العلمي للنظرية المسماة بـ "الحضّانة" أو "المعمل الإجتماعي" حسب تسمية "بريستيد, بينما فضلت لها ذلك الإسم "الكنانة", حيث فيه الوصف الدقيق للموقع الحصين المعزول المقصود بـ "الحضّانة البشرية" بإبداله إلى لفظ واحد محبب قريب من الثقافة السائدة, هو ما تعنيه وتُلخصه كلمة "الكنانة".
رغم ذلك المظهر العربي للمصطلح, فقد أرشدتني قواميس اللغة المصرية من الخط الهيروغليفي, إلى جذر مصري لكلمة "الكنانة", هو "كِن", ويعني الحفظ والسكون.
يقول وليم نظير في كتابه "العادات المصرية بين الأمس واليوم": لفظ "الكنانة" مُشتق من الكلمة المصرية "خنو" أو "كنو", أي الأرض الداخلية, وأصبح الإسم يطلق على مصر لأنها مكنونة, وحضارتها مصرية خالصة منذ أقدم العصور.
إذن لقد تواصل إستخدام المصريين لجذر الكلمة "كِن" وصرفياتها حتى اليوم, حيث من اللغة المصرية الحديثة (الحالية), يمكنك أن تسمع أحد الآباء المصريين يوقف مشاغبات طفله بأن يقول له: "كِن", أي إهدأ.
وبالبحث عن مدى صحة حديث "مصر كنانة الله ...", تبين وجود آراء تقول بأنه حديث مرفوع, كقول السخاوي أنه لم يرى حديثًا نبويًا بذلك اللفظ وإن وجد معناه, والتصويب بأنه مجرد مقولة تواترت عن عمرو إبن العاص أو أحد ولاة مصر من العرب الأولين, وهكذا يمكن للخبر أو الرأي الأخير أن يكون قرينةً على كيفية تسرب المصطلح المصري إلى اللغة العربية, يضاف لأدلة مصرية جذر إسم "الكنانة" كوصف لأرض مصر.
وأما إسم "جبت", فهو تأنيث لإسم الأرض "جب", لذلك يتم الحديث عنها بإعتبارها أنثى, وليست أي أنثى, إنما بالتحديد "الأم", فالإسم هو أحد تجليات السماء الأم "نوت", بصفتها زوجة الأرض "جب", حيث في الميثولوجي المصري القديم, تظهر صورها كإمرأة جميلة على هيئة قبة سماوية زرقاء مغطاة بالنجوم, تحتوي الأرض في هيئة رجل, فكأن أرض مصر محاطة بعناية سماوية خاصة, وقدر محسوب, وفر لها الموقع والسكان والوقت اللازم الكافي لتأتي الكنانة بمكنونها, ويُنتج المعمل منتجاته, وتُخرج الحضّانة محضوناتها, فتية واعدة.

وأما إسم "مَصر", بفتح الميم, كما ينطقه المصريون, فهو من التعبير الشائع الذي يعلو الخراطيش المحتوية لأسماء ملوك مصر "سا-رع" = إبن الشمس, مضاف إليه أداة إضافة للمكان "مَا", ليصبح الإسم: "ما-سرا", كما ورد على جدران معبد الكرنك في حديث شاشنق (950 ق.م) عن إنتصاراته.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما مدى أهمية تأثير أصوات أصحاب البشرة السمراء في نتائج الانت


.. سعيد زياد: إسرائيل خلقت نمطا جديدا في علم الحروب والمجازر وا




.. ماذا لو تعادلت الأصوات في المجمع الانتخابي بين دونالد ترمب و


.. الدفاعات الجوية الإسرائيلية تعترض 3 مسيّرات في سماء إيلات جن




.. فوضى عارمة وسيارات مكدسة بعد فيضانات كارثية في منطقة فالنسيا