الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الـدمـاغ والـعـقـل:جدلية متجددة

فارس كمال نظمي
(Faris Kamal Nadhmi)

2005 / 6 / 8
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


كثيراً ما تتداخل مفردتا (الدماغ) و(العقل) في أحاديث عامة الناس،إلا حد أن إحداها قد تستخدم بدل الأخرى في مواقف كثيرة.لكن الأمر على صعيد الفلسفة وعلمي الأعصاب والنفس مختلف تماماً.
فالدماغBrain عبارة عن قبضة من مادة رمادية اللون تحتوي ما يتراوح بين (100) و (1000) مليار خلية عصبية.أما العقلMind فنسيج تجريدي شفاف ينشط وفق مباديء ما تزال غامضة الى حد بعيد.وقد حاولت الفلسفة منذ بداياتها ايضاح ماهية العقل وعلاقته بالدماغ،فشاع منذ أيام (افلاطون) ( 427-347)ق.م الاعتقاد القائل بأن العقل والجسم مكونان من طبيعتين مختلفتين،وأن العقل يمكنه أن يؤثر في الجسم وكأنه مسيطر عليه.واستمر تأثير هذا الاعتقاد حتى عصر النهضة عندما تبنى (ديكارت)( 1596-1650)م المبدأ الفلسفي الثنائي،بقوله أن هناك ماهيتين منفصلتين في العالم:(المادة) وتعمل بموجب قوانين مادية يمكن كشفها بالطرائق العلمية التجريبية المألوفة،و(العقل) أو (الروح العاقلة) الذي هو لا مادي ولا أبعاد له،موجود في الغدة الصنوبرية في أعماق الدماغ،يتضمن الارادة والمشاعر والفهم والعواطف.وإن الجسم والعقل بالرغم من كونهما منفصلين عن بعضهما،وكل مسؤول عن وظائفه الخاصة،إلا أنهما يتفاعلان بإسلوب ميكانيكي بحت.
لكن هذه النظرة الديكارتية الميكانيكية لم تصمد أمام الرؤى الجدلية التي اكتسحت الفكر البشري تباعاً منذ بدايات القرن التاسع عشر في ميادين الفلسفة والبيولوجيا والطب وعلم الاجتماع ثم علم النفس.وهذا ما مهد السبيل لظهور الرأي القائل أن مصطلحات مثل ((الوعي)) و((العقل)) انما تدل على وظائف Functions وليس كيانات Entities ،وأن هذه العمليات العقلية تعتمد على عمليات تجري في الدماغ.وهذا ما صار يطلق عليه بـ((فرضيات التبعية للدماغ)) Brain-Dependence Hypotheses .ومن بينها فرضية عالم النفس (وليم جيمس) (1842-1910)،القائلة أن العمليات العقلية التي هي نتاج للعمليات الدماغية،حال وجودها يمكن أن تمارس تأثيرها بطريقة تعزز أو تثبط العمليات الدماغية،وبذلك فإنها تمارس ما صار يسمى لاحقاً في المصطلحات النفسية بـ((التغذية الاسترجاعية)) Feedback.وفي خطوة أكثر تطوراً،تقدم العالم (برود) بنظرية المظهر الثنائي Double-Aspect Theory القائلة بالتخلي عن الافتراض بأن العمليات اما أن تكون جسمية أو أن تكون عقلية،واقترح بدلاً عن ذلك تصوره عن أن العمليات الدماغية يمكن أن تكون ذات خصائص جسمية وعقلية في آن معاً؛بمعنى أن لدينا سلسلة مفردة من العمليات الدماغية،يتسم معظمها بخصائص جسمية صرفة،غير أن جزءاً منها يتسم بخصائص عقلية أيضاً.
وفي العام 1933،أدى تطور تقنيات علم الأعصاب الى تحقيق اثباتات تجريبية لفرضية التبعية للدماغ،إذ اكتشف عالم الأعصاب (بنفيلد) بمحض المصادفة أن تنبيه مناطق معينة في الدماغ بالكهرباء تنبيهاً خفيفاً يحدث استرجاعاً فجائياً للذاكرة عند المريض الواعي.فعندما لامس القطب الكهربائي قشرة المخ لشاب مستيقظ،تذكر هذا الشاب أنه كان جالساً يشاهد لعبة بيسبول في مدينة صغيرة.وكذلك حالة مريضة أخرى سمعت آلات موسيقية تعزف لحناً من الألحان بمجرد أن لامس القطب الكهربائي منطقة معينة في دماغها.كما لاحظ بنفيلد أن ملامسة المنطقة الخاصة بالنطق في الدماغ تؤدي الى فقد مؤقت للقدرة على الكلام (حبسة) عند المريض.وقد استطاع بنفيلد بعد ذلك أن يرسم خارطة كاملة تبين مناطق الدماغ المسؤولة عن النطق والحركة والذاكرة والعواطف والحواس الداخلية والخارجية،غير أنه لم يكن في المستطاع تحديد موقع العقل أو الارادة في أي جزء من الدماغ.وهذا ما قاده الى العودة للتمسك بالنظرية الديكارتية الثنائية،بقوله: ((ان العقل البشري والارادة البشرية ليس لهما أعضاء بشرية)).
إلا أن التوجهات العلمية في عالم اليوم صارت تتخذ منحى آخر مغاير للرؤية الديكارتية.فباستثناء المدرسة السلوكية التي ظهرت بصيغتها المتطرفة على يد (واطسون)(1878 - 1958)م في أمريكا في عشرينات القرن الماضي وأنكرت وجود العقل كلياً في سعيها لإرساء علم نفس يشبه في قواعده أي فرع من العلوم الطبيعية،فإن معظم علماء الأعصاب والنفس يرون في هذه النظرية الثنائية قضية يصعب الدفاع عنها أوتقديم تفسير مقنع لها لأنها تنطوي على فكرة أن العقل ظاهرة لا يمكن قياسها.ولذلك ازدهرت البحوث التي تحاول اثبات امكانية قياس العقل بالمعايير المادية منذ خمسينات القرن العشرين.كما انضم عدد متزايد من العلماء في مجالات أخرى الى هذه البحوث،كاللغات والحاسوب والهندسة والفيزياء،الأمر الذي أدى الى ظهور نظريات جديدة حول العلاقة بين الدماغ والعقل،يتوقع أن تؤدي الى تغييرات جذرية في معالجة الأمراض العقلية وفي التأثير في الأسس التي قامت عليها الفلسفات التقليدية.
ويبدو أن علماء الأعصاب قد أصبحوا واثقين من أنهم سيتمكنون في آخر المطاف من تكوين صورة شاملة للدماغ عن طريق استحداث وسائل متقدمة لدراسة كيف يقوم الدماغ بمعالجة الاشارات عبر مجموعة كبيرة من الخلايا العصبية في آن واحد،الأمر الذي سيبين أن العمليات العقلية ما هي الا نتاج لنشاط الدماغ.كما أن هناك فريقاً آخر يرى أن أفضل طريقة للغوص في طبيعة العقل وفهمها هي من خلال وصفه بالتعبيرات ذاتها التي يستخدمها هو،أي الرموز.وفي هذا الصدد،يقول أحد الباحثين من جامعة (وتشيستر)،ممن وظفوا اسلوب عمل الحاسوب الالكتروني لفهم اسلوب عمل الدماغ: ((إن لدينا لأول مرة في التأريخ علاقة ملموسة مماثلة للعلاقة بين الدماغ والعقل،فبإمكاننا أن نتطلع الى الحاسوب وحزم البرامج المستخدمة في تشغيله كي نفهم كيف يمكن للعقول المكونة من جملة بنى مجردة لا حسية أن تقبع فوق الأدمغة المكونة من المادة))،إذ توصلت الدراسات الى أن الرموز التي يكونها الدماغ أثناء عمله وتلقيه للمنبهات الحسية،تولّد نشاطاً مادياً وفق الطريقة التي تنتظم بها أجزاؤه الداخلية،وهذا يقود بدوره الى انتاج رموز أخرى.وقد عبّر عن هذه الجدلية بين مادة الدماغ ونشاطه الوظيفي (أي العقل) عالم النفس (ريشارد طومسون) Richard Thompson بقوله: ((القدرات والعمليات السلوكية المعقدة،وكذلك الوعي لا توجد في أجزاء معينة من الأنسجة العصبية.إنها النتيجة النهائية للأنشطة المترابطة للدماغ البشري،الآلة الأكثر تعقيداُ في الكون،والآلة الوحيدة فيما يبدو التي حاولت دائماً أن تفهم نفسها)).
إن أساليب التفكير يمكن أن تقود الى أمراض معينة،فالمشاعر التي لا يتاح لها الفرصة للتعبير عن ذاتها قد تترجم الى اختلالات جسمية مختلفة كارتفاع ضغط الدم،فضلاً عن أن أي خلل يصيب الدماغ في مرحلة مبكرة أو متأخرة من حياة الفرد،لا بد أن ينسحب على قواه العقلية بهذه الدرجة أو تلك.كما أن نوعية وكمية المنبهات الاجتماعية والطبيعية التي يتعامل معها الجهازالعصبي للفرد خلال حياته،تسهم بشكل حاسم برسم خارطته العقلية بجوانبها الادراكية والانفعالية والقيمية،التي تعود بدورها لتؤثر في حالته الجسمية سلباً أو ايجاباً.لقد أصبحت هذه الأفكار من بديهيات علم النفس المعاصر،فكيف يتسنى للعقل بعد ذلك أن يكون كياناً منفصلاً ومستقلاً عن عمل الدماغ.إن السؤال الذي بات يطرحه علماء الأعصاب والنفس الفزيولوجي اليوم هو: كيف استطاعت المادة أن (تريد)؟وكيف استطاع البناء البيولوجي للإنسان أن (يفكر) و(يعقل) ذاته والعالم؟!
العقل والجسد يوجدان معاً في وحدة غير قابلة للانفصال،على الرغم من انهما قابلان للتمييز.فالانسان كائن مفكر،وصانع،فضلاً عن كونه كائن عاقل يعي وجوده،ويستخدم دماغه بطريقة لا تلجأ اليها الحيوانات لكي يعيد بناء كامل بيئته المادية على هيأة حياة متحضرة.يقول المفكر(جون لويس) في كتابه(الانسان ذلك الكائن الفريد): ((العقل يعني أن الكائن العضوي يفكر،ولا تصدر عنه ردود فعل فقط كما يفعل فأر مختبر تجاه قطعة من الجبن)).












التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اليمن.. حملة لإنقاذ سمعة -المانجو-! • فرانس 24 / FRANCE 24


.. ردا على الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين: مجلس النواب الأمريكي




.. -العملاق الجديد-.. الصين تقتحم السوق العالمية للسيارات الكهر


.. عائلات الرهائن تمارس مزيدا من الضغط على نتنياهو وحكومته لإبر




.. أقمار صناعية تكشف.. الحوثيون يحفرون منشآت عسكرية جديدة وكبير