الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل كان ديكارت عقلانياً حقاً في تأملاته؟! (3)

مجدي عزالدين حسن

2013 / 11 / 27
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


3/ قراءة ديكارت بواسطة غادامر: عدم إمكانية المنهج ضمان الحقيقة

" إن المنهج، بحد تعريفه، طريق من شأنه أن يوصل سالكه إلى نهاية معينة بعد أن ينطلق به من بداية أولى ويمر به في مراحل مختلفة" ويعرف "ديكارت" المنهج على النحو التالي: " جملة من القواعد المؤكدة التي إذا ما راعاها ذهن الباحث عصمته من الوقوع في الخطأ، وتمكن من بلوغ اليقين في جميع ما يستطيع معرفته بدون أن يستنفد قواه في جهود ضائعة"

على هذا الصعيد، ثمة أسئلة تُطرح: هل حقا ثمة رابط ما بين المنهج والوصول الآلي للحقيقة؟ وواضح أنه تساؤل عن جدوى الارتباط بين الحقيقة من جهة والمنهج وعما إذا كان يُوصل لها من الجهة الأخرى: فهل حقاً بوسع أية منهجية أن أتبعناها أن توصلنا إلى (الحقيقة كما هي)؟ أم أن الأمر على خلاف ذلك؟ إلا أننا يجب أن نفهم أن " التقابل القائم بين الحقيقة والمنهج لا يعني أن أحدهما يستبعد الآخر، وكأن من واجبنا أن ننكر على الإجراءات المنهجية التي تتبعها العلوم في كل ادعاءاتها عن الحقيقة من حيث المبدأ" لأن ذلك يطرح سؤال: وهل تكمن الحقيقة في القول اللا منهجي؟ وفي ظل هذا السياق يمكننا النظر إلى الإسهام الغادامري، حول تفكيك مفهومي المنهج والحقيقة، بوصفه تأملاً نقدياً لمفهوم الحقيقة المنهجية الذي طغت به الفلسفة الديكارتية على الوعي الفلسفي الحديث، وهو ما يعتبر أحد الإنجازات الرئيسية للهرمنيوطيقا في هذا الصدد.

إذا رجعنا إلى التساؤل السابق فسنجد أن الإجابة المقدمة على مستوى الفلسفة الديكارتية تقوم على فرضية تتمثل في أننا نحتاج في سبيل الوصول إلى الحقيقة إلى إتباع مجموعة من الخطوات المنهجية، وبالتالي فبدون أية منهجية ما سيكون من العبث الحديث عن حقيقة ما.
في المقابل تتبنى الهرمنيوطيقا الفلسفية الفرضية الثانية المتمثلة في أنه ليس بوسع أية منهجية أن أتبعناها أن توصلنا إلى (الحقيقة كما هي). وحجتها في ذلك أن المنهج يحدد بشكل مسبق طريقة رؤيتنا لهذه الحقيقة، فتصبح (الحقيقة كما نراها نحن)، رغم إدعاءنا القائل بتوخي الحقيقة الموضوعية واليقين.

إذا نظرنا إلى فلسفة ديكارت سنجد المبدأ المتمثل في أن الذات المفكرة بإمكانها التوصل إلى حقيقة أي موضوع ما، إذا اتبعت مجموعة من الخطوات المنهجية. والخطوات المنهجية تعني هنا تلك التي تتوخى الموضوعية، وتستبعد أي تأثير من لدن الذات التي تقوم بعملية المعرفة. إن ما تهدف إليه المنهجية الديكارتية إنما يتمثل في محاولتها الرامية إلى الاستحواذ الكلي على الموضوع، وذلك من منظورها لا يتأتى إلا من خلال مجموعة من الأدوات والقواعد التي تحاول الذات من خلالها أن تعرف حقيقة الموضوع كحالة تنطبق عليها القاعدة العامة. وهنا نلمس نوعاً من الفصل، فصل الذات عن الموضوع. " وعلى هذا فإن المنهج يخلق حالة انفصال أو ثنائية بين الذات والموضوع، ويجعل الذات مستبعدة من عالمها أو تنظر إليه من الخارج من خلال مجموعة من القواعد والأدوات المنهجية التي تريد أن تفرضها عليه. ذلك هو مفهوم المنهج على نحو ما انبثق من عقل بيكون وديكارت، وظل سائداً في الفكر الغربي" وهي النزعة التي ارتبطت بنموذج المنهج السائد في العلم الطبيعي الحديث.

وفي ذات السياق، يمكن أن نستلهم التمييز الذي أجراه "كارل بوبر" على مستوى المنهج حيث يورد في كتابه (أسطورة الإطار)، قوله: " نستطيع أن نميز تمييزاً منطقياً بين منهج نقدي خاطئ ومنهج نقدي على صواب، المنهج الخاطئ يبدأ من السؤال: كيف يمكن أن نؤسس أو نبرر أطروحتنا أو نظريتنا؟ وبهذا يؤدي إلى الدوجماطيقية، أو إلى ارتداد لا نهائي، أو إلى المبدأ النسبوي القائل بالأطر العقلية الخاضعة للامقايسة. وعلى العكس من هذا، يبدأ المنهج الصائب للمناقشة النقدية من السؤال: ما معقبات أطروحتنا أو نظريتنا؟ وهل هي جميعا مقبولة لنا؟

إنه بهذا منهج يقوم على المقارنة بين معقبات النظريات المختلفة أو إن شئت قلت: معقبات الأطر المختلفة، ويحاول اكتشاف أي من النظريات المتنافسة أو الأطر المتنافسة له معقبات تبدو الأفضل لنا. وبهذا نجده منهجاً على وعي بإمكان الخطأ الكائن في كل المناهج، على الرغم من أنه منهج يحاول أن يستبدل بجميع نظرياتنا نظريات أفضل"

يهدف "غادامر" من خلال كتابه:( Truth and Method ) إلى تقويض المقولة المستوردة من مجال العلوم الطبيعية والقائمة على مبدأ التلازم بين الحقيقة والمنهج، وأن المنهج هو وسيلتنا في بلوغ الحقيقة. وبيان أنه إذا كانت هذه العلاقة بين المنهج والحقيقة قد أثبتت نجاحها على مستوى العلوم الطبيعة، فإن الأمر لجد مختلف في حالتها على مستوى علوم الإنسان. هنا " ترتبط العلوم الإنسانية بأشكال من التجربة تقع خارج نطاق العلم: بمعنى أنها ترتبط بتجارب الفلسفة، والفن، والتاريخ نفسه. وهذه هي جميع أشكال التجربة التي ارتبطت بها حقيقة لا يمكن التحقق منها بوسائل منهجية ملائمة للعلم."

وبالتالي فهو يرى أن المنهج، بمعناه العلمي الحديث، بالضرورة لا يمثل الوسيلة المناسبة على مستوى علوم المجتمع والإنسان في سبيل بلوغنا إلى الحقيقة- معيداً بذلك النظر في مفهومي المنهج والحقيقة- والسبب في ذلك، حسب ما يذهب إليه غادامر، يرجع إلى أن " المنهج لا ينتج في النهاية إلا ما يبحث عنه أو لا يجيب إلا على الأسئلة التي يطرحها. إن أي منهج يتضمن إجاباته، ولا يوصلنا إلى شيء جديد"

وبالمقابل هو يعد المنهج شيئاً لا ينفصل البتة عن ذاتية الذات التي تتوسله ليوصلها إلى نتيجة، وأن هذه النتيجة لا تعني بأي حال من الأحوال الحقيقة (بألف ولام العهد) أبداً كما هو الحال في الفلسفة الديكارتية.
نفهم من ذلك أن الهرمنيوطيقا الفلسفية قللت من جدوى الارتباط بين الحقيقة من جهة والمنهج الموصل لها من الجهة الأخرى، على ذلك، فإن الإشكالية الديكارتية كلها إنما تتمثل في الربط ما بين المنهج والوصول الآلي للحقيقة. وأن المنهج الديكارتي ليس في المحصلة النهائية سوى قالب وإطار جاهز تم إعداده مسبقاً ليقيس صاحبه بناءاً عليه الحقيقة. وما يعنيه هذا القول هو أن الحقيقة من المنظور الميثودولوجي الديكارتي إنما تم تجهيزها وإعدادها بشكل مسبق، مما يُفضي إلى النتيجة التالية: أن ما يوصلنا إليه المنهج الديكارتي في خاتمة الأمر ليس هو الحقيقة وإنما حقيقته هو بالذات.

وتتمثل أزمة المنهج الديكارتي في عملية إدخاله لموضوعات التأمل في قوالب معدة مسبقاً وأطر جاهزة يقيس ديكارت بناء على هذه القوالب والأطر حقيقة النص. وعلى العكس من ذلك فإن "الرؤية التأويلية تزعم عدم إمكانية المنهج ضمان الحقيقة. فالفهم ليس مسألة اكتساب معرفة حقيقية بشأن واقع معطى سلفاً، بل على العكس من ذلك، فهو بحد ذاته حدوث متحقق، أي: شكل من أشكال الفعل والخلق الذي ينطوي على نتائج من ذاته ولذاته"

إذن، الإشكالية كلها إنما تتمثل في الربط ما بين المنهج والوصول الآلي للحقيقة. مما يجعلنا نقول أن مشكلة "ديكارت" هي مع المنهج المسكون مسبقاً بأوهام اليقينية والموضوعية وتملك الحقيقة المطلقة. فكل ذلك أدي به حسب (مسبقاته) إلى الوصول إلى ما تعنيه الحقيقة بالنسبة له، إلى الحقيقة كما يراه هو، وبالتالي إلى الوصول إلى مقاصده في التأملات وليس ما قصدت إليه التأملات. وبهذا المعنى فهو يستمع إلى ذاته بكل قناعاتها المسبقة وخاصة قناعاته الدينية، وبالتالي فإن تأملاته لم تكن صادرة من مبدأ التداعي الحر للأفكار، وإنما كانت تأملات مصطنعة وموجهة نحو غاية معينة.

من جهة أخرى، فإن التأويلية الفلسفية لا تدعي توخي الموضوعية والمنهجية طريقاً للوصول إلى الحقيقة والاستحواذ عليها " من خلال مجموعة من الأدوات والقواعد التي تحاول الذات من خلالها أن تفهم الموضوع أو الظاهرة كحالة ممثلة لقاعدة عامة...(فهي ترى أن) الفهم الحقيقي يبدأ من واقعة وجودنا في العالم على نحو لا تنفصل فيه الذات عن الموضوع أو الوعي عن عالمه الذي يحيا فيه، من خلال خبرة أولية سابقة على كل تفكير منهجي" وبالتالي فإن عملية الفهم تتجاوز، هنا، إطار المنهج، أياً كان هذا المنهج إلى تحليل عملية الفهم نفسها في فعالياتها وملابساتها التاريخية. يقول غادامر " إن الظاهرة الهرمنيوطيقية ليست أساساً مشكلة منهج إطلاقاً. وهي لا تُعنى بمنهج للفهم بواسطته تخضع النصوص لبحث علمي مثل جميع الموضوعات الأخرى للتجربة العلمية. لأنها لا تُعنى ابتداءَ بتأسيس المعرفة المحققة، مثل النموذجً المنهجي للعلم على الرغم من أنها تُعنى أيضا بالمعرفة والحقيقة"

بناءاً على ذلك، فإننا مع التأويلية الفلسفية " نجد فكرة (المنهج) ذاتها قد حوكمت، ومكانة "المنهج" نفسه قد اهتزت. ذلك أن عنوان كتاب "غادامر" ينطوي على تهكم: فالمنهج عنده ليس هو الطريق إلى الحقيقة، بل من دأب الحقيقة، على العكس، أن تفوت رجل "المنهج" وتروغ منه. والفهم في تصوره ليس عملية ذاتية لإنسان بإزاء موضوع وقبالته، بل الفهم هو أسلوب وجود الإنسان نفسه"

الهرمنيوطيقا الفلسفية إذن، ليست منهجاً يقودنا إلى الحقيقة بصورة أتوماتيكية كما يظهر ذلك جلياً من خلال فلسفة ديكارت. وإنما هي فسحة للتلقي والتلاقي أو مساحة للابتكار والتواصل. فالظاهرة الهرمنيوطيقية، في الحقيقة، ليست البتة قضية منهج، وإنما هي تأسيس لتجربة الإنسان في العالم عبر فهم وتأويل النصوص. " بيد أن الممارسة التأويلية، وإن افتقدت لمنطق المنهجية العلمية، فإنها تملك (منطق السؤال/الجواب)، وذلك بفتح حوار مع النص من خلال شقوقه وطبقات الغياب فيه"

يريد "غادامر" من خلال كتابه "الحقيقة والمنهج" أن يخلص إلى أن استخدام المنهج وخاصة في مضمار العلوم الإنسانية لا يكفي لضمان الحقيقة. ف" الحقيقة عنده لا تطلب منهجياً بل جدلياً. هذه الطريقة الجدلية هي في الحقيقة نقيض المنهج، وهي وسيلة للتغلب على نزوع المنهج إلى أن يشكل العقل ويصبه في قالبه ويحدد مسبقاً طريقة الشخص في رؤية الأشياء، فالمنهج، إن شئنا الدقة، غير قادر على كشف حقيقة جديدة، المنهج لا يفعل أكثر من التصريح بصنف الحقيقة المضر سلفاً في داخله. في المنهج تمسك الذات الباحثة بالزمام وتقوم بالقياد والتحكم والتلاعب. أما الجدل فيترك الموضوع الذي يقابله يلقي أسئلته الخاصة التي تتعين الإجابة عنها. لم يعد الموقف التأويلي هو موقف سائل وموضوع يتوجب فيه على السائل أن يشيد "مناهج" تكفل له أن يوقع الموضوع في قبضة فهمه، بل أصبح السائل، على العكس، يجري استجوابه: يستجوبه الموضوع ويلقي عليه أسئلته"

فالجدل من منظور هرمنيوطيقا "غادامر" إنما يُفهم باعتباره طريق الوصول إلى محصلة التلاقي بين أفق الذات المؤولة المنطلقة من أرضية الحاضر الراهن، وبين أفق "التراث" أو النص القابع في الماضي. " إن هدف الجدل عند غادامر هو هدف فينومينولوجي بشكل واضح: أن يجعل الشيء الذي نحن بصدده يُفصح عن نفسه ويسفر عن وجهه. فإذا كان "المنهج" ينطوي على ضرب من المساءلة تفتح جانباً واحداً من الشيء، فإن التأويل الجدلي يفتح نفسه لأسئلة الشيء ويتقبل أن يكون هو المسئول لا السائل. بذلك يمكن للشيء الذي يلاقيه أن يكشف عن نفسه وعن وجوده الخاص. يقول غادامر إن ما يجعل ذلك أمرا ممكنا هو "لغوية" الفهم الإنساني ( الصبغة اللغوية للفهم) و"لغوية" الوجود نفسه في حقيقة الأمر"
يتبع..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل - حماس: أبرز نقاط الخلاف التي تحول دون التوصل لاتفاق


.. فرنسا: لا هواتف قبل سن الـ11 ولا أجهزة ذكية قبل الـ13.. ما ر




.. مقترح فرنسي لإيجاد تسوية بين إسرائيل ولبنان لتهدئة التوتر


.. بلينكن اقترح على إسرائيل «حلولاً أفضل» لتجنب هجوم رفح.. ما ا




.. تصاعد مخاوف سكان قطاع غزة من عملية اجتياح رفح قبل أي هدنة