الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لمحة تاريخية مكثفة عن العلاقات الثقافية البلغارية اللبنانية والعربية

جورج حداد

2013 / 11 / 29
المجتمع المدني


[من رسالة مقدمة الى وزارة الثقافة البلغارية والى السفارة اللبنانية في بلغاريا]
ان الشعبين اللبناني والبلغاري هما شعبان صغيران في الجغرافيا والدمغرافيا؛ ولكنهما شعبان عظيمان بتراثهما الحضاري، وهما توأمان حضاريان، يغسلان اقدامهما في مياه البحر الابيض المتوسط والبحر الاسود، ويشمخان برأسيهما فوق جبال لبنان وجبال البلقان.
والتوأمة الحضارية بين هذين الشعبين الصغيرين ـ العظيمين تضرب بجذورها في اعماق التاريخ.
فمنذ القدم انتسب اجداد اللبنانيين والبلغار المعاصرين الى بوتقة حضارية واحدة، هي بوتقة الحضارة الهيلينية والمسيحية الشرقية والاسلام الاولي، التي هي مزيج خلاق من حضارة الاغريق وشعوب البلقان القديمة وحضارة سوريا الطبيعية (سوريا ولبنان وفلسطين والاردن) ووادي النيل وما بين النهرين (ميزوبوتاميا) وشبه الجزيرة العربية.
واذا نظرنا الى شجرة الألسنية نجد ان الابجدية الكيريلية (التي عممها البلغار على الشعوب السلافية الاخرى) قد أخذت عن الابجدية الاغريقية؛ وان الابجدية الاغريقية قد اخذت بدورها عن الابجدية الفينيقية، التي هي أول أبجدية في التاريخ البشري.
وعشية ظهور الديانة المسيحية المشرقية العظيمة، طرح الفيلسوف زينون الفينيقي الفلسفة الاخلاقية الرواقية، التي دعت الى نبذ العبودية والتمييز بين البشر والاستغلال والفساد والجشع، والتي عارض بها القواعد الدينية والفلسفية للسيادة اللااخلاقية للنظام العبودي ـ الاستغلالي المتوحش، الروماني ـ اليهودي. وقد ولد زينون في قبرص وعلـّم في اثينا، ولكنه احتفظ بهويته الفينيقية، لانه كان يدرك تماما انه كان رسولا للحضارة الفينيقية. ولا شك ان الشعبين اللبناني والبلغاري، اللذين يتميزان بحس مرهف تجاه الحرية والكرامة والاخلاق والجمال الروحي والفيزيائي، هما "تلميذان نجيبان" لفلسفة زينون الذي ولد فينيقيا وعاش ومات اغريقيا ـ هيلينيا.
ومع ظهور الديانة المسيحية في سوريا الطبيعية، التي وضعت حدا فاصلا بين الظلامية الرومانية ـ اليهودية وبين انوار العهد الجديد للانسان الجديد، الحر في ذاته، فإن المرسلين المسيحيين المشرقيين الاوائل، السريان الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين، الذين كانوا يتقنون اللغة الآرامية (لغة السيد المسيح، التي هي لغتهم الوطنية) واللغة الاغريقية، كانوا اول المبشرين الذين توجهوا، منذ ايام بولس الرسول، الى جبال البلقان للتبشير بميلاد الديانة والانسان الجديدين. وكان هؤلاء الرجال العظام، الفقراء والبسطاء والمجهولين، يتركون بيوتهم وعائلاتهم، ويسيرون مئات الاميال، في الحر والقر، متحملين الجوع والعطش والمرض، وينامون في العراء والمغاور، تحت رحمة الوحوش والافاعي، معرضين حياتهم في كل لحظة لخطر الاعتقال والتعذيب الفظيع والموت بأبشع الاشكال على ايدي الرومان واليهود، الذين كانوا يتربصون بهم، قبل ان يصل من يصل منهم الى حيث يبشرون بميلاد العصر المسيحي الجديد.
وليس بدون مغزى ان الكنائس المسيحية الاساسية في لبنان وبلغاريا انتسبت منذ البداية الى الكنيسة المسيحية الاصلية: الشرقية، التي كانت محور المعارضة الشعبية ضد الاستعمار والعبودية الرومانيين وضد الاستغلال والفساد والخيانة اليهودية.
وفي القسم الآخر من بلغاريا، ونعني بلغاريا الفولغا، فقد تبنى البلغار القدماء في مطلع القرن العاشر، الديانة العربية الاسلامية السمحاء ـ التوأم الحقيقي للديانة المسيحية الشرقية، في مواجهة عدوان ومظالم مملكة الخزر اليهودية والامارات الاقطاعية العسكرية العثمانية. وفي سنة 921م، وبناء على رسالة من القيصر البلغاري آلموش، ارسل اليه الخليفة العباسي المقتدر بالله بعثة برئاسة العلامة احمد بن فضلان، وكانت مؤلفة من 5000 رجل من رجال الدين المسلمين ومعلمي اللغة العربية والبنائين وشتى الحرفيين، للمساهمة في بناء "بولغار" عاصمة بلغاريا الفولغا.
وحينما انحرفت الانظمة الاستعمارية في اوروبا الغربية بالمسيحية وحولتها الى "صليبية"، وشنت "الحروب الصليبية الشرقية" على المسيحيين الشرقيين والمسلمين في البلقان وسوريا الطبيعية ومصر، وشنت في الوقت نفسه "الحروب الصليبية الشمالية" على المسيحيين الشرقيين الروس في محيط بحر البلطيق، فإن المسلمين والمسيحيين الشرقيين اللبنانيين والعرب، واليونانيين والارمن والبلغار والصربيين والروس، حاربوا معا ضد الغزاة "الصليبيين" في الشرق الادنى وشرق وشمال اوروبا.
وحينما، بتحريض وتمويل ودعم من قبل المتمولين اليهود الذين كانوا يحقدون على الروس والمسلمين والمسيحيين العرب والشرقيين جميعا، وبتأييد ودعم من قبل الدول الاستعمارية الاوروبية الغربية، وبالصمت المريب من قبل الفاتيكان، عمد العثمانيون (أبناء عمومة وحلفاء اليهود الخزر، وبمساعدة اليهود "السريين" الدونمه) الى تحريف الدين الاسلامي التحرري وتحويله الى "صليبية اسلامية" للاستعمار، وقاموا بغزو شبه جزيرة البلقان والمنطقة العربية باسم "الاسلام العثماني" المزيف، فإن اللبنانيين والبلغار وجميع الشعوب الاخرى المقهورة، عانوا معا، وتحملوا معا، وناضلوا معا ضد النير العثماني. وقد اضطلعت الكنيسة البلغارية، وكذلك الكنائس المسيحية في لبنان وسوريا وفلسطين والعراق ومصر، بدور رئيسي في المحافظة على اللغة والاداب والثقافة الوطنية، العربية والبلغارية، بمواجهة سياسة التتريك العثمانية.
وخلال الحرب العالمية الثانية، وبعد ان انحازت حكومة فيشي الفرنسية الى جانب المانيا النازية، وكان لبنان وسوريا تحت الانتداب الفرنسي، وجاءت "اللجنة الالمانية" الى لبنان وسوريا للاشراف على ادارة الانتداب، وطرحت مسألة تطبيق "الحل النهائي" الهتلري على اليهود اللبنانيين والسوريين، فإن المجتمع اللبناني والسوري، ذا التقاليد الحضارية العريقة، وقف بحزم ضد التعدي على المواطنين اليهود، وحماهم من الموت المؤكد، تماما على غرار المجتمع الحضاري البلغاري الذي حمى "يهوده" ايضا من الابادة على ايدي الهتلريين. ولكن للاسف، فإن المواطنين اللبنانيين اليهود هاجروا بعد انشاء اسرائيل، وغالبيتهم ذهبت الى اسرائيل، وشارك ابناؤهم مع الجيش الاسرائيلي في اجتياح لبنان سنة 1982 واحتلاله حتى سنة 2000، ثم في الحرب الظالمة على لبنان سنة 2006، وخلال ذلك قتلوا وجرحوا واعاقوا ودمروا بيوت وشردوا مئات آلاف المدنيين اللبنانيين، الذين سبق وحموا اليهود اللبنانيين من الموت المحتم على ايدي الفاشيين والفيشيين.
انطلاقا من هذه التقاليد الحضارية العريقة المشتركة، اكثر بكثير مما هو من السياسة الحزبية الحينية، فإن الدولة البلغارية بعد الحرب العالمية الثانية قررت، ونفذت، تقديم آلاف المنح الدراسية للطلاب العرب، ومنهم اكثر من ألف لبناني، الذين درسوا في المعاهد البلغارية وتخرجوا في مختلف الاختصاصات، والذين يعملون منذ عشرات السنين في بناء اوطانهم، وهم خير شاهد حي على طبيعة العلاقات الحضارية بين الشعب البلغاري والشعب اللبناني وبقية الشعوب العربية الصديقة لبلغاريا.
وبمحصلة هذا الحصاد الحضاري، التاريخي والمعاصر، فإن بلغاريا الصغيرة تتمتع بسمعة طيبة كبيرة جدا في لبنان وجميع البلدان العربية. وهذا ما جعلها موئلا لجالية لبنانية وعربية كبيرة نسبيا، تضطلع بدور خلاق في توطيد العلاقات البناءة بين بلغاريا ولبنان والبلاد العربية. وقد نتجت عن ذلك مئات الزيجات المختلطة ومئات الابناء البلغار ـ اللبنانيين والبلغار ـ العرب، الذين ـ بالاضافة الى الرباط الروحي والحضاري ـ يكرسون رباط الدم بين البلغار واللبنانيين والعرب.
وبهذه الصفات والميزات، فإن بلغاريا يمكن ان تضطلع بدور باب حضاري للبنان والعالم العربي الى اوروبا الشرقية خاصة واوروبا عامة، كما ان لبنان يمكن ان يضطلع بدور باب حضاري لبلغاريا الى العالمين العربي والاسلامي.
بناء على ذلك كله، ونظرا للتطلعات الحضارية والدمقراطية للمجتمع المدني في بلغاريا ولبنان، نرى من الضروري ان نهيب بوزارة الثقافة البلغارية الموقرة ان تأخذ المبادرة للعمل مع وزارة الثقافة اللبنانية ومع جميع الاطراف المختصة لتشكيل: المجلس الثقافي البلغاري ـ اللبناني.
ـــــــــتــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دخول قافلة مساعدات إماراتية إلى قطاع غزة محملة بمواد غذائية


.. مشاهد حجم معاناة النازحين السودانيين بمدينة الدندر في سنار




.. موريتانيا.. تقرير أميركي يشيد بجهود البلاد في محاربة الاتجار


.. اللاجئون السوريون -يواجهون- أردوغان! | #التاسعة




.. الاعتداءات على اللاجئين السوريين في قيصري بتركيا .. لماذا ال