الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كي تفهم العذاب النفسي

حمودة إسماعيلي

2013 / 11 / 29
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


في الانتظار، يُصيبُني هوس برصد الاحتمالات الكثيرة
.. محمود درويش

العذاب النفسي مرتبط بالانتظار، ولكي تفهم العذاب النفسي يجب أن تفهم الانتظار، لأن هذا الأخير هو الوسط الذي يساعد في نموه. فيمكن أن نرى الانتظار هنا كحديقة واسعة والعذاب النفسي كطفل يركض ويتجول فيها بكل حرية. لو لم يجد الطفل تلك الحديقة لما استطاع أن يُعبِّر عن ذاته بتلك الطريقة (الركض والقفز).

عندما تمر باختبار دراسي، يتملكك احساس مضطرب بالفترة الواقعة بين يوم الامتحان ويوم اعلان النتيجة، حتى الفرحة (بسبب أحداث مفرحة نسيّباً تقع خلال تلك الفترة) تصبح غير مكتملة لأن العقلمشغول ومهموم بالنتيجة التي تقض مضجع الهناء النفسي والفكري، مثلما يحدث مع المشبوه الذي ينتظر حكم المحكمة. وسواء كانت النتيجة نجاحا أو فشل فليس ذلك هو ما يُسبّب الإحساس السلبي، بل هو انتظار النتيجة الغير مؤكدة، فلو أتى أحدهم وأخبرك في اليوم الموالي ليوم الامتحان بأنك فشلت أو نجحت فإنه يخلصك مباشرة من عذاب الانتظار والتخمين ووضع الاحتمالات والهمّ والتفكير .. إنه فقدان السيطرة على الواقع والذات، في الانتظار يشعر الانسان بأنه محاصر ومسجون (حتى ظهور النتيجة) وهذا هو عذابه النفسي. شخصان فقط من لا يستطيع العذاب النفسي الاقتراب منهما :

1ـ الواثق من نجاحه %100
و 2ـ الغير مهتم.
لأنهما حسما النتيجة بالبداية دون أن يقعا سجينين بانتظارها.

نفس المثال ينطبق على المريض، الذي يسجنه مرضه بفترة معينة، أو يسجنه طبيبه حتى موعد معين، بل وكل من يجد نفسه في موقف انتظار مفروض عليه. مثل من يقومون بارسال طلب عمل أو نشر بحث، فيفرض عليهم انتظار مدة حتى يتلقو الخبر (الذي يحتمل الرفض أو القبول)، يشعر الشخص في تلك المدة بأن قوته مسلوبة منه، وأن قدره يحكمه الآخر، فمن تعوّد أن تكون قرارات حياته بيده صار الآن قراره يصدر من جهة أخرى خارجة عنه، يشعر كأنه نملة ليس له أي قوة أو إرادة أو قدرة.

وطالما أن أغلب المواقف الحياتية تتضمن الانتظار (وفرض الانتظار)، فغالبا ماتتخلل العذابات النفسية حياة الناس، وتختلف بينهم حسب الشدة. فمنهم من يطور قدرة (كحيلة أو حل ذهني) ليتغلب على فراغات الانتظار بكثرة مشاغل : كجدول أعمال مليء مثل الذي يعتمده رجال الأعمال أو الفن أو الادارة، فكثرة المشاريع والأمور المنتظرة تشغل العقل عن انتظار "الأمر الواحد"، لأنها تكسر القيد الذي طوّقه بالانفتاح على مشاغل واهتمامات عدة بنفس الوقت.. وسيكولوجياً فإن كثرة الاهتمامات والابداع تشغل صاحبها عن الوقوع في الملل أو الروتين، طالما أن عقله لا يمتلك وقتا ليشعر بالملل أو يحدد معناه.

العازبة تنتظر عريس، والمتزوجة تنتظر ابنا، والبطالي ينتظر عملا، والعامل ينتظر العطلة، والطالب ينتظر التخرج، والأستاذ ينتظر التقاعد، وغالبية الناس تنتظر أن تتغير حياتها للأحسن، وفي خلال ذلك تترك كل شيء وتفكر كيف ستكون عليها حياتها عند حصول ذلك. وحتى حصول ذلك يظل المنتظرون معذبين نفسياً.

هناك حلاّن : إما أن يطور الإنسان ذكاء فائقاً حتى يصبح بإمكانه أن يحسم الاحتمالات والنتائج ببدايتها، مثلما يتوقع "بعض" الخبراء الاقتصاديون صعود ونزول الأسهم (رغم انها احتمالات لا تتخلها الدقة !). أو ينشغل خلال فترات الانتظار بخلق ما يشغل العقل، فمثلما يجعلك مسؤول غبي نتنظر لمدة طويلة يمكن خلالها أن تطالع كل المجلات الموجودة بقاعة الانتظار، أو كما يقول "ستيفن آر كوفي" أنه إذا تأخرّتَ في اللحاق بطائرتك فيمكن خلق صداقات وتعارف في المطار خلال انتظارك للطائرة التالية. الانشغال يعيد لك احساسك بالفاعلية والقدرة، وبأنك لا زلت مسيطرا ومتحكما في حياتك وقراراتك.

يقول نيتشه أنه أسهل طريقة لتجعل شخصا يغضب بشدة وبأن يكرهك هو أن تجعله ينتظر لمدة طويلة، وطبعا فالناس تشعر بأن الانتظار يسلبها قدرتها على الفاعلية، فعندما تذهب لأخد وثيقة إدارية أو مقابلة شخصية ما ـ سواء من اجل لقاء صحفي أو لطلب وظيفة ـ فإنه كلما زاد انتظارك كلما زاد احساسك بقلة شأنك لأنك تعلم أن شخصيات معينة لم تكن لتنتظر (بنفس موقفك). فبعض الشخصيات الوازنة قد تدفع صاحب السلطة (بهذا الموقف) للخروج واستقبالهم، فما بالك بجعلهم ينتظرون ! هذا إن لم ينقلب الموقف، بمعنى أن يكون هو في موقف انتظار وصولهم.

وحتى انطلاقا من الذات، ففي المواقف الاجتماعية نحن لا نجعل أبدا الشخصيات التي نكن لها حبا أو احتراما تنتظر، فالأحبة والأصدقاء ورئيس العمل وماشابهه نخجل من تركه ينتظر في حالة موعد مثلا. أما من نكره أو من لا نحسب لهم شأنا فلا نهتم إن انتظروا كثيرا أو قليلا. وهناك خدعة نفسية يقوم بها ذوي السلطة ورؤساء المؤسسات، وهي بجعل المواطن ينتظر لمدة طويلة، لأنه طول مدة الانتظار يهدف إلى التلميح للمعني أنه أقل شأنا ممن يقوم بمقابلته، وخبراء النفس والجسد يعرفون أنها حيلة تخدم للسيطرة على الزائر وإخضاعه.

يشعر الناس بالعذاب النفسي، يعندما يشعرون بأن حياتهم سجن صغير و"أقسى السجون وأمرّها تلك التي لا جدران لها" بتعبير أدونيس في قصيدة "الحب جسد" .. يشعرون بأنهم يمتلكون طاقة للقيام بما يريدون "لكنه" كأن هناك قوة ما تمنعهم أو تشلّ قدراتهم، كأنه لا مجال للحركة. لا يجد الشخص تفسيرا لسبب عدم تحقيق مايريده ولما الأمور ليست بالشكل الذي يرغبه، كأن قيدا غير مرئي يقيده، فلا يسعه سوى انتظار أن يتغير الوضع، والانتظار هو استمرار الاحساس (والتحسيس) بقلة الحيلة.

بتاريخ المجتمع البشري، توصل البشر إلى أن هناك عقابا أشد من التسبب بالإيذاء الجسدي على الجاني أو حتى القضاء عليه، إنه السجن "حرمانه من الفعالية والتصرف بحرية، لأن التصرف الحر يشعر صاحبه بالقوة والقدرة. ورغم أن المساجين طوّرا مجتمعا صغير للتغلب على العذاب النفسي بالسجن، فحوّلوه لمجتمع صغير حتى يتكيفوا فيه ويتغلبوا عن عذاباتهم النفسية، وذلك بانشاء جماعات حزبية، والتشارك الاجتماعي اليومي. لكن بالحديث عن معنى السجن أي منع الشخص من أي تواصل اجتماعي أو ممارسة اجتماعية، فإنه سرعان ما يفقد عقله أو يصاب باكتئاب سوداوي أو حتى ينتحر، لأن العذاب النفسي ساعتها سينفرد به وينخره .. سُئِلَ أحد المفكرين : "لماذا لا تحب أن تجلس لوحدك ؟ فأجاب : "حتى لا تنفرد بي الأفكار". ففي مثل هذه المواقف يضطر الشخص لخلق صديق وهمي، مثلما خلق "طوم هانكس" صديقه "ويلسن" بالكُرة التي وجدها بالجزيرة في فيلم "المُلقَى بعيدا" Cast Away، فحوّل تلك الكرة لصديق يتحاور معه كل يوم، وكم حزن عليها عندما فقدها بالبحر، كأنه فقد صديقاً حقيقياً، صديقاً ساعده في التغلب على عذابه النفسي. كذلك نجد ببعض المفاهيم الدينية أنه لو وجد الإنسان نفسه بموقف شبيه، فيجب أن يشغل نفسه بترديد صلوات دينية حتى لا يختلي به الشيطان ويعذبه نفسيا .. إنما واقعه هو الذي يعذبه، أو عجزه وقلة حيلته بتعبير أصح.

يقول الروائي نجيب محفوظ : "الانتظار محنة، في الانتظار تتمزق أعضاء الأنفس، في الانتظار يموت الزمن وهو يعي موته. والمستقبل يرتكز على مقدمات واضحة لكنه يحمل نهايات متناقضة. فليعب كل ملهوف من قدح القلق ما شاء".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لمحة عن حياة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي


.. بالخريطة.. تعرف على طبيعة المنطقة الجغرافية التي سقطت فيها ط




.. شاهد صور مباشرة من الطائرة التركية المسيرة -أكنجي- والتي تشا


.. محاكاة محتملة لسقوط طائرة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في م




.. أبرز حوادث الطائرات التي قضى فيها رؤساء دول وشخصيات سياسية و