الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اللذة - إنسانيتنا عندما تغتالها الآلة التسويقية.

نضال الربضي

2013 / 12 / 1
المجتمع المدني


اللذة - إنسانيتنا عندما تغتالها الآلة التسويقية.

أصبح الجري وراء اللذة سمة مميزة لمجتمعاتنا الحديثة، و اللذة هنا لفظ يقصد به شعور الرضى أو السعادة الناتجان عن فعل ما يتعلق بالكائن نفسه. و حسب هذا التعريف يندرج تحت اللذة: الطعام، الشراب، الرياضة، الصحة، التنزه، القراءة، التسوق، تحقيق الذات، المكانة الاجتماعية، المكانة الدينية، السلطة، العشق، الجنس، النقود. و كما أن الفرد يسعى نحو اللذة فهو بالضرورة مُبتعد عن ضدها و هو الألم، و يندرج تحته: الجوع، الحرمان، الإجبار، الخوف، القلق، الضعف، المرض.

لا يخرج مفهوم اجتذاب اللذة و اجتناب الألم عن أبسط قواعد السلوك الغريزي الذي يشترك فيه البشر مع الحيوانات، فاللذة نفسها ضامنة لبقاء و استمرار الكائن، و الألم تهديد ٌ مباشر لحياته و صحته و قدرته على البقاء. لكن مفهوم اللذة عند البشر قد تطور إلى ما بعد الحاجات الأساسية ليدخل الترفيه و التسهيل كعاملين أساسين في تحديد أشكال التفاعلات المجتمعية و رسم بُنية التواصل البشري، مدفوعين من الآلة التسويقية المُسخَّرة من شركات الإنتاج و رأسمالية الاقتصاد.

و كمثال ٍ حي على ما اقوله نجد أن أشكال التواصل حاليا ً أصبحت هي صفحات الفيسبوك و تويتر و أدواتها هي اللابتوبات و الهواتف الخلوية الذكية بأنواعها، بعد أن نجحت شركات الإنتاج في إعادة تعريف مفهوم التواصل و نقله من حيز التفاعل البشري الفيزيائي بين كائنين يشتركان في موقع جغرافي واحد إلى حيز التفاعل بين رمزين رقمين يعبر كل منهما عن مكنون شخصية الآخر Avatar بكل ما في هذا التواصل الرقمي من احتمالات ممكنة تكنولوجياً.

إن خطورة إعادة التعريف السابقة (كمثال على دور التسويق و الاستهلاك) هو في رسمها لأنماط حياة جديدة و زرعها كبديل في عقول البشر عن الأشكال الطبيعية و أنماط الحياة البشرية المفروضة من إنسانية النوع و منطقية انسجامها كأنماط مع حاجاته النفسية و الجسدية و التي تُعطي شعورا ً بالإشباع العاطفي التام، مقابل تلك الرقمية التي تعمل على إسكات الحاجات إسكاتا ً مؤقتا ً لا يُشبعها لكن يعيدها إلى مستوى احتياج أقل تنتظر دورها في أن تصعد لمستوى التفاقم مرة أخرى ليتم تخفيضها مجددا ً و هكذا دون تحقيق ٍ حي لها و لا انتقال في الإنسان نحو المستوى الأعلى من التفاعل الإنساني الذي كان سيصل إليه من خلال اعتماد التواصل البشري شكلا ً أوحد أو لنقل رئيسيا ً في تلبية الحاجة.

لا يقتصر الأمر على الهواتف الذكية و مواقع التواصل و إن كانت المثال الأوضح و الصارخ في حياتنا، و يتجاوز مفهوم تسهيل الحياة و الصعود إلى مستويات أعلى من اللذة التكنولوجيا نحو فئات الحاجات البشرية الأبسط مثل الطعام و الشراب، فتتسابق آلات التسويق لربط منتجاتها بعقل المُتلقي فلسفيا ً مستخدمة ً جملا ً مثل: "الحياة أحلى مع أورنج" أو "بيبسي خليك قدها" أو "سنكرز لا توقف" و كلها عبارات لا شأن لها بالمنتج نفسه بقدر ما هي تطفلات استهلاكية على خصوصية الإنسان و طموحاته.

هذه الآلات الاستهلاكية لا تقيم وزنا ً للخصوصية و لا يعنيها صدق الطرح، فجمال الحياة في إعلان أورنج يتم اختزاله في خدمة توفير الإنترنت، و بهذا يصبح دخول الإنترنت نحو البيت ضامن السعادة و جالبها و محققها في نفس الوقت. هو وعد ٌ مصحوب بأداة تنفيذ و مستتبِع لنتيجة مع ضمان لها. أما في إعلان بيبسي فالعلبة الزرقاء الصغيرة المصحوبة بجملة "خليك قدها" هي استفزاز للرجولة مع تدعيم للثقة و دعوة لقبول التحدي مع ضمان خفي إيحائي -بقوة الفيديوكليب- بالفوز في هذا التحدي و رفع مستويات الثقة بالنفس عند الشارب، كل هذا تمنحه عبوة هذا المشروب. أما دعاية السنكرز "لا توقف" فهي حض ٌ على الاستمرارية في الفعل، مُفترضة ً في حد ذاتها أن الاستمرار هو في فعل ٍ جالب للمتعة يكون توقفه حدثا ً غير محمود يتم اجتنابه ببساطة ِتمزيق ِغلاف السنكرز و قضم المنتج نحو تدعيم للذة و ضمان لبقائها.

إن هذه الاستهلاكية التي تفهم اللذة و تستخدمها للتسويق لا تقدم محتوى إنساني أبدا ً، فهذا لا يعنيها و ليس من أهدافها، بل هي غير مستعدة له أصلا ً و لم تقم من أجله، و إن أرادته لا تعرف الطريق إليه و ستحتاج للاستعانة بخبراء في هذا المجال، و هو ليس مجالها أصلا ً. و مع ذلك فهي لا تتورع عن الحديث في الإنسان و حاجاته و تقدم نفسها كجهات إشباع لهذا الحاجات قادرة ٍعلى تحقيق الأحلام و الطموحات و شريكة في القرارات المصيرية للإنسان، و هنا أنا لا أبالغ، ألا تذكرون تنظيم و رعاية "بيبسي دايت" لمسابقة ملكات الجمال؟ حاجات الفتيات في الظهور و الشهرة و الانطلاق نحو الحياة يتم اختزالها في مشروب غازي مضر ٍ لا ينفع في شئ، مسؤول ٍ عن مشاكل المعدة لبشر ٍكثيرين.

إن الخطر الأكبر على مجتمعاتنا هو في انعدام الضوابط للقوى التي من شأنها توجيه الطاقات الشبابية، هذه الضوابط التي يكون من شبه المستحيل تشريعها و وضعها و القيام عليها في ظل مجتمعات إما علمانية تحفظ لكل ٍ حقه في الوجود و التنافس أو دينية تستمد مرجعياتها من الدين و أحلية البيع و الشراء و بالتالي التسويق، و هي ظاهرة ٌجديرة ٌ بالدراسة ِ تلك التي تجمع العلمانية بالدينية في اشتراكهما و التقائهما بقبول التسويق و البيع و الشراء و استغلال الإنسان، الأولى باسم الحرية و الثانية باسم الحلال الإلهي، و لا فرق في النتيجة، و الضحية ُ الإنسان ُ في الحالتين.

علينا أن نبدأ في بيوتنا بتقديم الإنسان إلى أطفالنا على أنه المقدس الأول، و تقديم السعادة أنها في السعي نحو الوحدة البشرية التامة مع العائلة و المجتمع المُصغر، و مجتمع الدولة الأكبر ثم العالم، نحو فهم إنسانيتنا كاملة ً كما هي و نحو تدعيم الشراكة الحقيقية مع كل البشر و وضع الأمور في نصابها و عدم تضخيم الحاجات و العودة بالاستهلاك نحو مستوى الحاجات الأساسية و مستويات الترفيه المقبولة، و إيلاء الأهمية للعلم و البحث و القراءة، و الابتعاد عن المبالغات في الإشباع، و عن التعصب و ضيق الفكر و الإقصائية في التفكير، و بهذا فقط نستطيع التصدي نحو ما يدمر الإنسانية و يعيد البشر إلى مستوى الحيوان، هذا المستوى التي تدعي المجتمعات سواء ً علمانية أو دينية أنها تهدف إلى رفع الإنسان عنه لكنها تهبط بالإنسان إليه في كل ما تفعل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأمم المتحدة: 9 من كل 10 أشخاص أجبروا على النزوح في غزة منذ


.. فاتورة أعمال العنف ضد اللاجئين والسياح يدفعها اقتصاد تركيا




.. اللاجئون السودانيون يعيشون واقعا بائسا في أوغندا.. ما القصة؟


.. صور أقمار صناعية تُظهر إخلاء خيام النازحين من المنطقة الإنسا




.. جوع وعطش وتكدس نفايات.. الوضع الإنساني يزداد مأساوية في جبال