الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأثر الاقتصادى على تطور المجتمع من وجهة النظر الماركسية

أحمد محمد أنور

2013 / 12 / 2
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع



وتُعنَى هذه الورقة البحثية بتساؤل رئيس يتمثل فى محاولة إبراز مدى إسهام العامل الاقتصادى فى توجيه حركة المجتمع وتشكيل نموه وتطوره من وجهة النظر الماركسية.
لاحظ كارل ماركس الأهمية القُصوى التى يمثلها العامل الاقتصادى ، ودوره الرئيس فى توجيه الحس المجتمعى – بل والثقافى – سلباُ وايجاباً ، بل لعل ماركس لم يخالف الصواب حين رأى أن النشاط الاقتصادى هو أصل كل حركة اجتماعية ، وجوهر كل تغير ثقافى ، وقد انعكس ذلك من وجهة النظر الماركسية على حركة التاريخ ، فأدوات الانتاج production tools هى احدى العوامل المحفزة لقيام أى نشاط اقتصادى فاعل ، وهى فى الوقت ذاته تمثل المحراث أو الفأس الذى يطحن الأرض – العامل ، مصدر الثروة الحقيقية ، وبتماهى أدوات الانتاج مع مالكها (صاحب العمل) ، تظهر الصورة البائسة للمجتمع الاقطاعى الأول ، قبل تطوره الى المجتمع المعروف بالمجتمع الصناعى ، وفى هذا السياق يبدو بؤس التطور الاجتماعى الحاصل ، حيث يظل العامل حبيس الفقر والجهل ، سواء فى حوزة الاقطاعى صاحب الأرض ، أو فى حوزة الرأسمالى صاحب المصنع.
وفى معرض حديثه عن رأس المال ، شَخَصّ ماركس هذه الظاهرة ، التى تتبدى فيها مقدرة صاحب العمل (الرأسمالى) بالتماهى مع أدوات الانتاج ، على تحويل هذه الأدوات كوسائل للسيطرة على العمل الحى (العمال) واستغلاله ، إن وسائل الانتاج (العمال) تظهر كشىء مُتوائم تماماُ مع هذا التماهى (صاحب العمل – أدوات الانتاج) ، بحيث تبدو وسائل الانتاج كأشياء ، كقيم استعمالية ، كوسائل للإنتاج ، وهذه الأشياء أو القيم الاستعمالية أو وسائل الانتاج تتبدى فى النهاية بمثابة رأس مال .
ويضيف ماركس أن الوظائف التى يتولاها الرأسمالى ليست سوى وظائف الرأسمالى – أى الإنماء الذاتى للقيمة بإمتصاص العمل الحى – مُنفذة بصورة واعية وإدارية ، إن الرأسمالى ينشط كرأسمال الفرد الذى يُعَد العمل بالنسبة له هو محض مجهود وعذاب ، فى حين أن العمل يعود الى الرأسمالى بوصفه جوهراُ يخلق الثروة ويزيدها ، ... فالعامل وسيلة الانتاج الذى تحول الى قيمة استعمالية أو شىء ، هذا الشىء يبدو داخل عملية الانتاج بمثابة رأس مال ، أو حسب ما يقول ماركس " ... بل هو فى الواقع عُنصر من رأس مال ، مندمج به فى عملية الانتاج ، بوصفه المُكون الحى ، ... من هنا فإن سيطرة الرأسمالى على العامل هى سيطرة الأشياء على الانسان ، سيطرة العمل الميت على العمل الحى ، سيطرة صاحب العمل على المُنتِج الذى هو وسيلة الانتاج أو العامل.
تبدو الرؤية مأساوية حين تظل صيرورة المجتمع سائرة فى إتجاه طبقى ، حيث يزداد الفقير فقراُ ، ويزداد الغنى ثراءً بشكل مُضطرد ، وعلى هذا المنوال يغدو التطور الاجتماعى تطوراً مشوهاً ، لأنه يحوى بين طياته فكرة الصراع ، حيث يكون البَونُ الحاصل بين طبقتين اجتماعيتين متجاورتين متلاصقتين ، طبقة العمال المُنهكة (البروليتاريا) ، وطبقة أصحاب العمل مالكو شروط الانتاج وأدواته بل ووسائله أيضاُ (البرجوازية) ، وهذا المنظور الطبقى لا يخرج أبداُ عن بؤرة اهتمام ماركس ورفاقه ، بل ولم يخرج أبداً عن سياق التطور.
كان الصراع الطبقى دوماً هو جوهر الديالكتيك ، ونبع حركة المجتمع من وجهة النظر الماركسية ، ذلك أن الصراع كفكرة أهم ما يمكن أن يفرزه العامل الاقتصادى ، حين يستحيل العامل مصدر الثروة الحقيقية لمجرد شىء داخل منظومة الانتاج الراسمالى ، حين تُصبح السلع وسيلة للسيطرة على العامل – وسيلة الانتاج ، وفى هذا النمط الاقتصادى الذى يتوحش فيه الرأس مال ، تغيب العدالة ، وتنعدم القيمة الحقيقية للقوانين ، فيما يسود هذا النمط من الاقتصاد سوء توزيع للثروة بشكل حاد ، وسيادة للإحتكار ، وتشيؤ للعمل ، وظهور طبقة جديدة من المحاسيب والمنتفعين يقفون على هامش البرجوازية ، ويمثلون أحد اهم إفرازاتها الاجتماعية ، حيث يظهر نمط اجتماعى موازٍ له قيَمُه الخاصة ، حيث يتم التزاوج بين السُلطة ورأس المال ، ويتم تطبيع الرشاوى والفساد الإدارى واستغلال السُلطة كوسيلة لها شرعية فاعلة بين جنبات النشاط الاقتصادى.
يتعمق ماركس فى تحليل ظاهرة التشيؤ وأبعادها ونتائجها فى سياق نظام العمل فى الاقتصاد الرأسمالى ، ولعل أبرز ما يمكن التركيز عليه هو ربط قيمة العمل كشىء بالانسان العامل ، ونتائج ذلك فى ظهور سُلطة جديدة تمارس فعلها على الانسان نفسه ، يقول كارل ماركس " إن القيمة الحقة لكل سلعة تعادل كمية العمل المتحقق فيها ، وبهذا يعتبر العامل بحق هو المصدر الوحيد لهذه القيمة " .
يقوم ماركس بواسطة مفهوم " التشيؤ " بنقد الاقتصاد الرأسمالى ، لأن الهدف الأخير من العلاقات الانتاجية فيه ، ليس البقاء على نمط انسانى متكافىء من العلاقات بين الأفراد ، إنما اختلال توازن تلك العلاقة ، فالسلعة تتخلى عن أن تظل تعبيراً عن فعل انسانى يمكن بذله لسد حاجة اجتماعية ، إنما أخذت قيمتها فى ذلك الاقتصاد ، ليس من استعمالها ، ولكن لما فيها من وقت ، ... وعلى هذا لا يبقى الجهد الانسانى مشروطاً ببُعده الأخلاقى والانسانى ، إنما يتشكل بصورة سلعية ، تُمارس بدورها سُلطة على المنتجين أنفسهم ، ... وبما أن قيمة الانسان هى عمله ، فإن تحويل عمله الى شىء معناه فى التحليل النهائى تحويله الى شىء قابل للتداول كسلعة بعد أن سبقه جهده فى التشكل بصورة سلعة ، وماركس الذى يرى أن رأس المال هو نتيجة العمل الانسانى ، يقرر أنه يصبح المتحكم فى الانسان وفى العامل وفى رأس المال النقدى على السواء ، وذلك بسبب فصل العامل عن وسائل عمله وما يترتب على ذلك من تمييز المجتمع الى طبقتين فى الاقتصاد الرأسمالى ، حيث يعود منطق "رأس المال" هو قانون المجتمع المتعالى عليه والمتحكم فيه مع أنه من خلق وإبداع الانسان .
فضلاً عن ظاهرة تشيؤ العمل ، فإن النظام الرأسمالى يحرم العامل جزءً من قيمة عمله ، وهذا الجزء هو الزيادة فى قيمة ربح صاحب العمل ، ويظل هذا الربح يتكدس أكثر فأكثر فيكَوِن رأس المال ، فرأس المال اذن هو سرقة متصلة لعرق العاملين ، كما أنه أداة سيطرة صاحب العمل على العمل ، يقول لينين " فى درجة ما من تطور انتاج السلع يتحول النقد الى رأس مال – لقد كانت صيغة تداول السلع : س (سلعة) – ن (نقد) – س (سلعة) أى بيع سلعة فى سبيل شراء غيرها ، أما صيغة رأس المال العامة فهى بالعكس : ن – س – ن مع ربح ، أى شراء فى سبيل بيع مع ربح ، وهذه الزيادة (الربح) فى القيمة الأولى للنقد الذى وُضع قيد التداول هى ما يسميه ماركس (القيمة الزائدة) ، وهذه القيمة الزائدة مصدرها كما يشير ماركس " ... فمن أجل الحصول عليها يجب أن يتمكن صاحب المال من اكتشاف سلعة فى السوق ، لها قيمة استعمالية ، تتمتع بميزة خاصة ، هى أن تكون مصدراً للقيمة ، وهذه السلعة هى قوة العمل الانسانى ، إن استهلاكها إنما هو العمل ، والعمل يخلق القيمة ، إن صاحب المال يشترى قوة العمل بقيمتها التى يحددها ، كما يحدد قيمة أى سلعة أخرى ، وحين يشترى صاحب المال قوة العمل يصبح من حقه أن يستهلكها ويستغلها .
الرؤية التى ينشُدها ماركس وصديقه انجلز ، هى أن المُحرك الاقتصادى ينبغى أن يكونَ دافعاً ايجابياً للبروليتاريا المطحونة ، لكن على البروليتاريا فى كل بلد أن تتخلص أولاَ من البرجوازية المُستغِلة ، وتكون هذه الدافعية الايجابية positive motivation بخلق وليس بتطور ، وهكذا وبمنحى راديكالى ينشُد الرفيقان من تلامذة هيجل ، ضربة واحدة تُطيح بكل المُستغلين من الطبقة الرأسمالية وأذنابها من المنتفعين والمحاسيب.
يتطور الإسهام الاقتصادى فى النظرة الماركسية ليمتد الى الثقافة والتاريخ لا حركة المجتمع فحسب ، وفى مقال له بعنوان القلب الايديولوجى ، يشترك ماركس وانجلز فى القول بأن انتاج الأفكار والتمثلات والوعى ، يكون قبل كل شىء وبصفة مباشرة ، وثيق الصلة بالنشاط والتبادل المادى للبشر ، بينما يقرر انجلز فى "رسالة الى بورجيوس – يناير 1894" أن التطور السياسى والقانونى والفلسفى والأدبى والفنى ..الخ ، يقوم على التطور الاقتصادى ، ومن حيث أن التطور الاقتصادى هو العلة ، فإنه لا ينتج عنه أنه وحده هو الفاعل وأن ليس للباقى إلا تأثير سلبى ، بل هناك على العكس من ذلك تأثير معاكس على أساس من الضرورة الاقتصادية التى تنتصر دوماً فى المقام الأخير .
ومن حيث أن العامل الاقتصادى له كل هذه القوة والتأثير فى توجيه دفة المجتمع ، وبما أن العمل الانسانى – فى التحليل الماركسى – ينحل فى صورة شىء هو رأس المال النقدى والصناعى (العامل) ، كذلك الانسان والعلاقات الانسانية ، بل الشعور والأحاسيس ، كلُ ذلك يصطبغ بصِبغة الشىء المادى المُتحجر ، ويَعُم هذا التشيؤ (ظهور العلاقات والعواطف والأفكار فى صورة أشياء مادية) كلَ المجتمع من قاعدته المادية الى أعلى تعبيراته الفنية ، حتى الأدب والموسيقى والرسم ، تُصور الانسان وعواطف الانسان فى صورة أشياء صلبة .
وفى سياق التغير الاجتماعى الذى ينشُده ماركس ويُدشن لمُرتكزاته ، يمكننا أن نصلَ بالآلية التى وضعها – المادية الجدلية – الى المجتمع الشيوعى المثالى ، بعد المجتمع الاقطاعى والمجتمع الصناعى ، وهو يصب حركة التاريخ بأكمله فى الآلية ذاتها ، يقول ماركس "خلافاً للفلسفة الألمانية التى تنزل من السماء الى الأرض ، ها نحن نصعد من الأرض الى السماء" ، فهو يحاول أن يبتعد عن مرمى التراث الهيجلى والكانطى ، ويغامر بروح كوبرنيقية فيرى أننا جئنا لنغير العالم "يلزمنا أن نعيش كى نصنعَ التاريخ" ، ولكن للعيش لابد قبل كل شىء من الطعام والشراب والسكن واللباس ، ولابد أيضاً من أشياء أخرى ، فأول حدث تاريخى هو اذن انتاج الوسائل التى تسمح بإرضاء هذه الحاجات ، انتاج الحياة المادية نفسها ، وهذا حدث تاريخى ، وشرط أساسى لكل تاريخ .
إن التغير الاجتماعى – بل والثقافى – فى تاريخه الطويل ، كان مُجرد صدى عند كارل ماكس لكل نشاط اقتصادى ، ومُجرد تجلٍ من تجليات السلوك المادى للبشر ..
يمكننا ببساطة الاتفاق أو الاختلاف مع المادية الجدلية لصاحبها كارل ماركس ، لكننا أبداً لا يمكننا انكار الروح العلمية التى تسم نقد رأس المال ، وتشخيص ظاهرة تشيؤ العمل عند كارل ماركس.
إن هذه الورقة البحثية كانت محاولة للغوص فى متن الماركسية والنهل من عُبابها ، وسبر أغوارها ، والوصول الى عمق النظر الماركسى الى العامل الاقتصادى – كنسق – ومدى اسهامه فى حركة التطور الاجتماعى بل والثقافى والتاريخى أيضاً.






المراجــــــــع
1- بنعبد (عبد السلام) ، سبيلا (محمد) : الايديولوجيا ، سلسلة دفاتر فلسفية ، دار تويقال للنشر ، الدار البيضاء ، الطبعة الأولى ، سنة 1999 .
2- فرج (محمد يحيى) : هابرماس فيلسوف الحداثة ، مؤسسة وسيم للطباعة والنشر ، بدون تاريخ.
3- لينين (فلاديمير) : ماركس – انجلز "الماركسية" ، دار التقدم ، موسكو.
4- ماركس (كارل) : نقد رأس المال ، المجلد الأول : عملية انتاج رأس المال ، الكتاب الأول ، دار التقدم ، موسكو.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نتنياهو يهدد.. سنجتاح رفح بغض النظر عن اتفاق التهدئة | #رادا


.. دلالات استهداف القسام لجرافة عسكرية إسرائيلية في بيت حانون ف




.. من هو -ساكلانان- الذي نفذ عملية طعن بالقدس؟


.. أخبار الساعة | غياب الضمانات يعرقل -هدنة غزة-.. والجوع يخيم




.. مستوطنون إسرائيليون يعترضون شاحنات المساعدات القادمة من الأر