الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عشتار – 1 - الله و الشيطان.

نضال الربضي

2013 / 12 / 3
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


في الديانات الإبراهيمية يبرز الله و الشيطان كقطبين متناقضين هما محور الصراع الدائم بين الخير و الشر. و في هذا الصراع تتحدَّد الأدوار بشكل واضح، فالله هو الخالق الخيـِّر غير المحدود و السيد المطلق، بينما الشيطان هو مخلوق أصبح فيما بعد شريرا ً له سلطة شبه غير محدودة لكنها تظل محدودة و له حرية التصرف في التجوال في الأرض و الإفساد و الوسوسة مُمارسا ً سيادة الأمر الواقع على الرغم أنه ليس السيد. كما أن الله على الرغم أنه لا ينتصر في هذه الحياة على هذا الكوكب إلا أن الكلمة الأخيرة ستكون له عندما سينتصر في يوم القيامة و ما بعده من ملكوت أبدي لا ينتهي، بينما الشيطان ينتصر هنا على هذه الأرض و ستتم هزيمته في يوم القيامة ليبقى مهزوما ً بعدها إلى الأبد.

تطلب الديانات الإبراهيمية من أتباعها أداء عبادات متنوعة من صلوات و أصوام و إماتات للجسد و وسائل تطهير روحي ، لتخدم هذه كلّها غرضين: الأول الاعتراف بربوبية الله و الالتحاق بمعسكره و صفه و ما ينتج عن هذا من استنارة روحية و اقتراب من الله و فوز بنعيمه في الحياة القادمة عند استتباب ملكه، روحيا ً في المسيحية كبرٍّ و فرح و سلام في الروح القدس، و ماديا ً في الإسلام كجنات تجري من تحتها الأنهار بحورها العين و ملذات حدائقها الغلبا و فاكهتها الآبا، و الثاني الكُفر بالشيطان و التبرأ منه و من معسكره و ما يستتبعه هذا بالضرورة من إضعاف قوته على الأرض و تجنب العذاب الأبدي.

إن ثنائية الله و الشيطان هي من أغرب المفاهيم الدينية الموجودة و لا يمكن قبولها بسهولة إلا إذا أغمض الإنسان عيون عقله و أيقظ وجدان الإيمان و كفَّ عن الأسئلة، فكل ما في هذه الثنائية يطلب إجابات ٍ لأسئلة مُستحقة من غرابة هذه الثنائية و نقص مُعطياتها و تعارضها مع المنطق البسيط. فمثلا ً: لماذا يسرح هذا المخلوق الشيطاني و يمرح كما يريد و يوسوس و يخرب و يتسبب بكل هذه المشاكل و لا يردعه أحد؟ معنى هذا أن هذا المخلوق الشيطاني له قدرة مُضاهية لقدرة الله نفسه و إلا ما كان ليصنع كل هذا و هو مُطمئن أو أن الله لا مانع لديه من صولات هذا المخلوق البائس الشرير الذي لا يتلذذ إلا بعذاب البشر و جرهم نحو الخطئية و الموت.

هناك أسئلة كثيرة جدا ً عن ثنائية الله و الشيطان لكن السؤال الأبرز و الأقوى الذي يطرح نفسه بقوة هو التالي: إذا كان الله هو مطلق القوة و السلطة، و الشيطان حاد الذكاء بطريقة لا يتخيلها بشر و هو يعرف أن جزاء أعماله و شره ووسوساته الكريهة هو العذاب الأبدي و الخلود فيه، فلم يرتكب أكبر حماقة ٍ سجلتها لنا الميثولوجيا الدينية و يعصي الله عارفا ً مصيره المشؤوم قابلا ً به مُنتحرا ً مثل اليائس؟ أليس الأسلم و الأسهل و المنطقي من هذا الذكي هو الطاعة و السعادة و إيجاد حل توافقي لطموحه و دور حميد داخل منظومة الخلق لا شك أنه يمكنه التوصل إليه مع كائن كلي الخير مثل الله؟ الجواب الوحيد عند الأديان الإبراهيمية هو: غرور الشيطان الفائق. و منطقية هذا الطرح موضوع آخر لوحده لن أخوض فيه هنا، فأنا هنا أعرض و أصف فقط تمهيدا ً للتالي.

تُخبرنا الأديان الإبراهيمية عن دور الشيطان الكارثي في مأساة البشر، فبعد أن خلقهم الله، ووضعهم في جنة عدن، يتسلل الشيطان الأفعى ليتكلم معهم و يُقنعهم أن مستواهم الوجودي لا يليق بهم و أن تناولهم ثمرة التفاح من شجرة معرفة الخير و الشر من شأنه أن يفتح عيونهم على المعرفة، فيقتنع البشريان الأوليان بهذا الطرح و يتناولان من الشجرة فتنفتح أعينهما و كنتيجة حتمية لهذا الانفتاح البصري المعرفي يتم طردهما من الجنة بواسطة الله، و يتم طردهما من الفردوس إلى الأرض لتبدأ رحلة معاناة البشر، و يستفرد بهما و بنسلهما ذلك المخلوق الخبيث الشيطاني من دون إغفال دور الأنبياء الذين يرسلهم الله لتصحيح أحوال الناس حتى يأتي اليوم الذي يعود الله ليملك فيه من جديد و يُنهي الشيطان.

إن قبول هذه الرواية على علاتها يتطلب بساطةًً فكرية ً كبيرة، و لا بد من البحث عن مصادر هذه الرواية و جذورها، و لهذا الغرض و بواسطة القراءة في التوراة و معرفة تاريخ اليهود و خصوصا ً السبي البابلي سنستطيع أن نحدد المصدر التاريخي و الميثولوجي لثنائية الله و الشيطان التوراتية. إن الدراسات الحديثة تشير بشكل واضح أن اليهود قد نقلوا قصة الخلق و الطوفان من البابلين حينما تم سوقهم إلى بابل بعد السبي، لكنهم شأنهم شأن أي حضارة ناقلة لا بد و أن يصبغوا المنقول بصبغتهم الخاصة و يُضيفوا إليه خواصا ً جديدة من خلفيتهم و بيئتهم و فهمهم المجتمعي و الديني، و بالأخص فهمهم لمن هو الإله و لماهية وظائفه و ما يصح أن يفعل و ما لا يصح أن يفعل و ماهية صفاته، فجاءت الرواية كما شاهدناها. إن ثنائية الله و الشيطان التوراتية تجد جذورها في جذور معتقدات البابلين الذين ورثوها عن السومرين أنفسهم، و بالأخص في حكايات الإلهين أنليل و أنكي.

أنليل هو الإله الأعظم رئيس مجمع الآلهة السومري إبن الآلهة المائية الأولى "نمو" و هو الإله الوحيد الذي كان يمكنه أن يتصل مع إله الكون و النجوم أبيه "آن". يوصف أنليل أنه "لا مبدل لكلماته" و هو إله "الهواء" مما يذكرنا بالروح و النفخ و النسمة الحية، و هو سيد السماء. أما أنكي فهو ابن "نمو" المياة البدئية و أخو إنليل، و هو سيد المياه، مما يشير بدون لبس إلى اتحاده بأمه، و هو خالق الإنسان و المُعتني به الذي يحبه، و يبرز دوره الأكبر حينما تقرر الألهة بقيادة إنليل أن تقوم بقتل جميع البشر فترسل الوباء و الجفاف و المجاعة، فيُعلم إنكي الإنسان كيف يتغلب عليها (لاحظ دوره المعرفي)، ثم لاحقا ً عندما يفشل إنليل يقرر إغراق البشر بالطوفان يقوم إنكي مرة أخرى بإنقاذ الإنسان بأن يتصل مع أتراحسيس أحد البشر، و يُعلمه أن يبني سفينة نجاة (لاحظ هنا مرة أخرى دوره المعرفي).

فلنعد الآن إلى قصة الغواية التوراتية، آدم و حواء و شجرة المعرفة و الشيطان. تبرز هذه القصة في أدبيات الأديان القديمة، و ترتكز على القصة السومرية بأن أنكي قد خلق الإنسان لخدمة الآلهة، و أن هذه الخدمة قد أصبحت شاقة ً على هذا المخلوق الذي هو نفسه من عنصر إلهي فأنكي عند الخلق يذكر بوضوح شديد أنه سيضع على الإنسان "صورة الآلهة" ، و نفهم من سياق الألواح السومرية أن أنكي كان يُعلم هذا المخلوق الإنساني ماذا يجب أن يفعل و كيف يأكل و يشرب و يتصرف. يظهر من هذا السياق أنه في مرحلة ما قد استشعر أنكي المرتبط بأمه المياه البدئية و التي هي أصل الخلق الظلم الفادح على المخلوق البشري، و قاده ذلك إلى أن يرتكب الخطأ الأعظم بأن يدل الإنسان على المعرفة و العلم ليرتقي به من كائن شبيه بالحيوانات إلى كائن ذي عقل، تلك الخطيئة المعرفية المرموز لها "بالأكل من شجرة المعرفة".

- لا بد لي هنا قبل أن اُكمل أن أذكر نظرية التعديل الجيني الفضائي، و أصحاب هذه النظرية يرون أن إنليل و أنكي و غيرهم من الآلهة هم في الحقيقة مخلوقات فضائية هبطت على كوكبنا و قامت باختبارات وراثية أدخلت فيها جيناتها إلى جينات المخلوقات البدائية الأولى فنتج عنهم البشر، و ما إنكي إلا عالم ٌ منها و أحدها تجاوز حده برغبة علمية جامحة أو شفقة ً على هذه المخلوقات أو كلا الأمرين، و ما إنليل إلا أكبرها و زعيمها الذي تحداه أنكي، و بالتالي تم شيطنة إنكي و جعله الشيطان، و تنزيه إنليل و تمجيده و جعله الله -

و الآن لنُكمل بعيدا ً عن نظرية الفضائين.

تفسر الرواية السومرية السابقة و التي تؤمن بتعدد الآلهة القصة التوراتية تماما ً. لكن بما أن اليهود كانوا موحدين فالله فكان لا بد من تبني نسخة معدلة عن الرواية السومرية، و فيها لا مانع من تداخل الأدوار و تبديلها و تغير النظرة إلى إله معين لمصلحة إله آخر، فلنشاهد معا ً.

أولا ً يتم اعتبار الإله الأوحد هو يهوه إيل الله (على اختلاف التسميات بين قبيلة يهوذا اليهوي و باقي قبائل إسرائيل الإيلية و الإسم الحالي العربي الله) . الله هو إنليل، إله السماء و المُرتفع العالي الذي لا مُبدل لكلماته، و قد أُخذ دور إنكي فأصبح هو خالق الإنسان و راسم مصيره.

ثانيا ً يتم تجريم المعرفة و فعل إنكي بنقله لها للبشر و اعتبار هذه المعرفة أصل كل البلايا و الشرور و اعتبارها سبب تعاسة الإنسان، على الرغم أن التعاسة الأولى كانت ناتجة ً عن جهل الإنسان و استعباده لخدمة الألهة، و التي جملتها القصة التوراتية و جعلت من بشاعتها أمرا ً بهيا ً هو "العناية بالبستان الإلهي".

ثالثا ً يتم خسف إنكي من مرتبة إله إلى مرتبة كائن مخلوق أقل من إله يُسمى الشيطان، ثم وصمه بكل الصفات الكريهة السيئة و جعله عدوا ً للبشر.

رابعا ً يتسلم الإله الله (إنليل) دور المخلوق المخسوف الشيطان (إنكي)، فيصبح عندها الله هو حامي البشر و مُحبهم، هو الذي يغطي عُراهم بأن يصنع لهم أقمشة من الجلد يكسوهم بها قبل طردهم من الجنة، و هو الذي يدلهم على بناء السفينة (بدل إنكي) مع أنه هو نفسه الذي يريد قتلهم و إغراقهم.

خامسا ً يتم الترويج لله و عبادته و للكفر بالشيطان و كراهيته، و يصبح الله مسؤولا ً عن كل الخير مُحبا ً للبشر و الشيطان مسؤولا ً عن كل الشر عدوا ً للبشر، مع التذكير الدائم بخطورة المعرفة و التساؤل و التحذير منهما مع حمد القبول التسليمي بالعقائد و العبادات و التشريعات الإلهية.

يمكننا الوقوف هنا و القول أن القصتين: 1. السومرية الأصلية 2. التوحيدية الإبراهيمية، هما مجرد قصتان ميثولوجيتان أسطوريتان عبرتا عن فهم الإنسان الأول للوجود و الألوهة و علاقته بهما. أو يمكننا أن نغوص أكثر نحو فهم ٍ أعمق لجذور القصتين نحو تاريخ ٍ أنثروبولوجي سحيق موغل ٍ في القدم، نحو المجتمعات الأمومية، نحو عشتار.

يتبع في الجزء االثاني.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - اشتياق
بلبل عبد النهد ( 2013 / 12 / 3 - 09:13 )
كم انا مشتاق للجزء الثاني


2 - شرح
المنذر العريان ( 2013 / 12 / 3 - 16:10 )
مدخل جميل وبداية جيدة


3 - جهد مشكور
سيمون خوري ( 2013 / 12 / 3 - 16:26 )
اخي نضال المحترم تحية لك على جهدك وبانتظار الجزءالثاني اعتقد انه من المفيد الاطلاع على ما كتبه الزميل فراس السواح بهذا الموضوع شكرا لجهدك


4 - إلى الأستاذ بلبل عبد النهد
نضال الربضي ( 2013 / 12 / 3 - 19:18 )
شكرا ً لك أستاذ بلبل، و يشرفني حضورك.


5 - إلى الأستاذ منذر العريان
نضال الربضي ( 2013 / 12 / 3 - 19:19 )
شكرا ً أستذا منذر و سوف أبذل جهدي لكي يكون المحتوى القادم جديرا ً بمتابعتك.


6 - إلى الأستاذ سيمون خوري
نضال الربضي ( 2013 / 12 / 3 - 19:22 )
أشكر لك متابعتك أخي الكريم و سوف يعتمد المحتوى القادم بشكل رئيسي على كتب أستاذنا الدكتور فراس السواح كما اعتمدت هذه المقالة. سوف أقوم بذكر هذه المراجع في المقالات القادمة.


7 - فلم هندي
عباس علي ( 2013 / 12 / 4 - 03:39 )
بعد التحية الطيبة
جاء في مقالتكم القيمة
::
فبعد أن خلقهما الله ، ووضعهم في جنة عدن، يتسلل الشيطان الأفعى .. ألخ
::
كيف تسلل الشيطان المتخفي في ألأفعى ودخل الجنة ؟ يعني كل ما نفعله بالخفية هو أيضا خافي على الله
وأين كان الله الذي يعلم كل شيء !!
الشيطان شاطر .. ويبدو هنا أشطر من خالقه
أم ان كاتب هذا السيناريو المقدس سيناريست هندي
الشيطان يتسلل الى الجنة .. يصلح فلم هندي
::
مع التقدير


8 - عباس علي
نضال الربضي ( 2013 / 12 / 4 - 07:05 )
أهلا ً أستاذ عباس،

من خصائص النص الديني أنه يستخدم الأسطورة للتعبير عن الحدث. هذا الحدث قد يكون إما حدث تاريخي قديم موغل في القدم حملته ذاكرة الجماعة البشرية و غيرت فيه، أو تفسيرا ً لظاهرة طبيعية معينة في الجو كالرعد أو البرق، أو تعبيرا ً عن مكنون مكبوت في اللاشعور الفردي (بحسب فرويد) أو الجماعي (بحسب يونغ) أو تعبيرا ً عن نص أدبي قصصي يرغب في توطيد قيم الجماعة، أو كنص ذرائعي يرغب في تدعيم سلطة زعيم أو ملك فيستخدم الأسطورة الدينية وسيلة ً، أو كنص أتى لتفسير سلوك طقسي قديم نُسي سببه (كما يذكر جيمس فريزر)، أو هي كا يفسرها (إيريك فروم) خبرات تحليلية للواقع بلغة الرموز تمت في اللاشعور.

لهذا تُفهم الأسطورة بعد تحليلها و برمزيتها و لا تؤخذ على أنها حدث تم كما رُوي أبدا ً، و اللاحق هو الخطأ الذي يقع فيه المتعصبون الدينيون المضطلعون على التفسيرات الرمزية و الرافضين لها و عامة المتدينين الذين لم يتسن لهم الاضطلاع على التفسير الرمزي.

أنا أقدم هنا وصفا ً و تحليلا ً و لا أقدم عقيدة ً دينية. لمزيد من المعلومات يمكنك قراءة كتاب الدكتور فراس السواح -مغامرة العقل الأولى-.

أهلا ً بك دوما ً.

اخر الافلام

.. موجز أخبار الواحدة ظهرًا - رئيس الوزراء يهنئ الرئيس السيسي و


.. وادي الرافدين وتراثه القديم محاضرة استذكارية وحوارفي الذكرى




.. ليبيا.. هيي?ة الا?وقاف في طرابلس تثير ضجة واسعة بمهاجمتها ال


.. 158-An-Nisa




.. 160-An-Nisa