الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نقض آركيولوجية ميشيل فوكو

هيبت بافي حلبجة

2013 / 12 / 4
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


نقض آركيولوجية ميشيل فوكو
هيبت بافي حلبجة
لن أخفي عليكم إني أصنف ميشيل فوكو ، الفيلسوف الفرنسي الكبير وصاحب آركيولوجيا المعرفة ، ضمن قائمة أبرز الفلاسفة عظمة في التحليل ومعرفة في التدقيق وقوة في التعبير وغنى في الموضوع ، فمن مؤلفه الجنون في العصر الكلاسيكي ، إلى آركيولوجيا النظرة الطبية ( ميلاد العيادة )، وإلى الكلمات والأشياء ، وإلى آركيولوجيا المعرفة ، وإلى نظام الخطاب ، وإلى تاريخ الجنسانية ( في أجزائها الثلاثة ) يصطحبك إلى وجدانيات المعرفة شئت أم أبيت ، يناجي جدليات الطبيعة وهموم الأطروحات ، يصطحبك إلى واحات أخاذة وواحات أخرى متراقصة في فضاء منحني ولاينحني ، دون أن يكترث فيما إذا كنت من أصحابها الأصليين أم من الزائرين .
ميشيل فوكو ( 1926 – 1984 - توفي مبكراُ بسبب مرض الأيدز ) ، الذي أبدع في أطروحة الجسد والمعرفة من خلال مفهومين هما الآركيولوجية المعرفية والجينالوجيا ، أستعار هذه الأخيرة من فيلسوف إرادة القوة ، نيتشه الفيلسوف الألماني المعروف ، وأكتشف الأولى من خلال محتوى التنقيب والبحث في الآثار والحفريات التاريخية .
ويطيب لي أن أكرس هذه الحلقة للآركيولوجية المعرفية فقط ، مع علمي أنه لابد أن أخصص حلقة قادمة لموضوع الجينالوجيا لما لها من أهمية مميزة لدى نيتشه وفوكو ، والآركيولوجية الفوكوية تتخطى ( محتوى التنقيب والبحث في الآثار والحفريات التاريخية ) كما إنها لاتعالج هذا الموضوع بنفس الصيغة التقليدية ، أي بنفس أسلوب الآركيولوجية الكلاسيكية ، كفرع من فروع التاريخ ، كعلم يتخصص في البحث عن مندثرات التاريخ الغابر المتفكك بغية العثور عليها أو أكتشافها ، إنما هي ، حسب فوكو ، البحث المعرفي المتحرك ضمن مجموعات متعارضة ، متباعدة ، متوافقة ، متلاصقة ، منحازة ، متراكبة ، متنافرة ، متسطحة ، متراكضة ، منفرجة ، متشطحة بغية التقرب إلى فحوى الوصول إلى بنيوية ( المفاصل الأساسية ) التي تسمى عند الآخرين ، خطأ ، بالحقائق المفصلية التاريخية ، لإنه ينبغي أن نبتعد عن مفهوم ( مجموعة النصوص التي أحتفظت بها حضارة ما ) وندنوا من محتوى ( مجموعة الممارسات المعرفية والسلوكية والبسيكولوجية ) التي تنتج الحالة المعرفية المتعلقة أولاُ: بمفهوم الجسد بعيداُ عن الشكل المحدد وعن حالة الوعي السابق ، أوالمتعلقة ثانياُ : بمفهوم الظاهرة بعيداٌ عن محتوى التجربة الثابتة وعن المقابسات والمقاسات المعينة ، ولذلك نعتقد إن العالم ( بويل ) قد أقترب كثيراُ من هذه الجداريات الجاثية هناك والثاوية مابين المكشوف والمغموض وحالة الفهم بقوله ( إن المنهج الآركيولوجي يكشف عن التداخل مابين ماقيل في الماضي ومايمكن أن يقال عن الظواهر المختلفة ) .
ونحن نعتقد إن هذه المقاربة التي ألمح إليها ( بويل ) صادقة في ملمحها الجوهري لثلاثة أسباب تبدو، لأول وهلة ، متداخلة متباعدة ، الأول : يؤكد فوكو في مؤلفه ، آركيولوجيا المعرفة ، إن هذه الأخيرة ليست دراسة هدفها البحث في الآراء وفي الأفكار وفي الأطروحات ، لا في صحتها ، ولا في فسادها ، إنما غايتها هي تحليل الفوارق والأختلافات الموجودة .
الثاني : يقول فوكو إن حفريات المعرفة لاتسعى إلى أبراز مافكر فيه البشر ، وما أرادوه ، أو ما شعروا به ، أو ما رغبوا فيه ، أي إن الحفريات تجردهم مما هو خارج الجسد وحالة المعرفة ، وعن اللحظة التي كانوا فيها يصوغون خطاباتهم ، وعن التصور الذي كانوا ينشدونه أو يصبون إليه .
الثالث : وهذه نتيجة طبيعية من السبب الأول ومستقلة عنه في ذات الوقت ، والتي فحواها إن حفريات المعرفة لاتركز على أثر الخطاب أو النص ، ولا تعلي من شأنه ومقامه ، بل حتى إنها لاتحصر أهتمامها فيه ، لإنها بكل بساطة ( تسعى إلى تحديد أنماط وقواعد الممارسات الخطابية أو النصية ) .
إن هذا الفهم الأولي لحالة الآركيولوجية المعرفية لايقبل الحديث في الآتي ، أولاُ : لقد أخطأ من أعتقد ( بعض المفكرين العرب ) إن فوكو قد أستخدم مصطلح الآركيولوجيا بالمعنى المجازي ، وهذا هو الفهم المتناقض تماماُ ، وذلك لو أن فوكو قد أستخدم الفهم التقليدي لهذا المصطلح لقلنا ، فعلاُ ، أنه قد استخدمه بالمعنى المجازي ، لكنه قد استخدمه بالمعنى الذي اشرنا إليه آنفاُ فهو يعني ذاتيتها بالضبط ، تلك الذاتية التي ندركها ولانحددها ، نبصرها مابين بينين ولانسعى إليها ، وهذا ما يؤكده ميشيل فوكو في مؤلفه آركيولوجيا المعرفة ( كما ترفض حفريات المعرفة أن تكون دراسة تبحث عن المعنى المجازي خلف المعنى الظاهري ، فهي ليست مبحثاُ مجازياُ ) .
ثانياُ : ولقد أخطأ من أعتقد ( بعض المفكرين العرب ) إن الآركيولوجية المعرفية ، حينما تعالج الخطاب المعرفي ، تولد خطابا أو نصاُ آخراُ ، وكأنها تصحح أو تنقح أو تعدل من النص الأصلي بغية كشف المستور وأظهار الفعلي فيه ، أو كأنها تلغي النص الأول لكي ينتج عنها خطاب جديد ، فها هو أحدهم يكتب بالحرف ( يتعرف المنهج الآركيولوجي الحفري المعرفي إلى ما وراء الظاهر من النص ، في قراءة ما يخفيه أو يسكت عنه ، فهو يولد بذلك نصاُ ثانياُ يمكن أعتباره بمثابة الصنو الآخر للنص الأول ، ويخلق بذلك قراءة ثانية تخترق النص الأول وتكشف عن بعض أمكاناته ) ، وبالمقابل ها هو ميشيل فوكو يؤكد مناقضاُ هذا الزعم ، في مؤلفه ، آركيولوجيا المعرفة ( إن حفريات المعرفة ليست بحثاُ تأويلياُ مادامت لاتسعى إلى أكتشاف خطاب آخر يتوارى خلف هذا الخطاب ) .
ثالثاُ : لايجوز تقديم تعريف مشروط في شكله للآركيولوجية المعرفية ، إنما ينبغي معالجة حالتها من الزاوية البنيوية والبسيكولوجية ، لإن التعريف تحديد ، والتحديد يجافي عمق آركيولوجيا المعرفة التي ترفض أن تنضوي تحت ( شكل الكلمة ، مهما كان التعريف حاذقاُ ودقيقاُ) ليس من حيث المعنى فقط إنما من حيث ما ينضوي تحت أجنحتها من مقدمات وأولويات على شكل ممارسة ، أو على هيئة سلاسل ، أو على طراز سلاسل السلاسل .
رابعاُ : لايجوز الربط مابين الآركيولوجية المعرفية ومفهوم الحقيقة التاريخية كما فعل البعض وأعتقد بصدقه ، وها هو أحدهم يزعم ( إن ألاركيولوجية المعرفية هي من أجل أزاحة الركام وأكتشاف الطبقات العميقة للحقيقة التاريخية أو للواقع التاريخي ) لإن ، مجرد تثبيت أي حقيقة تاريخية أو أي واقع تاريخي ، حتى لو كان ذلك من جراء بحث آركيولوجي ( حفري ) ، هو القضاء على الآركيولوجية المعرفية وتحويلها إلى الآركيولوجية التقليدية .
فالآركيولوجية المعرفية لاتسعى إلى اكتشاف مظاهر الأستمرار غير المحسوس ، تلك المظاهر التي تدعي الرباط مابين الخطابات ، وكأنها طريقة أتصالية مابينها ، بحيث تربط السابق باللاحق أو بالعكس ، كما أنها لاتترصد اللحظة التي فيها يتكون الخطاب ، ولا اللحظة التي فيها يفقد الخطاب عمقه البنيوي من صلب ماهيته ، لإن كل ذلك ، حسب ميشيل فوكو ، ليس إلا دراسة تاريخية مباشرة ، تلك الدراسة التي هي من الحيثية الأصلية للآركيولوجية التقليدية ، تلك الدراسة التي تضفي على الآركيولوجية التقليدية ذلك المفهوم الذي لايقبله ميشيل فوكو ، ألا وهو مفهوم الأستمرارية ، في حين إن الدراسة التي تضاد تلك وتقف على الطرف النقيض تضفي على الآركيولوجية المعرفية صفتين جوهريتين ، الأولى مفهوم السلاسل ، والثانية مفهوم الأنقطاع ، ولذلك فإن الآركيولوجية المعرفية ترفض الأتصالية المباشرة ، ولحظة التكوين ، ولحظة فقدان التكوين ، ولحظة ( الأشياء ذاتها ) حسب تعبيره هو .
وطالما هي ليست كذلك ، فهي ، اي الآركيولوجية المعرفية ، تكترث بالخطاب في خواصه ، بالجسد في مادته العلمية ، باللحظة غير المعلنة عن ذاتها وغير المعينة ، وعن التصور الذي لاتصور فيه ، وتبرز كيف إن القواعد التي يخضع لها ذلك الخطاب لايمكن ارجاعها إلى اي شيء آخر ( لإن الآركيولوجيا تتبع تلك الخطابات من خلال مظاهرها الخارجية وصورها البرانية ، وهكذا تملك القدرة على تحليل الفوارق والأختلافات الموجودة مابين صيغ الخطاب ووجوهه ) .
ولذلك فإن الآركيولوجية المعرفية ، بأعتبارها موضوعاُ ، تقترب من كاشف الصيغ ، ومنظم الخطاب ، والوصف المنهجي ، وتكشف عن موضوعيتها من خلال ذاتيتها ، أي من خلال موضوعها الخاص بها ، ومن هنا دون ميشيل فوكو ، في مؤلفه آركيولوجيا المعرفة ( لاتهدف الآركيولوجيا إلى تحديد الأفكار والخواطر ، والتمثلات والصور والموضوعات التي تختفي أو تظهر في الخطابات ، بل تحدد هذه الخطابات نفسها من حيث هي ممارسات تحكمها قواعد معينة ، فهي لاتنظر إلى الخطاب على أنه وثيقة ولاتعتبره علامة أو إشارة تحيل إلى شيء آخر ) .
وكذلك كتب في مؤلفه ، الكلمات والأشياء ، ( إن مثل هذا التحليل لايرجع كما نرى إلى تاريخ الأفكار ، ولا إلى تاريخ العلوم ، أنه بالأحرى دراسة تحاول أن تهتدي وتتعرف على تلك المنطلقات التي بفضلها أصبحت المعارف والنظريات ممكنة ) .
إن هذا التصور الفوكوي عن الآركيولوجية المعرفية يفشل عن تحقيق ذاته في الآتي :
أولاُ : من المؤكد إن ميشيل فوكو يمارس الفلسفة ، يمارس الحالة المعرفية ، ويمارس الفلسفة في الحالة المعرفية ، ويمارس الحالة المعرفية في الفلسفة ، ويجيد فن هذه الممارسة ، وهذا نشاط خلاق ومبدع ، لكنه في ممارسته تلك يفقد أهم سند وأهم مرتكز يخص الآركيولوجية المعرفية ، والذي بدونه تبدو هذه الأخيرة ظلعاء عرجاء ، والذي هو : ماهي طبيعة هذه الممارسة في هذه الآركيولوجية المعرفية ، وأنا لاأقصد ، هنا ، تحديد ذلك النوع لإن عندها أرتكب مخالفة مع تصور ميشيل فوكو ، إنما الذي أرمي إليه هو العلاقة مابين العامل البسيكولوجي وتلك الممارسة ، سيما وإن هذا العامل البسيكولوجي هو جوهر آخر متطور في أركيولوجية فوكو .
ومن المحقق إن ميشيل فوكو يتفادى كل أبعاد ( التحديد ) ، وهو يبدع في هذا المنحى ، لكن تلك العلاقة التي أشرنا إليها تتضمن ، كرها وقسراُ ، حالة معينة من التحديد حتى لوكانت متفلطحة ومشوهة ، كما أنها قد تؤدي إلى ( مجالات أو فضاءات ) متنافرة ، والسبب في ذلك هو البعد الضبابي والمتعدد والمتحول والمتركب والمتدفق في العامل البسيكولوجي .
ومنذ البداية الأولى كان أمام فوكو ثلاثة أحتمالات في علاقته ، هو ، مع الآركيولوجية المعرفية ، الأول العامل العقلي ، والثاني العامل البسيكولوجي ، الثالث أهمالهما معاُ ، ولقد ألغى العامل العقلي لإنه يقتضي التحديد والقواعد الثابتة التي تعارض طبيعة آركيولوجيا المعرفة ، وتردد ما بين الاحتمالين الباقيين ، وفي النهاية أنتصر للعامل البسيكولوجي .
هذا العامل الذي أنفلت من سيطرة ميشيل فوكو ، لايستطيع أن يلغي خاصيته ، أو مفهوم ( الأشياء ذاتها ) حسب تعبير فوكو نفسه ، لإنه تكويني ، وهذه التكوينية هي التي تفرض نفسها ، من حيث لايدري فوكو ، على آركيولوجيا المعرفة .
الثاني : يؤكد فوكو أكثر من مرة إن الآركيولوجية المعرفية تملك القدرة الكافية في أظهار الفوارق والإختلافات مابين صيغ الخطابات ووجوهها ، بل هي مضطرة لقبول هذه القدرة ، تلك القدرة التي تتجلى أكثر حينما نتحدث عن مفهوم التناقض الذي يحكم الخطاب ومراحل تأسيسه ، كمبدأ تاريخيته ، والذي يبدو على شكل مستويين ، مستوى المظاهر ومستوى الأسسس ، وفي المستوى الأول ينحل التناقض ، حسب فوكو ، داخل وحدة الخطاب نفسه بغية تجريدها وتخليصها من الحضور العرضي المارجينالي ، وفي المستوى الثاني يشكل الخطاب الصورة الأختبارية التي تتقمصها التناقضات والتي يلزم القضاء على أرتباطها المظهري ، قصد أستكشافها من جديد ، وهكذا ننتقل من تناقض إلى تناقض آخر .
وليته توقف عند هذه النقطة ، فهو يتابع ( وإذا كان الخطاب يفسح المجال لظهور تناقضات نلحظها فلإنه يخضع لتناقض يخفيه ) أي إن الخطاب يخفي التناقضات ويكشفها ثانية ، اي إن التناقضات أما أن تتلاشى وأما أن تتحول من مسببات إلى اسباب .
وفي هذه الموضوعة يرتكب فوكو حماقتين ، الأولى : إذا كان الخطاب قادر على حل التناقض في داخله فلم نعد نحتاج إلى الآركيولوجية المعرفية لإنه من المفروض أن يكون ذلك من ممارسة هذه الأخيرة وليس من مهام الخطاب نفسه ، الثانية : وإذا كنا ننتقل من تناقض إلى آخر ، وإذا كان الخطاب مضطر أن يظهر لنا التناقضات لإنه يخضع لتناقض يخفيه ، فهذا يعني أمرين أثنين ، الأول إن التناقض المخفي هو الذي يسبب حالة الأنتقال من تناقض إلى تناقض آخر ، والثاني إن درجة القرابة مابين آركيولوجيا المعرفة والتناقض أقرب من درجة القرابة مابين ذات الأولى ومفهوم ( أظهار الفوارق والأختلافات ) هذا من جهة ، ومن جهة ثانية إذا كان مفهوم ( أظهار الفوارق والإختلافات ) يتمتع بقوة الكمية فإن مفهوم التناقض يتمتع بقوة الكيفية ، ونحن نعلم إن الكيف ينتصر على الكم .
ثالثاُ : يركز فوكو دائما على العلاقة القوية مابين الأتصالية والآركيولوجية التقليدية ، وكأن العلاقة ما بين الأتصالية والآركيولوجية المعرفية ضعيفة أو مفقودة ، أنني أعتقد ، على عكس ذلك ، إن الأتصالية في الحالة الثانية أقوى بكثير منها في الحالة الأولى ، لأنها في هذه الأخيرة أفقية شكلية ميكانيكية ، في حين أنها في الحالة الثانية شاقولية ديناميكية حيوية ، ونحن نعلم متانة العلاقة وراديكاليتها مابين الشاقوليات وضعفها في الأفقيات . وإلى اللقاء في الحلقة الثالثة والأربعين .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تصعيد متبادل يهدد بوضع المواجهة بين روسيا والغرب على سكة الت


.. لتفريق مظاهرة داعمة لغزة.. الشرطة تشهر السلاح بوجه طلاب جامع




.. واشنطن بوست: إسرائيل حررت 4 رهائن لكنها خلفت الموت والدمار ف


.. -خط أحمر-.. شعار مظاهرة أمام البيت الأبيض تطالب الإدارة الأم




.. انهيار أم وجدت ابنها بين ضحايا المجزرة التي نفذتها إسرائيل ب