الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في الشرق حتى الكتابة بالخفاء

سلمى موسى

2013 / 12 / 5
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


نعم، أكتب باسم مستعار، بعد تلك الليلة الطويلة التي قضاها والدي يحاكمني على طريقة "محاكم التفتيش" الأوروبية التي بدأت في القرون الوسطى وامتدت حتى أوائل القرن العشرين، على خلفية مقالات لي نشرتُها عبر الحوار المتمدن باسمي الحقيقي. محاكمة وصلت به أن يستجوبني في حقّ أعطاه الله لي (الإيمان أو الكفر) لأن الفقهاء- المتألين على الله في نومهم وصحوهم- أعطوه ذلك الحق. كان قد وصله رابط من "فاعل خير" جاء يناقشه بما تكتبه ابنته. في الشرق حتى حين تكتب الأنثى يُناقش والدها في محتوى ما تكتب وليس هي. لم أكن قد عرضت على والدي شيئا لي ليقرأه من قبل لكنني كنت أعرف أنه سيقرأه يوما. تجادلنا طويلا، كان الحديث قاسيا على كلينا وعلى كل من شهده من العائلة. أمي بكت متوسلة أن ننهيه، وإخوتي حاولوا بلا جدوى إقناع والدي أن مشكلته الحقيقية ليست بما أكتب ولا بالموقع "العلماني" الذي أكتب فيه وإنما بحساسيته المفرطة تجاه ملاحظات بعض الناس وتحفظاتهم حول ما أكتب، لكنه أي والدي حاول جاهدا من غير جدوى أيضا أن يقنعنا أنه يخاف على الله والإسلام مني!! لكنني أنا التي أعرفه جيدا، كنت على يقين أن ما يزعجه ليس ما أعتقده أنا حول الحياة والدين والمجتمع بقدر ما أن أعرض ما أعتقد به على الملأ موقعا باسمي الحقيقي. فالآباء يحمّلوننا أسماؤم وأسماء عائلاتهم كعبءِ ثقيل علينا أن نحافظ على "بريستيجها" الاجتماعي والثقافي حتى لو كلّفنا ذلك أن نعيش وراء أقنعة طوال حياتنا. لا يهمهم حقا إن عشنا منافقين، المهم أن يبقى شكلهم الاجتماعي أبيضا ناصعا. فقد هدأت وتيرة سخطه حينما قلت له ببساطة إذا كان ما يزعجك وجود اسمي على المقالات فلا تقلق، سأكتب باسم مستعار من الآن وصاعدا.، فما يهمني هو أن أقول من أريد لا ما تريده أنت أو "فاعل الخير"!

هي بلادٌ اعتادت أن تمارس حياتها بالسرّ وتجبرك كرها أن تكون مثلها، منافقا متلوّنا كاذبا مهزوزا جبانا. لا يهم إطلاقا بماذا تفكر أو تحلم، أو تريده أنت لحياتك. على والدك أن يقرر ذلك، فتعيش على مقاس القالب الذي صنعه هو لك. يهبك كل شيء بوسعه، إلا شيئا واحدا وهو أن لا تكون أنت، نفسك. أتذكر أنني حلمت بأشياء كثيرة ضاع جلّها لأنني لم أجرؤ حتى أن أذكرها عرضا، لأنها ليست وفق خطة أبي التي رسمها لحياتي ولا تتناسب مع منظومة العادات والتقاليد العفنة التي يقدسونها ويقدمون لها القرابين، أبناءهم. نعم، ناضلت ضد بعض قراراته التعسفية- والحمد لله أني فعلت- وانتصرت، لكن كثيرة هي الأحلام التي ماتت اختناقا في قلبي وبقيت أحلاما.

كنا قد سمعنا أن كتّابا وصحافيين كانوا قد كتبوا بأسماء مستعارة لنفس الأسباب تقريبا، الاقتراب من المحرّمات. لم ترق لي الفكرة حين قررت أن أبدأ بنشر مقالات هنا، فلم اعتد أن أفعل شيئا بالخفاء، وكل تلك المحظورات التي يمارسها الناس بالسر لم تغرني طوال سنين لأنني أردت أن أعيش بوجه واحد وبغير لثام. كم هو صعبٌ أن تعيش بوجه واحد في مجتمعٍ متعدد الوجوه. كم صعب أن تحاول أن تكون صادقا في مجتمع يحترف الكذب والدجل. وكم هو مؤلم أن ينصحك أهلك بالكذب حتى تنجو وينجون هم من مغبة عواقب "شذوذك" عمت هو سائد. قال والدي صراحة أنه يخاف على منزلنا أن يُحرق، أو أن يهاجمني تكفيريّ ما فتعلق العائلة بقضية "رد اعتبار" قد لا يكونون أهلا لها من حيث العدة والعتاد!

كم هو موجعٌ أن تمضي حياتك غريبا في وطنِ لئيم كان مسقطا لرأسك لكنه فشل أن يكون مسقطا لقلبك.

يظنّ معظم أهلنا في الشرق العربي أنهم أسدوا لنا جميلا بإنجابهم لنا في هذه البلاد وأننا محظوظون لأن لدينا مأ نأكله ونشربه وأن التفكير بأبعد من ذلك هو ضرب من من البطر والجحد بالنعمة. كان والدي واضحا، فكّري بصمت لا تقولي ما تفكري به، وإن أردت أن تكتبي فعليك أن تكتبي عن كذا وكذا وكذا. يصرّ الأهل في الشرق العربي أن تكون على ما وجدتهم عليه وما وجدوا آباءهم عليه، لا تفكر، لا تقرأ، لا تبحث. لا تكن شجاعا، لستَ تمتلك المقومات لتكون مصلحا. عليك أن تنتظر معهم أن تأتي معجزة لتنتشلهم من وحلهم الفكري. عليك أن تنتظر معجزة لن تأتِ…








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. 155-Al-Baqarah


.. 156-Al-Baqarah




.. 157-Al-Baqarah


.. 158-Al-Baqarah




.. 159-Al-Baqarah