الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فشل الحوار بين الهويات...أو هل نحن هوية بلا ذات ؟

فتحي المسكيني

2013 / 12 / 6
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع



فشل الحوار بين الهويات...أو
هل نحن هوية بلا ذات ؟
(مقدمة كتاب "الهوية والحرية"، بيروت: دار جداول، 2011)

ليست الفلسفة من فتنة الهوى في شيء. فهي نمط نادر من إنتاج الحقيقة، وإعداد للعقول الحرّة، والتزام مدني بقيم المعرفة، وتعهّد لغيريّتنا وقدرتنا على المواطنة العميقة. لأجل ذلك آثرنا أن نعقد هذا الكتاب تحت هدي إقرار نظري وأخلاقي واحد، ألا وهو أنّ الفلسفة، هي فنّ البحث عمّا سمّاه نيتشه ذات شذرة "أنوارا جديدة". هي أنوار جديدة في معنى أنّها "أخرى" و"جذريّة"، كما صار يُقال منذ أمد قليل، في كرة واحدة. ليست "جديدة" في معنى الجدّة الزمانية فحسب، حيث لا تكون على الأغلب سوى خروج عن الألفة بمعاندة. كما أنّها ليست "جذرية" في معنى العودة إلى "الأصول" السحيقة لأنفسنا، حيث ترتاح العقول المتعبة، متعلّلة على الدوام بأنّ الوقت غير مناسب لقلب القيم . – إنّ الفلسفة هي فنّ البحث عن "أنوار أخرى"، وهي "أخرى" من قبل أنّها "آخريّة" بامتياز، إذْ هي تستمدّ شرائط إمكانها من تواشج فذّ وعميق بين احتمال الحرية معاً في عقولنا و التزام عميق بالمشترك في غيريّتنا. هي "أنوار أخرى" لأنّ الفلسفة لا يمكن أن تكون إلاّ حرّة ومشتركة بين أصدقاء الحقيقة.
وحده العقل الحرّ بإمكانه أن يتفلسف، لكنّ الحرية قيمة جدّ خطيرة إذا هي لم تتحوّل إلى فنّ للمشترك. وإنّ الفلسفة هي فنّ البحث عن المشترك بين العقول الحرة. وليس ما تشترك فيه العقول الحرة غير استعدادها الأصيل لاختراع فضاءات حيوية جديدة للحقيقة.
وبعامة تدور كلّ الأبحاث التي نعرضها هنا حول مهمّة فلسفية من هذا القبيل: نحو نقد حيوي للعقل الهووي. إذ في اللحظة التي أصبح فيها العالم قرية ، أصاب الإنسانَ المعاصر ارتباكٌ فظيع أفقده كلّ بداهاته الحديثة: أنّ "ذات" الحداثة ربما لم تكن في سرّها غير ضرب من "كوجيطو الحواس"؛ و أنّ كونيته لم تكن أكثر من ضرب مثير من ميثولوجيا العقل فرضها على نفسه و على بقية الإنسانية من دون أيّة مشروعية خاصة، وأنّ ثورته الوجودية لم تكن في سرّها غير احتمال براغماتي لنتائج المنعرج اللغوي على وعيه بوجوده في العالم ،وأنّ نقده الجذري لوعيه بالتحليل النفسي أو بفلسفة اللغة لم يؤدّ إلاّ إلى إرساء "كوجيطو مجروح" لم يعد له من معيش خاص غير رمزيّة الشرّ التي يحملها في نفسه . وأنّ علاقات الإنتاج التي تحكمه لم تكن في سرّها غير جملة معقدة من الأحكام المعيارية حول نفسه .
لقد غيّرت الحداثة من أفقها السري: لم تعد تفكّرا فينومينولوجيا سعيدا في وعيها بنفسها وطبيعتها و ملكاتها، بل صارت مغامرة لغوية لا تسيطر على ما يوجد إلاّ بقدر ما ترسمه و تخطّه وتقوله و تحكيه. إنّ البرنامج المنشود هو اختراع آداب جديدة للتوجّه في الكون، لا يحقّ لأيّ جماعة أخلاقية أو دينية أن تفرضها أو تضبطها سلفا. فقط، ثمّة حق حيوي كوني من شأن كلّ بشريّ معاصر أن يتمتع به، ألا وهو الانتماء الجذري إلى النوع الإنساني مما يجعله مسئولا مسؤولية فظيعة عن مصيره.
- نحن نقترح أن نمشي قليلا إلى أنفسنا ومشاكلنا، ولكن من خلال وفي صحبة بعض من الفلاسفة الذين سبقونا بمعنى ما إلى أنفسنا ومشاكلنا، ولكن دون أن يكونوا نحن (كانط، هيغل، نيتشه، هيدغر،دريدا، فوكو، دولوز، أغامبن، نغري،...). إنّ فرادتنا ليست ادعاء عرقيا أو روحيا، بل هي معطى كوني يجعلنا في صلة سابقة مع كلّ من فكّر قبلنا، ولكن دون أن يكون تفكيره ذاك مانعا لوجودنا أو سببا للاستغناء عنّا. إنّ مجرّد وجودنا هو انتماء جذري إلى بنية الكون، ومن ثمّ إلى تفكير وآلام كلّ بشري سابق أو لاحق علينا.
وما كنّا لنطمع في هذا الشرف لولا ما تحمله روحنا الثقيلة الراهنة من حسّ حيوي جذري وقديم ببشريّتنا و كونيتنا في آن. وبسبب أنّنا لم نستعمل من أنفسنا القديمة إلى حدّ الآن إلاّ سطحها الهووي، الصاخب والعنيف والمهزوز، نعني بالأساس انفعالاتنا القومية والدينية، فإنّنا أحوج ما نكون إلى إعادة إنصات شديد لأنفسنا المحسوسة واليومية كما تقول نفسها في بعدها البشري الكوني،بعيدا عن أيّة أجوبة ثقافية نهائية حول من نكون أو ما يجب علينا أن نفعل.
وهل مصاحبة الفلاسفة حيث هم، في حياتهم ما فوق اليومية وما دون اليومية معا، إلاّ أفضل سبيل و أقصرها إلى ما يتوق إلى معرفته كلّ من يفكّر في هذا العصر الذي صار يتيما على نحو كلبي: فهو بقدر ما يصرّ على مقاومة أيّ شكل من الأبوية بقدر ما يسقط في علاقة أمومية بأصوله. إلاّ أنّ الأصول لم تعد مريحة لأحد، ولذلك فكلّ أصولية هي رومانسية بلا أيّ قدرة على الحلم. ثمّة صعوبة كبيرة لا تزال تمنع من أن نجمع بين الحرية والأصالة معا. إذ لا يمكننا أن نتحرّر وأن نحبّ في آن. ولذلك علينا أن نحترس من أيّ تأسيس للحرية على الحنين: إلى الوطن أو إلى الآلهة. إنّ التفلسف هو تحرّر بلا حنين. تحرّر من كلّ أبوية ولكن من دون السقوط في أيّ علاقة أمومية جديدة. وذاك ضرب متوعّر من الرشد، نعني من الاستغناء عن الخضوع و الحنين معا.
- إنّ موطن القلق في الفلسفة المعاصرة من الرومانسيين إلى هيدغر وما بعده هو تأسيسها للحرية على الحنين. ولكن لأنّ الحنين هو شكل مقلوب من الخضوع، فإنّ رهان الفلسفة الذي رآه كانط وتاه عنه تلاميذه ولم يتمّ التفطّن إليه إلاّ بعد دخول الإنسانية في العصر النووي ، بعد هيروشيما، هو تحرير العقل من الحنين، نعني إعادة العقل إلى نقاشه الحرّ المحسوس واليومي والعمومي والإيكولوجي مع نفسه ومع غيره.
من أجل ذلك فإنّ علاقتنا بالحداثة مازالت رهينة قدرتنا على النجاح في تأمين الانتقال الصعب من ثقافة الأصالة إلى ثقافة الحرية. إنّ السؤال عندئذ هو: متى نكفّ عن تأويل أنفسنا كنصّ قديم بلا مؤلّف ؟ كيف نخرج من العصر التأويلي للعقل ؟
يبدو أنّ رهان الحداثة الخفي هو: إلى أيّ حدّ يمكن للفيلسوف أن يفكّر في الذات بلا هوية ؟ وعلى ذلك فإنّ الأوان قد آن أيضا لأن نسأل: إلى أيّ مدى استطاعت الفلسفة المعاصرة، في سعيها الدائب إلى التحرّر من براديغم الوعي، أن تتحرّر من صناعة الهوية الحديثة ؟ ومن ثمّ أن تقترح علينا ذاتا بلا رواسب هووية لا شفاء منها ؟
نحن نفترض أنّ الفلسفة المعاصرة من هيغل إلى ريكور قد فشلت في الإيفاء بهذا الوعد. إنّها لم تفعل غير الاستعاضة عن تأسيس الذات بإرساء أكثر ما يمكن من قصص الهوية ! . لقد صارت الفلسفة تعمل "في غير أوقاتها" كصلاة مهملة لم تجد شريعتها الخاصة فتحوّلت إلى سرد بلا توقيع. وهكذا، بدلا من تحقيق وعد الحداثة بتأسيس "ذات بلا هوية"، مهما كانت طبيعتها، عرقية أو دينية أو سياسية، ها هو الفيلسوف المعاصر قد حوّل الفلسفة، ودون أيّ اعتذار يُذكر، إلى متوالية من قصص "الهوية" ولكن "بلا ذات". إنّ أحلام الدولة القومية الحديثة قد اخترقته بلا نهاية. وانقلب المفهوم عنده "هوية بلا ذات" ، نعني إلى قصة عن نفسه، لا يكفّ عن حبكها بحثا عن أصالة يضطرّ لاختراعها في كل مرة كَوَثَنٍ خاص وليس أكثر.
- ضمن هذا الأفق الهووي الخفي للفلسفة الغربية المعاصرة نحن نأتي إلى أنفسنا الحالية، كي نحاول، مرة أخرى، ترتيب علاقتنا بذواتنا. لكنّ الأمر المفزع الذي يصدمنا هو أنّنا لم نملك الشجاعة بعدُ لأن نطرح بعض الأسئلة المسكوت عنها ولا أن نمشيَ في بعض السبل المغلقة إلى حدّ الآن.
ولكن: ماذا يمكن أن تعني بالنسبة إلينا أن تكون "هويّة" ما "بلا ذات" ؟ وبالنسبة إلينا، نحن المجبرين على شهادة ميلاد المسلم الأخير بخاصة أو التوحيدي الأخير بعامة كنبتة غير طبيّة إطلاقا في جسم الحياة ما بعد الحديثة ؟
- ليس هذا السؤال غامضا إلاّ بقدر ما نعتاد على المرادفة بين هويتنا وذاتيتنا. والحال أنّ ثمّة فرقا خطيرا يفصل بين هذين الشكلين من الانتماء إلى أنفسنا. وبعبارة حادة: إنّ الهوية هي اليوم أضعف انفعالاتنا الوجودية حول أنفسنا. أمّا ذاتيتنا فهي ما تزال مطلبا حيويّا وتأويليّا لم نتعلّم بعدُ حتى كيف نسلك إليه على نحو أصيل.
ولأنّ الفلسفة التي تهمّنا هي وحدها تلك التي تساعدنا على السلوك إلى مقام أنفسنا الحالية بكلّ ما تنطوي عليه من صعوبة وتعقّد وطرافة، فإنّ الدعوى التي تحرّك هذا البحث هي: إنّ ظاهرة "المسلم الأخير" (وعلى مستوى عالمي "التوحيدي الأخير") هو ضرب من "النحن" التي تخفي خوفها وقدرتها على الإيخاف تحت تعابير مختلفة، سلفية أو حديثة أو حتى ما بعد حديثة، وهذا الرهط البشريّ غير المستقرّ بعدُ إنّما فشل إلى حدّ الآن في إقامة علاقة أصيلة مع ذاته الحالية، فلم يجد من مخرج أخلاقي سوى الارتماء الكئيب في انفعالات الهوية. من هو المسلم الأخير؟ - إنّه هوية ولكن بلا ذات.
ليس الإعلان عن ذلك جلدا للذات ولا نقدا للتراث ولا خصومة مذهبية. إنّه فقط دعوة إلى الاضطلاع بأنفسنا بطريقة جديدة. وعلينا أن نقرّ بأنّ الإجابات الهووية ليست كافية ولا مناسبة. فإنّ الهوية هي ما نحن دون أيّ جهد وجودي خاص. في حين أنّ الذات هي ما نستطيع أن نكون ولكن لم نجرؤ بعدُ على الاضطلاع به كأفق حرّ ووحيد لأنفسنا.
إنّ الأفق الوحيد لذات حقيقية ليس شيئا آخر سوى المستحيل.ولا نعني بذلك ما يعجز البشر عنه بسبب التناهي الأصلي في طبيعتهم، بل المستحيل هو المستطاع الأقصى في تلك الطبيعة. ولنعترف بأنّنا رهط بشريّ لم يستعمل بعدُ كلّ المستطاع الأقصى الذي بحوزته. أجل، إنّ دروس الهوية لم تهيّئنا إلاّ إلى ثأر أخلاقي من كلّ أنواع الآخر، ربّما هو الأساس العميق لأيّ رغبة عدمية في قتله. ولكن من هو المسئول عن هذا الترتيب لأنفسنا؟
ربّما كانت لغتنا أو ديننا أو دولنا الأمنية أو لعبة الحداثة فينا أو نمط دخولنا في أفق الإنسانية الحالية. ربّما. لكنّ ما هو مؤكّد هو أنّنا لم نستعمل من أنفسنا إلى حدّ الآن إلاّ طبقة أخلاقية هشّة بلا أيّ فعالية. صحيح أنّ العنوان الأكثر لوجودنا المعاصر هو التحرّر، وبالتحديد التحرّر الهووي ؛ ولكن ماذا حقّقنا منه؟ أليست الهوية نفسها جهازا من أجهزة الحداثة بل من أجهزة الدولة مهما كان شكلها ؟
إنّ أعمق سوء فهم أقمناه دون أنفسنا هو اعتقادنا في أصالة الموقف الهووي كتعبير وحيد عن ذواتنا، والحال أنّ هويتنا العمومية هي أحد الشروط الحقوقية للانتماء، كما ضبطتها فكرة الدولة "الحديثة"، وليس مشكلا وجوديا. إنّ الحداثة، وليس الأديان، هي التي اخترعت فكرة الهوية، مثلما خلقت أيضا مقولات "السيادة" و"الإقليم" و"العَلَم" و"الوطن"... ومن ثمّ فإنّ كلّ من يقاوم الحداثة على أساس هووي هو يتصرّف في أفقها دون أيّ قدرة على الإفلات من منطقها.
من أجل ذلك لا يمكن للفلسفة أن تفيدنا إلاّ في التحرّر من طبقة معيّنة من أنفسنا، وليس من "آخر" بلا صفات. إنّ أنفسنا متعبة بإجابات هووية لم تعد قادرة على تأمين علاقتنا بالعالم. وذلك بخاصة بسبب أنّها قد تولّدت عن ردّة فعل سياسية إزاء الأجنبي أكثر منها نموّا روحيّا ومدنيّاً خاصا. وبالفعل في كلّ ركن من أنفسنا الحالية، في المدرسة أو في الإنتاج أو في السلطة، تبرز الهوية كواقعة ثقافية لا سند لها سوى إرادة الهوية. لكنّ إرادة الهوية وحدها لا تكفي لتحرير الإنسان من تصوّراته السقيمة عن نفسه.
إنّ الإجابة الهووية عن السؤال المرير "من نحن؟" قد انقلبت اليوم إلى عائق أخلاقي أمام التجربة الحرة لأنفسنا بأنفسنا. وهي عائق من فرط أنّها لا تعدو أن تكون دفاعا عدميّا عن إجابة فقدت كثيرا من أصالتها. لنقل: إنّ الإنسان في أفقنا الروحي لم يعد بعدُ إلى ذاته، كما فعل في أماكن أخرى من القرية الروحية التي تمثّلها الإنسانية الحالية. إنّه مازال مطالبا باقتناء هويّته من خارج ذاته، ككائن ممنوع سلفا من أيّ اختراع حيويّ لمرجع وجوده.
ولأنّ هذه الصعوبة ليست عرضية في سلوكه بل نابعة من هشاشة روحية جدُّ عميقة في تصوّره لنفسه، فإنّ تحرير الإنسان عندنا لم يبدأ بعدُ. وهذه أمارة حاسمة، حسبما نظنّ، على أنّ أوان ظهور الفيلسوف قد بدأ يعلو في الأفق.
وسوف نمتحن كلّ ما تقدّم من خلال التساؤل التالي: إلى أيّ مدى يمكن الدفاع عن حوار أصيل بين الهويات ؟ أمّا الأطروحة التي سندافع عنها فهي هذه: إنّ حوار الهويات غير ممكن، وذلك أنّ الأفق الوحيد للحوار هو الحوار بين الذوات الحرة.
ما الفرق بين حوار الهويات وبين حوار الذوات ؟
لا يتوضّح هذا الفرق إلاّ بقدر ما يتوضّح الفاصل بين الهويات والذوات، وفيما يخصّنا: بين تدبيرنا المحموم لهموم الهوية، وبين عجزنا إلى حدّ الآن عن تطوير تجربة ذاتية ومدنية أصيلة خاصة بأفقنا الروحي. نحن نعاني من فائض هوية لم يجد بعد الأفق الملائم لبلورة تجربة الذات التي تؤسّسه. - ويبدو أنّ العائق الأكبر أمام التحوّل من نموذج الهوية إلى نموذج الذات هو غياب الإمكانية الجذرية للحوار.
ليس الحوار فسحة أخلاقية معطاة بل هو معركة روحية ووجودية ومدنية غير مأمونة العواقب. ونحن قد نشير إلى هكذا صعوبة بهذه الصيغة: إنّ الإنسان لا يمكن أن يتحرّر على مستوى مدني دون أن يتحرّر على مستوى وجودي. وذلك يعني أنّ الحرية المدنية ستظلّ ادّعاء خطابيا طالما أنّ الشخص الحرّ لم يصبح بعد حرّا في ترتيب معنى وجوده في العالم.
إنّ الحوار هو التبادل الجذري لمعنى الحرية من حيث هي الأفق الوجودي الوحيد لذاتيتنا. نحن لن نتحاور إلاّ بقدر ما نتبادل وبقدر ما نبذّر ما بحوزتنا من حرية. إنّ الحوار الأصيل هو تبذير لا محدود لحريتنا أو لا يكون. ولذلك لا معنى لحريّة ممنوعة سلفا من الطمع في المستحيل.
ولكن أيّة هوية بمستطاعها أن تبذّر حريتها كشرط للحوار ؟
نحن نعلم أنّ الهوية ليست مجرّد شعور خاص بهذا الشخص أو ذاك، بل هي جهاز انتماء أو لا تكون. ومثل كلّ جهاز، لا يمكن لأيّ هوية أن تعمل في أفق روحي ما إذا لم تكن تملك شكلا معيّنا من الإلزام وفنّا معيّنا من الانضباط. ليس هناك هوية غير ملزمة. بل كل هوية هي لا تعدو أن تكون تاريخها الخاص، وقد تحوّل إلى جسد من العلامات المستقلة. كلّ هوية تؤرّخ لنفسها بطريقة ما، سرعان ما تنقلب إلى قدر بلا أيّ إمكانية للمراجعة. نحن ننتمي سلفا إلى أنفسنا، نعني إلى جهاز أنفسنا كما ورثناه دون أيّ تجربة شخصية. ولذلك فإنّ كلّ فرد منا هو نتاج هووي أكثر منه شخصا. وعلينا أن نسأل: كيف نضطلع بهكذا صعوبة ؟
نحن نقترح أن نستكشف هذا الميدان المبهم لأول وهلة من خلال هذا الإقرار المؤلم: نحن هوية لا تزال بلا ذات. ما معنى ذلك ؟ علينا أن نسأل قبل أيّ جواب: متى صرنا ذواتا بالمعنى الحديث ؟ بل أنّى يحدث ذلك في أفق روحي ما زال لم يخض بعدُ أيّ استشكال جذري للسؤال "من يكون ؟". كلّ أجوبتنا عن هذا الـ"منْ" الغامض نحن ورثناها من خلال نصوص فقدت اليوم فعاليتها بعد انحسار رؤية العالم التي تشدّها.
وعلينا أن نسأل: ما دور الفلسفة في كلّ هذا ؟
إنّ الفلسفة هي فنّ تحرير العقول من كلّ خطاب متعسّر على الفهم أو جعل من العسر عذرا له في الاستغلاق على غير أهله. وكل خطاب مغلق هو خطاب هووي.
ولكن هل حقّا من طبيعة الفلسفة العسرُ ؟ - ربما يكون هيغل هو من ذاع عنه أنّه أكثر من كتب في مقام صعب وكلِم مستغلق. وعلى ذلك ليس العسر عارضا في الكتابة الفلسفية بل هو جزء من طبعها. لا نعني بذلك ما تنقصنا الآلة دونه، بل ما يكون، حسب عبارة هيغل، "عسرا في نفس الأمر" . ولكن رغم أنّ الشيء المفكَّر فيه هو، حسب عبقرية اللسان الألماني، "عسير" من قِبل أنّه في الأصل "ثقيل" (schwer) على النفس، أو ربما "بطيء"،كما في عبارة "schwer begreifen" – بطيء في الفهم ، فإنّ هيغل لم يجد أبلغ وصفا للفكر غير الفلسفي أو التمثيلي من القول بأنّ "من طبعه الفرار نحو الأعراض" ، ولكن لأنّ ما يفرّ منه هو "الجوهر" ذاته، فهو سرعان ما يشعر بأنّ شيئا ما في نفسه "يكبحه (gehemmt) عن هذا الفرار" (نفسه). في هذا السياق بالذات يصف هيغل التفلسفَ بأنّه نحو من "الكبح غير العادي" الذي "يثقل حركة" التمثّل.
وعلى الأغلب فإنّ ما حَدَا هيغل على وصف التفلسف بأنّه "كبح داخلي" هو أمر طريف، يشبه أن يكون نسيبا سابقا إلى ما صار يُخاض فيه اليوم تحت اسم المشكل "الهووي". - إنّ التفلسف كبح داخلي لنمط من الوعي "الهووي" يقوم على معاملة "الذات" (das Selbst، le Soi)، أي كما يقول هيغل "هذا المجرى الذي يتولّد من نفسه،ذاهبا كلّ مذهب وعائدا إلى نفسه" ،- وكأنّها "حامل" (Subjekt) جامد أو "قاعدة" أو "أساس" أو شيء ثابت نعلّق عليه كلّ ما يمكن أن يُقال عنه، ونستعمله كما نشاء من خارج.
ولكن ما الحلّ ؟ هل يكفي أن نعوّض الوعي العادي بـ"نزعة صورية" أو شكلانية كانت "فلسفة الأزمنة الحديثة" قد نبّهت على وجه التهمة فيها، بل واحتقرتها، ولكنها عادت إلى السقوط فيها ؟
هنا نعثر على إشارة طريفة: إنّ ما تفتقد إليه النزعة الشكلانية ليس "بسط وتخصيص المضمون" بقدر ما هو "تهذيب الشكل" (die Ausbildung der Form) أي تدريب الشكل على التعيّن واتخاذ الشكل الذي من شأنه . إنّ الشكل الصوري لا شكل له. والفلسفة هي بذلك فنّ إعطاء شكل للشكل.
ولذلك يقول هيغل :" من دون هذا التخريج لشكل الشكل سوف يخلو العلم من قابلية الفهم (Verstä-;---;--ndlichkeit) الكونية، فيظهر وكأنّه ملكية باطنية (ein esoterisches Besitztum) لبعض الخاصة من الأفراد." .
ولكن ما معنى أن نعطي شكلا للشكل ؟ ثمّ أليس أحد مبادئ الحداثة أن يصبح "العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس" ؟ - إنّ نضالا خفيّا يقود الفلسفة: إنّه البحث عن "قابليّة الفهم الكونية" التي تمنع من أن يصبح العلم طلسما صوريا في أيدي نخبة بلا جمهور.
وهيغل الغامض يقول: "وحده فقط ما هو معيَّن تعيينا تاما، هو ما يكون في نفس الوقت متاحا للكافّة (exoterisch)، قريبا من التصوّر وشيئا يُتعلَّم وملكا للجميع." . ولكن ما هو الأمر الذي يقبل هذا الوصف ؟
يقول: "إنّ ما هو مقسوم بين الأذهان هو ما كان بعدُ مألوفا بينها وهو الأمر المشترك (das Gemeinschaftliche) للعلم وللوعي غير العلمي، الذي بواسطته يستطيع هذا الوعي أن يلج إلى ذلك العلم".
إنّ الغرض البعيد من مزاولة التفلسف كضرب من الكبح الداخلي لوعينا الهووي هو إذن تحرير هذا الوعي من هذين السلوكين غير الفلسفيين: أوّلا ممّا يسمّيه "تثبيت الوعي" أي تجميد الذات بشكل هووي، كقاعدة يعلّق عليها آراءه وهيئات نفسه، دون أن يكون قادرا على التأريخ لها من الداخل؛ وثانيا ممّا يسمّيه "التحمّس (أو التعصّب) الذي، كما بطلقة مسدّس، هو يبدأ بالعلم المطلق دون أيّ توسّط" ، و"يقدّم مطلقه بوصفه الليل الذي يكون فيه كلُّ البقر أسودا" .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بلينكن في الرياض.. إلى أين وصل مسار التطبيع بين إسرائيل والس


.. طلاب مؤيدون للفلسطينيين يرفضون إخلاء خيمهم في جامعة كولومبيا




.. واشنطن تحذر من -مذبحة- وشيكة في مدينة الفاشر السودانية


.. مصر: -خليها تعفن-.. حملة لمقاطعة شراء الأسماك في بور سعيد




.. مصر متفائلة وتنتظر الرد على النسخة المعدلة لاقتراح الهدنة في