الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تعاليم يسوع أجوبة مستفيضة عن الحقيقة والحياة ومعناها

صبري المقدسي

2013 / 12 / 13
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


تعاليم يسوع
أجوبة مستفيضة عن الحقيقة والحياة ومعناها
تأسست المسيحية كجواب نهائي ومستفيض عن الاسئلة التي يطرحها كل إنسان عن نفسه في موضوع الحقيقة والحياة ومعناها ومغزاها. وضلت تعاليم المسيح الذي عُرف بتفاؤله في الحياة وثقته بنفسه وإتزانه في وضوح الهدف الذي من أجله جاء الى العالم، نوراً يضىء للجميع. وكان الصليب وسيلة المسيج الى ذلك مع علمه اليقين بالطريق الملىء بالاشواك والعذابات والآلام والإهانات الكثيرة. فالمسيح لم يُساوم على الحق بُغية الحصول على شعبية رخيصة أو دور سياسي يجعل منه ملكاً لليهود. ولكنه عُرف في قابليته للتآلف بين الوداعة والجرأة، وتمسكه بالشريعة والتجديد، وتمييزه بين العبادة والتزييف، إذ غضب مرة عندما دخل الهيكل وطرد الباعة والتجار والصيارفة قائلا: "بيتي بيت الصلاة يدعى وأنتم جعلتموه مغارة للصوص" متي 21: 12.
وكان الجميع يتعجب من كلام المسيح الكلي الإتزان المُعبّر عما يريده من خلال الامثال والمعجزات والخطب، ويعجز القلم أحيانا في تحديد جوهر الكلمات التي علمها يسوع. والرسل أنفسهم كانوا متعجبين من كلام الحكمة الذي يخرج من فمه. مع أن تعاليمه لم تخرج من نطاق تعاليم الكتاب المقدس سواء عن الله أو المحبة أو الغفران أو الشريعة أو السلوك والاخلاق. وقد يبدو لأول وهلة أن المسيح لم يأتِ بشىء جديد في تعاليمه إلا أنه في الحقيقة، كل ما جاء به كان جديدا في روحه ونفَسه وجوهره مع أنه لم يخرج من روح الشريعة التوراتية، إذ ركز على الاغلب بتغيير الاطر القديمة فقط، والتي أصبحت عاجزة عن احتواء فكره التجديدي الذي يدعو البشر الى عبادة الله بالروح والحق، وببناء انسانية جديدة على صورة الله ومثاله. ولذلك كانت قضية الله حاضرة دائما في تعاليمه وخطاباته ومعجزاته وفعالياته اليومية وفي تعامله مع التلاميذ والآخرين. وكانت الجموع البشرية تصغي له وتتعجب من كلام الحكمة الخارج من فمه، وكانوا يتساءلون مبهوتين: "ما هذا؟ إنه تعليم جديد، تعليم من له سلطان" لوقا 1 / 22 و 27 . ولكنه أكد دائما بأنه ممثل الله على الأرض، وعلى أنه أعظم من الرسل والأنبياء والكتبة والفريسيّين. فالأنبياء كانوا يتكلمون بأسم الله ويُشرّعون بأسم الله، وأما المسيح فإنه تكلم بأسم نفسه وشرّع من سلطته الخاصة. ولذلك إستخدم المسيح الصيغة(وأنا أقول لكم) في أغلب خطاباته للشعب وللتلاميذ. وليس غريباً أن يقول في انجيل متى على أنه: "أعظم من يونان، وأعظم من سليمان، وأعظم من ابراهيم" 12/ 41 ـ 42. وأكد المسيح أيضا بأنه جاء لكي يُكمل الناموس ويعمل بسلطان وقدرة إلهيين، إذ عندما غفر الخطايا وشفى المرضى وأقام الموتى، تصرّف كإله كامل، جاء ليكمل ما أصاب الخليقة من تلف ونقصان. وعندما جاع وعطش وبكى وتعب وغضب وتعرض للألم وخضع للموت وغيرها من الاعمال البشرية الاخرى، فإنه تصرف كإنسان كامل.
ولطالما إتهم رجال الدين اليهود المسيح بنقضه للشريعة، ولكنه أكد دائماً بأنه لم يكن ممكنا له أن ينقض الشريعة بكونه رب الشريعة ومؤسسها. وبكونه أيضاً ابن الله المتجسّد، الذي جاء ليتحقق من شريعته ومفاعيلها وكيفية تطبيقها وتفسيرها وإحيائها.
وركز المسيح في تعاليمه على خدمة الفقير والبائس والمسكين، ويتبين ذلك في تعامله مع رسله ومع مختلف طبقات البشر. وجسّد تعاليمه بصورة أكثر عملية في حياته اليومية، ولم يوصِ شيئا لم يطبقه بنفسه في حياته. فالتواضع مثلا جسّده المسيح عندما غسل أرجل تلاميذه وقبّلها، متمماً من خلال هذا الفعل ناموس الطاعة الحقيقية لله ومجدداً ما صار بالياً وعتيقاً، وذلك بخلع الانسان العتيق المُتكبر والمُتشامخ من كل الميول والرغائب البشرية الدنيئة، ولبس الانسان الجديد بروح مشبعة بالتواضع والبساطة والتجرّد والفقر والقناعة. وعُرف يسوع أيضاً بكونهِ وديعاً ومتسامحاً، ولم تكن وداعته ضعفاً وخنوعاً أمام الأقوياء، إذ كان يتحّنن على الشعب فيصنع المعجزات ويزرع الإبتسامات على الوجوه الحزينة بشفاء المُرضى وإقامة الموتى وإشباع الناس الجياع في البرية. وكثيراً ما نلمس عطفه على الخطأة والفقراء والمساكين وحتى الأغنياء الذين لا يهتمون إلا بجمع الأموال. وقد أرسى في تعاليمه وتجواله وتضحياته الكثيرة، أسس ملكوت الله على الارض.
لم يكن يسوع تقليدياً مقيّداً بالسنن والقوانين والتشريعات الناموسية، بل كان تقدميّاً من الدرجة الأولى، إذ حارب العقلية العنصرية التي كانت تُسيّطر على عقول معظم اليهود، وأعلن المساواة بين الناس جميعاً. وأحدث أكبر ثورة روحية وأخلاقية في التاريخ البشري على التقاليد البالية والشكليّات الخارجية وعلى العقليّات الجامدة والمُتحجّرة ومن دون إستخدام القوّة أو أي وسيلة ضغط أو خدعة أو إجبار. وكان سلاحه الوحيد الى ذلك البُشرى السارّة لجميع الأمم، مع المحبة والغفران بلا حدود. ونَلمسُ في شخصيته تفاؤلاً عجيباً في قبوله الآخر بغض النظر عن خلفيّة هذا الآخر الاجتماعية والاقتصادية، وبالرغم عن كونهِ رجلا أم إمرأة، خاطئاً أم تقيّاً، يهودياً أم وثنياً. فما خاطب الناس من علوٍ وكبرياء. وطريقته الوحيدة كانت: التخيير في التباعة من دون القسّر والأجبار.
لم تكن تعاليم المسيح سلبية أبداً إذ ركز منذ بداية رسالتهِ على رفع المعنويات والسموّ في الاخلاق والصدق في التعامل والاخلاص والابداع في العمل. ويبدو هذا واضحاً في جميع أعماله وأمثاله وحتى في قيامته التي تدل على الانتصار الدائم وبعث الحياة الجديدة. وبلغت تعاليمه قمتها في التسامح والغفران وفعل الخير تجاه القريب وفي مواقفه تجاه الآخر. وهو لم يُحوّل العلاقة الخاصة مع الله أبيه الى وسيلة للتسلط على الناس ولإغتصاب حرّيتهم، بل بقي طول الوقت يُكمل مسيرته الأنسانية خادماً للبشر رغم التجارب المُرة والظروف الصعبة التي كان يُواجهها في أيام الرسالة التبشيرية. ويؤكد العهد الجديد على علاقة الله بالانسان وخلاصه من خلال تجسّد المسيح يسوع الذي هو كلمة الله الخلاصية الذي أظهر وجه الله الحق وكيفية تحقيق الانسان غاية وجوده ومصيره.
ركز المسيح في تعاليمه لجعل البشر أكثر انسانية وذلك بإنتشالهم من ضعفهم ومساعدتهم لكي يصبحوا ما هم وما ينبغي أن يكونوا. وكان يتجوّل في اليهودية داعيّا الى التوبة والى قرب مجىء ملكوت الله. وفي أثناء تجواله أختار تلاميذه الأثني عشر وسماهم الرُسل الذين علمهم تعليمه الجديد حول ملكوت الله والتعاليم الاخلاقية الجديدة، التي تؤكد على الأخوّة البشرية وأن يصلوا لله ويدعوه (أبانا) بحب وإحترام وعلى إختلاف مقامهم وأجناسهم، إذ هم كلهم عنده إخوة وأخوات، والله أبوهم الروحي الذي خلقهم. ولم يدعُ تلاميذه عبيدا لكنه سمّاهم أصدقاء: "لا أسميّكم عبيدا بعد لان العبد لا علم له بما يصنع سيّده، بل سميّتكم أصدقاء لأني اطلعتكم على كل ما سمعت من أبي" يوحنا 15/ 15.
وكان يسوع مثالا أعلى في كل شىء قاله وفعله ولاسيّما في مثال الطاعة، إذ أطاع أباه حتى الموت على الصليب: "لأني نزلت من السماء لا لأعمل مشيئتي بل مشيئة الآب الذي أرسلني" يوحنا 6/38. وكان خير وسيط بين السماء والأرض ووساطته مُنبثقة من صميم طبيعته الآلهية والبشرية: "لأنا اذا صولحنا مع الله بموت إبنه ونحن أعداء فبالأحرى كثيرا أن تغزر نعمة الله التي لأنسان واحد هو يسوع المسيح" روم 5/ 10ـ 16. فوساطة يسوع فريدة في نوعها: "لأن الله واحد والوسيط بين الله والناس واحد وهو الأنسان يسوع المسيح الذي بذل نفسه فداء عن الجميع" 1 تيموثاوس 2/ 5ـ 6.
وتبرز شخصية المسيح من خلال تعاليمه الخلقية والسلوكية التي نقلها التلاميذ في الاناجيل التي كتبت لتكون منهلا ينهل منها المؤمنون ويقتدوا بالمعلم يسوع المسيح، الذي ختم كل ما قاله بشهادة الدم للفداء العظيم من أجل جميع البشر. إذ كما علم المسيح في حياته الصداقة الحقيقية التي جسدها في وقوفه مع تلاميذه ومع المحتاجين اليه، علمنا أيضاً، كيفية الإقتداء به وبتعاليمه وكيفية ممارسة الصداقة الحقيقية وعيشها بصدق وإخلاص ومن دون أدنى شائبة. وكما علم المسيح التسامح الحقيقي الذي تجلى في حكمه على الزانية وعلى الخطأة الآخرين، وعلم الرحمة في مواقفه المؤيّدة للبؤساء والمحتاجين (لوقا 16)، هكذا علينا أن نتسامح مع بعضنا البعض ومع الذين يحتاجوننا والذين ليسوا بالضرورة من أقربائنا أو من أتباع جنسنا وديانتنا، وأن نترحم بهم ونساعدهم. وكما علم المسيح التعامل على أساس الاحترام والكرامة الحقيقية ولاسيما في تعامله مع الاطفال والشيوخ والنساء والارامل والمعوزين، ودعا في دعوته الى إحترامهم والى مد يد العون لهم ومنع تعريضهم للاذى والشكوك، هكذا علينا أن نكون مع الاطفال والشباب والشيوخ والنساء والارامل والمحتاجين الينا.
فالمسيح الذي كان النسخة الأكثر تألقا للجمال الآلهي الأسمى في أعماله وأقواله ونظراته وأحكامه، وجميع إختياراته الحياتية منذ طفولته حتى موته على الصليب وقيامته المجيدة، ثبت لسامعيه بأنه أعظم من جميع المرسلين، إذ لم يستطع شخص أو نفر ما أن يثبت عليه لوماً أو جرماً أو خطأ أو خطيئة. ولا يزال المسيح المثال والقدوة للملايين من البشر الذين يتبعون تعاليمه بإيمان وإخلاص. ويشهدون له بالقول والفكر والعمل، مُستعدين لحمل الشهادة حتى الموت من أجله. ويثبت تاريخ المسيحية وجود هذا النوع من الرسل والمؤمنين وهذا النوع من الشهادات الحيّة، وسيبقى دوما من يتبع المسيح، ويُجسد أقواله وأعماله في حياته ويصبح مسيحا آخر.
لقد دعى المسيح كنيسته للإقتداء به وبحياته في خدمة الكلمة من خلال المشورات الانجيلية التي نقلها الرسل والتلاميذ والتي هي الآن معروضة للجميع. ودعى المسيح أيضا كل البشر الى حياة الخدمة التي تفرعت من نواة اولى زرعها، والتي نمت وانتشرت وأصبحت شجرة باسقة، منها تفرعت فروع اختصت بعضها في الحياة الرهبانية للصلاة والتأمل ونشر الكلمة، وبعضها الآخر في الحياة الرعاوية لخدمة الجماعة وفعل الرحمة بين الناس، وأخرى في ممارسة الرسالة في العالم كالخميرة في العجين وهم العلمانيون الذين مارسوا ايمانهم بفضل قوّة روحهم كشهود للمسيح بتقشفهم وقداسة أعمالهم.
وأعلن يسوع في تعاليمه مراراً وتكراراً أنه لم يأت ليُبطل الشريعة والناموس، بل جاء ليُفسّر ارادة الله ويُعمّق وبطريقة جذريّة معناها في حُب الله والقريب. وطريقه الى ذلك هو الدخول في البنوّة الآلهية عبر السلوك اليومي العملي والأختبار الشخصي في الحياة. وبلغ تعليمه القمة في الموعظة على الجبل (التطويبات) والتي تعد روح الأنجيل أو بالأحرى الأنجيل المُصّغر الذي ليس فيه انتصارات دنيوية زائلة، ولا معاني المجد الزمني الباطل ولا العظمة الدنيوية الفارغة.
ـ طوبى للفقراء بالروح، فإن لهم ملكوت الله.
ـ طوبى للودعاء، فإنهم يرثون الأرض.
ـ طوبى للحزانى، فإنهم يُعزون.
ـ طوبى للجياع والعطاش الى البر، فإنهم يشبعون.
ـ طوبى للرحماء، فإنهم يرحمون.
ـ طوبى لأنقياء القلوب، فإنهم يُعاينون الله.
ـ طوبى لمن يسعون من أجل السلام، فإنهم بني الله يُدعون.
ـ طوبى للمضطهدين من أجل البر، فإن لهم ملكوت السماوات.
ـ طوبى لكم إذا عيّروكم واضطهدوكم وقالوا عنكم كل كلمة سوء من أجلي، افرحوا عندئذ وابتهجوا، فإن أجركم عظيم في السماوات، لانهم هكذا اضطهدوا الأنبياء الذين سبقوكم. (انجيل متى 5/ 3ـ 12).
لقد لخص المسيح تعاليم الملكوت وأخلاقياته في هذا الخطاب (العظة على الجبل)، وأكد من خلال العظة على الخضوع لملك الله دائماً، والقناعة في الحياة المادية من دون كسل في العمل، والتقدم الى الأمام من دون تخلف وتخاذل، والإصرار على قول الحق في وجه الأقوياء، إذا تطلب الامر من دون جبن ولا خنوع، والعمل على تحقيق السلام الداخلي من دون مجاملات فارغة، والقضاء على العداوات وروح البغضاء والانتقام وكل أنواع النميمة والافتراء من دون جبن ولا خنوع.
ولطالما تبع المسيحيون هذه التعاليم السامية وضحوا بكل غال وثمين من أجل جوهرة الايمان الثمينة، وقدموا حياتهم فدية، ولم ينكروا مسيحهم، ولم يتركوا ايمانهم العزيز على قلوبهم. ونتأسف في الوقت نفسه رؤية الكثير من الذين يُسمون بالمسيحيين، وهم لا يمثلونها بشىء لا من قريب ولا من بعيد. ونتأسف كذلك حكم الآخرين على المسيحية من خلال تصرفات هؤلاء. وكذلك حكم البعض على سلوكيات وتصرفات بعض الدول التي يظنونها دولا مسيحية، والتي لا تمثل في الحقيقة المسيحية بشىء، لكونها دول علمانية صرفة، ولا علاقة لها بأي دين من الاديان.
وتجدر الإشارة الى عدم وجود دول أو شعوب مسيحية في العالم، وإلى أن هناك فقط جماعات مسيحية تحاول التعبير عن إيمانها بصدق وإخلاص، وتحاول الاقتداء بأخلاقيات المسيح يسوع مرشدها ومعلمها. وتحاول جهدها لتطبيق تعاليمه الالهية، التي تؤكد في مجملها على صون كرامة الانسان وحفظ قيمه السامية.
ونستنتج من خلاصة تعاليم المسيح أنه يختلف عن كل الانبياء والمصلحين والمعلمين والفلاسفة في العالم. ويتميز بكونه معلم جديد جاء ليعلم تعليماً جديداً، وبأنه يتكلم بسلطان ذاتيّ فائق يهدي الى روح جديدة والى هيكل إلهي جديد والى عهد إلهي جديد والى ولادة أخلاقية جديدة؛ لخدمة الإنسان الجديد، الذي يُريده محراباً لعبادة الله بالروح والحق.
صبري المقدسي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وزارة الدفاع الروسية تعلن إحباط هجوم جوي أوكراني كان يستهدف


.. قنابل دخان واشتباكات.. الشرطة تقتحم جامعة كاليفورنيا لفض اعت




.. مراسل الجزيرة: الشرطة تقتحم جامعة كاليفورنيا وتعتقل عددا من


.. شاحنات المساعدات تدخل غزة عبر معبر إيرز للمرة الأولى منذ الـ




.. مراسل الجزيرة: اشتباكات بين الشرطة وطلاب معتصمين في جامعة كا