الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التاريخ... بين ابن خلدون وسان سيمون

حسين محمود التلاوي
(Hussein Mahmoud Talawy)

2013 / 12 / 15
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


ربما كان من الأوفق تخصيص دراسة كاملة لموضوع المقارنة بين مفهوم التاريخ عند عبد الرحمن بن خلدون مؤسس علم العمران البشري وعند المفكر الفرنسي كلود هنري دي سان سيمون، أو حتى سلسلة مقالات لا مجرد مقال وحيد، لكن الهدف هنا ليس المقارنة المتعمقة الرامية إلى تحديد الفوارق واستخلاص أوجه التشابه بين فكر هذين الرمزين إزاء مسألة التاريخ؛ فالهدف هنا هو مجرد إطلالة سريعة تهدف إلى التعريف بمضمون فكر كل منهما وأوجه التشابه والاختلاف مع تقديم رأي فيما يتعلق بأفضلية أحدهما على الآخر، وهو الرأي الذي يبقى مجرد رأي شخصي غير مؤسس على دراسة متكاملة لجوانب فكر كل من هذين المفكرين الرائدين.

التاريخ وابن خلدون...
لن نستغرق المساحة كلها في التعريف بهذا المفكر الرائع؛ فهو غني عن التعريف، كما أنه من الكافي بشدة أن نقول إنه صاحب المقدمة وكفى. فحسبه هذه المقدمة لكي يؤسس لنفسه مكانًا بين عظام المفكرين عبر العصور. ولا يعد ما سبق من قبيل المبالغة في الحديث عن عبد الرحمن بن خلدون، ولكنه الواقع؛ فهي كما يقال عنها إنها عمل موسوعي تناول فيه طبائع الشعوب والأمم وتأثير البيئة على هذه الطباع، إلى جانب مفهوم الدولة نشوءًا وانهيارًا، ودور العصبية في انهيار الأمم، في سبق فكري علمي أكاديمي.
وحتى نبتعد عن الإطالة، نتجه إلى قلب الموضوع مباشرة وهو مفهوم التاريخ لدى ابن خلدون؛ فيقول في مقدمته إن التاريخ هو "خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع وسائر ما يحدث من ذلك العمران بطبيعته من الأحوال". إذن، التاريخ لدى ابن خلدون هو على المستوى المبدئي سرد لما كان من أحوال الأمم. لكن ابن خلدون لا يتوقف عند مجرد تلقي ما تم سرده على لسان من عايشوا الوقائع التاريخية؛ فيضع أسسًا وقواعد للقبول بما يتم سرده؛ فيقول: "إن النفس إذا كانت على حال الاعتدال في قبول الخبر أعطته حقه من التمحيص والنظر حتى تتبين صدقه من كذبه".
أما من ناحية الهدف من دراسة التاريخ، فيحدده ابن خلدون في بداية المقدمة بقوله: "اعلم أن فن التاريخ فن عزيز المذهب جم الفوائد شريف الغاية، إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سيرهم، والملوك في دولهم وسياستهم؛ حتى تتم فائدة الإقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا". مما قاله ابن خلدون يظهر أن الهدف من دراسة التاريخ ليس مجرد معرفة أقاصيص السابقين، ولكن "فائدة الاقتداء" أي محاولة استخلاص جوهر الحدث التاريخي بما يساعد في رسم نمط للوقائع التاريخية يمكن استخدامه في تفسير الحاضر بل التنبؤ بالمستقبل كذلك. ويؤكد هذا المعنى ما قاله في المقدمة أيضا من أن "كثيراً ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثاً أو سميناً، ولم يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعيار الحكمة، والوقوف على طبائع الكائنات، وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار فَضَلُّوا عن الحق". يتضح من الجزء الأخير من هذا الاقتباس أن الهدف لدى ابن خلدون من نقل الحوادث التاريخية هو فعلًا التفكر في الأحداث التاريخية بمعيار الحكمة بهدف التثبت من صحتها وكذلك "الوقوف على طبائع الكائنات" مما يجعلنا نتساءل عما إذا كان ابن خلدون هو صاحب البذرة التي نبتت منها شجرة "الحتمية التاريخية" التي تبنتها الماركسية بالقول بتكرار الحركة التاريخية، ولكن لهذا موضوع آخر.
إذن، الهدف من دراسة التاريخ عند ابن خلدون يتجاوز مجرد وصف الحوادث التاريخية ليصل إلى تحديد أنماط تاريخية يمكن من خلالها فهم طبائع الأمم؛ أي أن التاريخ لديه ذو طبيعة تفسيرية تنبؤية إن جاز التعبير، ويؤكد عليها ما قاله إنه يأتي التاريخ " داخلًا من باب الأسباب على العموم على الأخبار الخصوص فاستوعب أخبار الخليقة استيعابا.وأعطي الحوادث علة أسبابًا".

سان سيمون... التاريخ مُفَسِّرًا
يرى سان سيمون أن التاريخ ذو طبيعة تفسيرية؛ أي أنه يفسر الواقع القائم في الفترة الحالية، وهو يتفق مع ابن خلدون في هذا السياق، إلا أنه اكتفى بهذه الجزئية دون أن يشير إلى "واقعية الحدث التاريخي"، وكأنه رأى أن العالم يعيش في اللحظة الراهنة فقط دون أن يكون هناك ما هو قادم يصبح معه ما هو حاضر مجرد تاريخ.
تفسيرًا لهذه الجزئية من كلامي أقول إن سان سيمون وكأنه رأى أن الحاضر هو اللحظة التي يعيشها وأن الماضي هو التاريخ، دون أن يعتقد أن ما هو حاضر في الفترة الحالية سوف يكون تاريخًا وأن المستقبل في لحظة ما سوف يكون حاضرًا. لم يعتبر سان سيمون أن التاريخ عبارة عن وقائع كانت تمثل حاضرًا في مرحلة ما؛ فبدا وكأنه يرى أن ما سبق من فترة حياته هي فترة جاءت لكي "تخدم" الفترة التي عاش فيها فقط دون أن يرى أن فترته هذه سوف تكون فترة "خادمة" على فترة تالية لها في المستقبل، وبذلك افتقد مفهوم التاريخ عن سان سيمون للاستمرارية.
إلا أن سان سيمون قدم مبدأ بالغ الأهمية في دراسة التاريخ وهو العوامل الدافعة للتقدم الإنساني عبر التاريخ مشيرًا إلى أنه الصراع الذي يدفع بالتاريخ الإنساني للتقدم، وهي الفكرة التي تحيلنا مرة أخرى إلى الفكر الماركسي من حيث دور الصراع في التطور التاريخي والتقدم الإنساني بشكل عام. بيد أن سان سيمون لم يضع منهجًا لدراسة التاريخ مما يجعل تطبيق فلسفته هذه على دراسة التاريخ محفوفة بالمخاطر؛ لأن المادة التي سوف تتم دراستها لتفسير التاريخ — وهي الحدث التاريخي — ليست محل ثقة، لأن موثوقية الحدث التاريخي هنا ليست مضمونة؛ فقد تكون قائمة على الظنيات لا على ما هو ثابت الحدوث بالفعل؛ فلم يضع من الأطر ما يكفل لنا صدقية أن ما نتناوله بالدراسة هو "حدث تاريخي وقع بالفعل".

بين ابن خلدون وسان سيمون
في هذا العرض شديد السرعة لرؤية كل من ابن خلدون وسان سيمون للتاريخ يمكننا أن نلحظ أن مكامن القوة عند ابن خلدون تظهر في منهجه للتأكد من صحة الواقعة التاريخية التي يعمل عليها من أجل تفسير التاريخ، إلى جانب شمولية رؤيته للتاريخ من حيث كونه يفسر الحاضر ويعطينا القدرة على التنبؤ بما هو قادم من خلال تكوين "أنماط" للسلوك الإنساني عبر التاريخ عن طريق المشابهة والمقارنة بين الأحداث التاريخية المختلفة. وأوضح منهج ابن خلدون أن الوقائع التاريخية لا تحدث صدفة، ولكنها نتيجة عوامل كامنة داخل المجتمعات الإنسانية، وتأتي دراسة التاريخ للتعرف على هذه العوامل وتحديدها.
أما المنهج التاريخي لدى سان سيمون، فكان يقول بتفسيرية التاريخ بمعنى أن الهدف من دراسة التاريخ هو تفسير الوقائع المعاشة في الحاضر، واضعًا مفهومًا لتطور التاريخ حيث أشار إلى أنه يتطور من خلال الصراع ضاربًا المثل بنشوء الحركة البروتستانتية؛ حيث يقول إن الصراع الذي بدأ في القرنين الرابع عشر بين رجال الدين من جهة ورجال الفكر والعلم من جهة أخرى قد تفاعل في القرن السادس عشر داخل الكنيسة الكاثوليكية مما ساعد في نشوء حركة الإصلاح البروتستانتية.

ربما تبدو فكرة هذا الموضوع غريبة لدى البعض، إلا أن المأزق الحالي الذي تعانيه المجتمعات العربية ينبع من خطيئة واحدة في رأيي وهي عدم قراءة التاريخ واستيعاب دروسه. فإذا كان العرب قد قرءوا تاريخ الثورة الفرنسية، لكانوا قد استوعبوا الكيفية التي قفز بها أنصار الملكية مرة أخرى على الثورة الفرنسية وحاولوا خنقها. وإذا كان العرب قد قرءوا المفاسد التي تسببت فيها الكنيسة في الغرب، لكانوا قد أدركوا أن الفاشية الدينية ثمنها باهظ على المجتمعات. وإذا كان العرب قد قرءوا دستور المدينة المنورة أثناء الحكم النبوي في المدينة المنورة، لأدركوا أنهم ارتكبوا خطيئة بترك التراث الإسلامي في يد أصحاب التأويلات الضيقة للدين والشريعة. لقد ارتكب العرب الكثير من الأخطاء في حق أنفسهم والتاريخ والعالم بأسره، فكان لازمًا أن نعود إلى المبادئ والأصول في دراسة التاريخ في كل الثقافات لكي ندرس التاريخ ونتعلم منه لنصنع حاضرًا يريح الأجيال التي سوف يكون لها هذا الحاضر تاريخًا، وسوف يحكمون علينا استنادًا له! ويا خوفي من هذا الحكم!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفا: مقتل 7 فلسطينيين خلال قصف إسرائيلي برفح جنوبي قطاع غزة


.. غالانت: نقترب من اتخاذ قرار بشأن إعادة سكان الشمال وتغيير ال




.. محمد الدوخي عاش بين المناديب لإتقان ادوره في -مندوب الليل- |


.. استبدال بايدن بمرشح ديمقرطي اخر سيناريو مرجح




.. 3 قتلى في قصف إسرائيلي على بلدة حولا جنوبي لبنان