الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تانجو الفوضى والانتظام

السيد نصر الدين السيد

2013 / 12 / 18
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


الـ "فوضي" كلمة توحي لمن يسمعها بأحوال وأوضاع يسعى لتجنبها الجميع مثل "الاضطراب"، "التشوش"، "الاختلال"، "البلبلة" و"الهرجلة". فهي تعني أمور من قبيل "تحدي القوانين السائدة"، "التمرد على التقاليد الراسخة"، "الخروج عن المألوف" و"شيوع المفاهيم المبهمة والملتبسة". وهكذا ساءت سمعة هذه الكلمة بين العامة واعتبرها العلماء شر لابد منه وأنها مجرد "شوشرة" لا دور لها في تسيير أمور المنظومات التي يقومون بدارستها، سواء كانت كائنات او كيانات او ظواهر طبيعية كانت او اجتماعية. الا ان الحظ العاثر لكلمة الـ "فوضي" بدأ في التغير عندما اكتشف العلماء الدور الهام الذي تلعبه الفوضى في انتاج ما نراه حولنا من "نظام" و"انتظام". ولم اجد افضل من رقصة "التانجو" الأرجنتينية الشهيرة لعرض هذا الدور الذي تلعبه "الفوضى" فى تقرير سلوك المنظومات طبيعية كانت أو إجتماعية.

ويكمن سر سحر هذه الرقصة، التى شهدت أحياء بوينس أيريس الفقيرة ميلادها فى أواخر القرن التاسع عشر، فى أنها "خلطة" فريدة من "القواعد" (النظام) و"الإرتجالات" (الفوضى). فالـ "قواعد" هى ما يكون قد تعلمه الراقص، أو الراقصة، من خطوات متفق عليها، أما "الإرتجالات" فهى تلك الخطوات أو الحركات التى يبتدعها الراقصان عفو الخاطر أثناء رقصهما سويا على وقع إيقاعات موسيقى التانجو. وهكذا يسفر امتزاج "القواعد" و"الإرتجالات" عن عدد لانهائي من الأوضاع المدهشة غير المسبوقة وغير المتوقعة. فلكل راقص، او راقصة، ارتجالاته الخاصة به التي تختلف من لحن لآخر ومن وقت لآخر. واذا كانت "القواعد" هي ما يميز رقصة التانجو عن غيرها من الرقصات وتشكل الاطار العام لحركة الراقصين، فان "الإرتجالات" هى ابداعاتهم التي تمثل المستحدث وتنتج الجديد.

واذا كان سر الابداع في رقصة التانجو يكمن فى التفاعل بين "القواعد" و"الإرتجالات"، فان سر التغير والتجدد في المنظومات يكمن فى التواجد المتوازن لكل من "الفوضى" و"النظام". فعلى سبيل المثال لو تخيلنا منظومة يسود أحوالها النظام والترتيب المطلقين وتحكم أوضاعها قواعد وقوانين ينصاع لها الجميع ولاتشوبها أخطاء الصياغة أو إنحرافات التنفيذ، أو "منظومة النظام المطلق". إن مثل هذه المنظومة، إن وجدت، لامكان فيها للجديد فكل شيئ فيها مقرر سلفا وكل ماسيحدث لها فى المستقبل يمكن التنبؤ به بدقة فائقة. والمصير المحتوم لمثل هذه المنظومة هو التجمد وفى النهاية الإنقراض لإستعصاءها على "التكيف" وإمتناعها عن "التطور" مع مستجدات بيئتها دائمة التغير. فكلا من عمليتى التكيف والتطور تقومان فى الأساس على إنتاج "الجديد"، سواء كان هذا الجديد فى السلوك أو فى المكونات. وفى المقابل لو تخيلنا كيان لاتحكم سلوك مكوناته أية قواعد أو قوانين ولاتنتظم العلاقات بين هذه المكونات فى بنى محددة، أو "منظومة الفوضى المطلقة". إن وجود مثل هذه المنظومة غير ممكن لإفتقادها لأبسط أسس الدوام والبقاء حتى وإن كانت قادرة على إنتاج الجديد. فهى تفتقد البنى والقواعد والقوانين القادرة على توظيف هذا الجديد لصالح وجودها نفسه.

وهكذا يتطلب وجود أى منظومة وقدرتها على الحفاظ على هذا الوجود مزيجا متوازنا من "النظام" و"الفوضى". فوجود "النظام" يسمح لها بالدوام والإستمرارية عبر مايوفره من بنى وترتيبات ويمكنها أيضا من التنبؤ بأحولها المستقبلية بدقة معقولة عبر ما ينطوى عليه النظام من قواعد وقوانين. أما وجود قدر من "الفوضى" فهو أمر ضرورى لكلا من عمليتى التكيف والتطور اللازمتان للحفاظ على وجود المنظومة وذلك بوصفه القوة المحركة لإنتاج الجديد بما ينطوى عليه من خروج عن المألوف وبتحديه للمستقر وبتجاوزه للقواعد. كما يهيئ غياب القدرة على التنبؤ الدقيق بسلوك المنظومة المستقبلى يهيئها للتعامل مع ما قد يحمله المستقبل من مفاجآت غير محسوبة. وفى الظروف العادية يختلف قدر الفوضى من منظومة لأخرى ومن وقت لآخر. الا انه في أحوال استثنائية، مثل أوقات الثورات او الكوارث، يزداد قدر الفوضى عن معدلاته الطبيعية وتوشك المنظومة على التحول الى "منظومة الفوضى المطلقة". ويعرف هذا الوضع الحرج بوضع "حافة الكيوس" Edge of Chaos. وتتميز المنظومة وهى في هذا الوضع بقابليتها للتغير وبقدرتها على إنتاج الجديد سواء تمثل هذا الجديد على هيئة بنى مستحدثة أو سلوك غير مسبوق. وهكذا يتاح للمنظومة وهي في هذا الوضع إمكانات غير محدودة للتطور والتجدد وبلوغ حالات غير مسبوقة في تاريخها. وتذكر لنا علوم التعقد ان امام المنظومة، وهي في هذا الوضع، أربعة مسارات يؤدي كل منها الى نهاية مختلفة وتعرف هذه النهايات بـ "الجواذب" Attractors. هذا وتحدد كلا من التفاعلات بين مكونات المنظومة وتاريخها المسار الذي ستتبعه.

ويؤدى اتباع اول هذه المسارات الى وضع تتوقف فيه المنظومة عن التغير لتتجمد في وضع ثابت لا يتغير بمرور الزمن. ويعرف هذا الوضع في ادبيات علوم التعقد بـ "الجاذب النقطي (أو الثابت)" Point (Fixed) Attractors. فالموت، على سبيل المثال، هو الجاذب النقطي للإنسان أيا كانت طبيعة التغيرات التي يكون قد مر بها. أما المسار الثاني فيؤدي الى وقوع المنظومة فى مصيدة "التكرار المنضبط"، أى التكرار الدائم لأنماط سلوكها السابقة بدون أى تغيير حتى لو كان طفيف. أى أن سلوك المنظومة سيماثل تماما سلوك الآلة فى إنضباطه وإفتقاده لروح التجديد. وهو الوضع المعروف بـ "جاذب الدورة المحدودة (أو الدورية)"-limit- Cycle (Periodic) Attractors. وينشأ هذا الوضع نتيجة لتفاعل قوتان متضادتان داخل المنظومة. فعلى سبيل المثال "ثنائية العمل/الراحة" تعني ان يوم عمل شاق يدفع الإنسان إلى الرغبة في الراحة أو النوم العميق وفى نفس الوقت يهيئه هذا النوم ليوم عمل جديد. وهكذا تتكرر دورة العمل والراحة كل يوم بدون حدوث أي تغيرات فيها حتى لو كانت تغيرات طفيفة. ويقود المسار الثالث المنظومة الى وضع لا يختلف كثيرا عن الوضع السابق بما فيه من تكرار. ولكنه فى هذه الحالة ليس تكرارا تام الإنضباط فسلوك المنظومة فى فترة ما يشبه سلوكها فى الفترة السابقة ولكن مع بعض التعديلات الطفيفة. أي أن السلوك الدوري لا يكرر نفسه بدقة وأن تفصيلات تكوين عناصره تنتابها يد التغيير. ويعرف هذا الوضع بـ "الجاذب الكحكي" Torus Attractors. وأخيرا يؤدي المسار الرابع الى وضع تصبح فيه المنظومة فى حالة تغير مستمر وتجدد لايتوقف وتطور مستدام. وضع ليس فيه مجال لتكرار، او إعادة انتاج، سلوك سابق. فالمنظومة فى هذا الوضع دائمة الإنتقال من حالة إلى حالة جديدة تختلف دائما عن سابقتها. ويعرف هذا الوضع بوضع "الجاذب الغريب (أو الكيوتي)" Strange (Chaotic) Attractors.

وإذا كانت "الجواذب النقطية" و"جواذب الدورة المحدودة" و"الجواذب الكحكية"، بتقييدها لحرية حركة المنظومات الديناميكية، تمثل نهايات المطاف التي تستقر فيها هذه المنظومات فإن "الجواذب الغريبة"، بديناميكيتها وتجنبها للتكرار تمثل مولد البدايات ... فهو الوضع الذي يتيح للمنظومة انتاج الجديد أيا كانت طبيعته، ويساعدها على إعادة تنظيم مكوناتها لتتواءم مع مستجدات الواقع، "الانتظام الذاتي" Self-Organization.

واذا كان ما سبق يتعلق بسلوك المنظومات بصفة عامة سواء كانت طبيعية او بشرية فإن المنظومات البشرية، كالمجتمع، تمتع بخاصية تميزها عن المنظومات الطبيعية. وهذه الخاصية هي ما تتمتع به مكونات هذه المنظومة، الانسان، من وعي. فوعي الانسان بما يدور حوله يسهم في تحديد المسار الذي سيتخذه المجتمع، وفى تجنيبه المسارات التي تأخذه الى أوضاع قاتلة، "الجواذب النقطية" و"جواذب الدورة المحدودة" و"الجواذب الكحكية". فـ "الجواذب النقطية" تعني التجمد والتصلب ومن ثم الفناء. اما "جواذب الدورة المحدودة" و"الجواذب الكحكية" فتضعا المجتمع في دائرة جهنمية تحصره في في ماضي ولى فتعيد انتاجه مرة بعد أخرى باشكال متعددة لكنها تحتوي نفس المضمون. ان دور الانسان هو "ادارة الفوضى"، او كما توحي لنا رقصة التانجو: الحفاظ على "خلطة" متوازنة من "القواعد" (النظام) و"الإرتجالات" (الفوضى).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تعليق
عبد الله خلف ( 2013 / 12 / 18 - 21:22 )
تم التعليق في خانة الفيس بوك , و السبب : سعة مساحة الكتابة .

اخر الافلام

.. أول موظفة يهودية معيّنة سياسيا من قبل بايدن تستقيل احتجاجا ع


.. البابا فرانسيس يعانق فلسطينياً وإسرائيلياً فقدا أقاربهما على




.. 174-Al-Baqarah


.. 176--Al-Baqarah




.. 177-Al-Baqarah