الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المسيحية: هل هي ديانة أم مُجرّد تعاليم أخلاقية وإنسانية

صبري المقدسي

2013 / 12 / 18
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


المسيحية: هل هي ديانة أم مُجرّد تعاليم أخلاقية وإنسانية
هناك تفاسير وتعاريف عديدة في الموسوعات والقواميس العالمية، للديانة المسيحية. تتجنب البعض منها استخدام مصطلح (الديانة)، ذلك بإعتبار المسيحية مجرّد تعاليم أخلاقية، ليس فيها تشريعات وقوانين كما هي عليه الحال في بعض الديانات العالمية كاليهودية والاسلام.
وقد جاء تعريف المذهب الارثوذكسي للمسيحية بأنها: "ديانة مؤسسة بموجب تعاليم السيد المسيح الذي جاء لخلاص البشرية من عبودية الخطيئة ولجعل كل من يؤمن بها أو به حرّا من قيود الشر والخطيئة". وينظر اللاهوت البروتستانتي للمسيحية على أنها:"تعاليم أخلاقية سامية جاءت لرفع الانسان روحيا وسلوكيا". في حين أن اللاهوت الكاثوليكي المعاصر يُصنفها على أنها: "ديانة تاريخية تعبر عن ظهور الله في التاريخ في شخص إبنه يسوع المسيح الذي يريد أن جميع الناس يخلصون ويبلغون الى معرفة الحق". وأما المصادر العلمانية غير المسيحية فتعدّها على أنها: "ديانة سماوية، ويسوع المسيح، المعلم الأعظم والشخصية الأساسية فيها".
مع تعاريف أخرى كثيرة توضح وجهات النظر الكنائسية المختلفة، التي تجمع على حقيقة واحدة وهي: "أن المسيحية ديانة إلهية وإنسانية لكون مؤسسها يسوع المسيح، (إله وإنسان معاً). أو هي تعاليم إلهية تدور حول شخص حيّ هو يسوع المسيح تجسّد في إنسان من مريم العذراء".
ويجب أن لا ننسى، على ان المسيحية، تتضمن طقوساً وأنظمة ووصايا وعقائد ومراسيم مُلزمة ونصوصاً مُقدَسة، وهي كلها من متطلبات المجتمع الذي تعيش فيه المسيحية، ويعيش فيه المسيحيون. فالافضل إذن إستخدام مصطلح (الديانة) للتعبير عنها، لأن المصطلح مُستخدم في كل التجمعات الروحية في العالم، التي لها دلالة تاريخية وتتطلب وجود نظام رموز يعمل في الجماعة ويُثير لديهم حوافز قوية وعميقة ومستديمة عبر صياغة مفاهيم روحية تؤدي بالانسان والمجتمع الى التماسك والتعاون المشترك. ولما كانت المسيحية فيها كل تلك العوامل ومعروفة بتاريخيتها وعطاءها وروحيتها، فمن الممكن ومن المعقول إذن، القول انها إضافة الى كونها طريقة حياة جديدة، فهي أيضا ديانة كغيرها من الديانات العالمية.
تذكر الاناجيل بأن المسيحية جاءت لترفع البشرية الى الله ولتسمو بهم. ولذلك فهي تبقى في روحها وجوهرها، تعاليم أخلاقية وسلوك روحي داخلي تهتم في الأغلب بالقلب وبتغييره من الداخل، أكثر مما تهتم بالخارج من طقوس تطهيرية خارجية كما في اليهودية التي تفرض الوضوء بالماء قبل الصلاة. فالماء الذي كان يغتسل به اليهود ويُعمّد به يوحنا المعمدان، يُطهّر الجسد فقط، وأما الروح الذي تتكلم عنه المسيحية، فهو لتطهير القلب من الخطايا. والغاية من المعمودية في المسيحية إذن هي للتطهير من الداخل ولتجديد الحياة الروحية. وما تقوم به اليهودية من ختان للاطفال الذكور هو تطهير جزء زائد من جسم الذكور فقط، بإزالة جزء من الغرلة. ولكن الختان في المسيحية يختلف إختلافا كلياً وجوهرياً، إذ هو تطهير للجسم كله. ويجب الإشارة على أن التطهير المسيحي لا يقتصر على الذكور فقط، بل يشمل الذكور والإناث معا في ما يُسمى بالولادة الجديدة. والغاية الرئيسة منه هي التغيير من الداخل. فمن يُغيّر داخله فإن التغيير يشمل خارجه أيضاً. ولكن إذا غيّر الانسان خارجه فقط، فالتغيير قد لا يشمل داخله بالضرورة. ولهذا يسمي الكتاب المقدس المسيحيين بالقديسين. ومعنى ذلك أن المسيحي المُعمّد يكون قديساً، إذ يصبح إبناً أو بنتاً لله. وتتطلب هذه البنوة لله، الإقتداء بالمسيح يسوع وبأعماله. ولذلك لا يمكن للمسيحي بعد أن يؤمن إيماناً أن يقف موقف اللامبالاة تجاه السلوك والقيّم التي يدعو اليها المسيح. فلا تكفي إذن ممارسة الطقوس مثل الصوم والصلاة والعبادات المختلفة، بل يتطلب من المؤمن التشبه بالمسيح والنظر الى ذاته والسعي الى الكمال الروحي المطلوب، والتسليم له كلياً، والتزود بروح جديدة ملؤها المحبة والتواضع والتضحية.
فالمسيحية إذن لم تأتِ لتحط من قيمة الانسان وطموحاته، بل لتحفظ كرامته وكرامة الانسانية. ولم يأتِ يسوع المسيح الى العالم ليُدين العالم، بل ليرفعه ويُعطيه الحياة الجديدة. ولذلك يبقي المسيح أملاً للبشر، كل البشر، في التغيير نحو الأحسن كما يقول الكاتب (هانس كونغ) في كتابه (هوية المسيحي) لمترجمه الاب صبحي الحموي اليسوعي ص 13: "المسيح أمل للثوار والمصلحين، يسحر رجال الفكر والبسطاء، وينادي الموهوبين وقليلي المواهب، ويحث على التفكير علماء اللاهوت والملحدين على السواء". ويضيف الكاتب في المصدر نفسه قائلا: "ان المسيحية ترتبط بشخص المسيح وقد تستطيع فصل مذهب عن صاحبه أو نظرية عن واضعها ولكنك لا تستطيع فصل المسيحية عن المسيح، لأن تعاليمها وعقائدها تشكل وحدة واحدة مع مصيره وحياته وموته الى درجة أن الشخص والقضية يتطابقان تماماً في يسوع الذي عاش على الارض وبالأحرى في يسوع الذي دخل في حياة الله".
يظن البعض خطأً بأن المسيحية هي ديانة الغرب والغربيين أو هي ديانة الجنس الاوربي مع أنها إنطلقت من أورشليم(القدس) في اليهودية(فلسطين) وترعرعت في ربوعها وإرتوت من مناهلها وجداولها الغنية. ولعل مرجع هذا الاعتقاد يعود الى سيادة المسيحية في أوروبا ولقرون عديدة، مع أن المسيحية نشأت منذ بدايتها ديانة أممية، ولم تنشأ ديانة قومية، إذ لم تحصر نشاطها التبشيري في طائفة معيّنة، ولم توجه رسالتها لشعب واحد فقط، بل وجهت رسالتها لكل الشعوب والامم. والمسيح نفسه وإن كان إنساناً شرقيا في ثقافته، إلا أنه كان أممياً وعالمياً، إذ لم يوجه خطابه لليهود فقط أو لجماعة ضد جماعة أخرى، بل للإنسانية جمعاء. ولذلك خاطب من خلال تعاليمه كل الشعوب البشرية، وخرج من نطاق الفكر اليهودي الضيّق في رسالته الى النطاق العالمي الواسع، وعُرف بكونه عولمياً وثورياً من الدرجة الاولى، ومُجدّداً بإمتياز. فكل ما جاء به من تعليم، وإن كان تتمة للعهد القديم، إلا أنه كان جديداً بنفَسه وروحه وجوهره.
وتؤكد العقائد المسيحية على أن المسيحية ديانة الإله المُتجسد، الذي جاء لكي يدعو البشرية اليه من خلال البشارة الحيّة، التي هي منبع كل حقيقة، ومصدر كل نظام خلقي بشر به يسوع، ووضع أسسه للبشرية جمعاء، وأمر رسله وتلاميذه ومعاونيهم وأتباعهم المؤمنين من بعدهم، بتطبيق وصاياه وتدوينها، كي تبقى ذخراً حيّاً للعالم أجمع، والى منتهى الدهور.
ويتبيّن للمطلعين على المسيحية وكتبها المقدسة على أن المسيحية لا تستند في تطبيقاتها العملية على ما يصنعه الانسان تجاه الله، بل على ما يصنعه الله تجاه الانسان، وعلى أنها لم تأتِ الى العالم لكي تعمد البشر فقط، وإنما لكي تغير البشر نحو الأحسن، لكونها ديانة إلهية وإنسانية معاً. والمسيح يسوع مؤسسها هو (الإله الكامل والإنسان الكامل)، الذي جسّد كلامه في محبته وأعماله ومعجزاته، التي لا تزال حيّة في الجماعة التي تؤمن به. فهي بحاجة ماسة الى أن يُنيرها في أمور الحقائق الدينية والأخلاقية، وأن يجعلها معروفة لدى الجميع في تدبير إلهي، أبدي غير زائل زرعه (المسيح) في الكنيسة، "وهو تدبير لم يتم الإفصاح الكامل عن مضمونه وسرّه ولكنه سوف يتم الكشف عن فحواه الكامل عبر الاجيال"(التعليم المسيحي الجديد). ولذلك تحمل الكنيسة (عروس المسيح) هذا التدبير وتعده أمانة مقدسة عليها أن تحمله معها في كل مكان، فهي إذن مسؤولة من نشره بين الناس الى أقاصي الأرض وأبواب الجحيم لن تقوى عليها. ويثبت التاريخ والتقاليد الكنسية على أن الكنيسة قاومت في الحقيقة، كل أنواع الإضطهادات عبر تاريخها الطويل، ولا تزال تعاني في كثير من المناطق، إذ تواجه المنع والاقصاء والتشريد، ولكنها صمدت وتصمد بقوة سيّدها الفادي، الذي لا يمكن أن تذهب تضحيته عبثاً وهباءأ.
وكان للروحية المسيحية وأخلاقياتها تأثير كبير على المسيرة البشرية منذ القرن الميلادي الاول. إذ إتجهت وجهة دينية روحية سامية أساسها الكتاب المقدس والعمل بما يحض عليه من التسامي بالروح والتحلي بالفضيلة، ونبذ الرذيلة والسعي في طريق حب الله والقريب. ولا تزال الاخلاقيات المسيحية تنتشر بين الأفراد والشعوب، وتؤثر إيجابياً على الأخلاقيات البشرية، التي لها صداها العميق بين البشر، التي تبقى ينابيع حيّة، تنهل منها المجتمعات البشرية الى منتهى الأجيال.
صبري المقدسي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قوات الاحتلال تخرب محتويات منزل عقب اقتحامه بالقدس المحتلة


.. بلينكن: إسرائيل قدمت تنازلات للتوصل إلى صفقة ونتنياهو يقول:




.. محتجون أمريكيون: الأحداث الجارية تشكل نقطة تحول في تاريخ الح


.. مقارنة بالأرقام بين حربي غزة وأوكرانيا




.. اندلاع حريق هائل بمستودع البريد في أوديسا جراء هجوم صاروخي ر